عرض مشاركة واحدة
  #100  
قديم 13/04/2020, 00h37
عاشق الموسيقى عاشق الموسيقى غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:46
 
تاريخ التسجيل: novembre 2005
الجنسية: عربي
الإقامة: جزيرة العرب
المشاركات: 2
افتراضي رد: السنباطي الوهابي


تحية طيبة للجميع.

أحب أن أوضح نقطة مهمة قبل أن أدخل في الموضوع المطروح، وهي أن الكثير من الناس للأسف يشعر بأنه من الواجب عليه أن ينحاز لطرف دون الآخر، بل في معظم مقاطع اليوتيوب مثلاً أجد تلك التعليقات الغريبة من نوعية المديح المبالغ فيه لصاحبه الفنان الفلاني وأنه أفضل وأعظم وأفدح فنان في التاريخ وأنه الفنان العملاق وغيره أقزام دخلاء لا يفقهون شيئاً ولا يعقلون!! وقد يقوم بسب وشتم المنافس بأقذع الألفاظ وأحط الأوصاف!!
وأنا هنا لا أقصد مداخلات الإخوة القيمة في هذا الموضوع بل أقصد الحالة التي نراها غالباً عند عقد أي مقارنة بين علمين.

لابد أن نتحلى بشيء من المنطق والعقلانية والضمير في حكمنا وآرائنا وأن لا تعمينا العاطفة والتعصب ولا يجرمننا شنآن قوم أن لا نعدل!!

أما عن موضوعنا الحالي فما أجمل الكلام حين يكون عن اثنين من أعظم ما جاد به الزمان من موهبة فذة وفكر راقٍ وخيال خصب وصوت بديع وتواضع جم، فالحديث عنهما وعن فنهما لا يمل، وكلٌّ له رأيه الشخصي وذوقه الخاص، ولكن هناك شيء اسمه حقيقة، فالرأي لا يلغي الحقيقة، فمن حقي مثلاً أن لا أتذوق ألحان سيد درويش (مثلاً) ولكن ليس من حقي أن أقول بأن عبدالوهاب هو رائد الغناء المسرحي، ومن حقي كذلك أن أعشق السنباطي ولكن ليس من حقي أن أجعله رائداً لتلحين القصائد وأغفل رائدها الحقيقي وهو عبدالوهاب منذ ان لحن قصيدة أعجبت بي التي سبقت عصرها وأرست قواعد تلحين القصيدة الحديثة لكل من جاء بعده وتأثر به ولا شك، وهذا أيضاً لا يمنع ولا يتعارض مع اعترافنا وتأكيدنا بأن السنباطي بنى وطور وشيد ذلك الصرح (أعني تلحين القصائد) حتى غدا صرحاً شاهقاً بديعاً لا يبارى.

بالنسبة لي أستطيع أن أتذوق وأستمتع بالجندول وبفجر وبمضناك وبسلو قلبي وبكليوبترا وبنهج البردة وبجبل التوباد وبالنيل وبدعاء الشرق وبالفجر الجديد، وبكل ما أبدعه هذان العملاقان اللذان لا يجود بأمثالهما الزمان كثيراً إلا أن يشاء الله.

قد أقول كما قال غيري من نقاد أو مهتمين بالموسيقى بأن الأطلال تعتبر أهم عمل موسيقي في القرن العشرين، وقد أقول بأن حديث الروح لحنها رجل من كوكب آخر!! وقد أقول بأنني حين أستمع لموسيقى ذلك الرجل فأنا أسبح في ملكوت ما بين السماء والأرض وأتجرد حينها من الشعور الحسي إلى عالم ملائكي روحاني، وقد أتحسر كل ما سمعت أو شاهدت عملاً أو لقاءً له وأتمنى لو أنني عشت طويلاً في زمنه أو عاش طويلاً في زمني!! وقد أتساءل كيف لعملاق مثل هذا أن يتجاهله إعلام بلده بشكل عمد أو شبه عمد؟!! سبحان من أبقى فنه وأمات من تجاهله!!

كل ما سبق من حقي أن أقوله ولا يملك أحد أن يصادر رأيي أو ميولي، ولكن ليس من حقي أن أقلل أو أزور حقيقة تاريخية تقول بأن فترة العشرينيات قام عبدالوهاب بثورة موسيقية قفزت بالموسيقى وانتشلتها من عصر التطريب الجامد إلى عصر التعبير المطرب، ولن أغفل دور سيد درويش الذي لولا إبداعه لما تمكن عبدالوهاب ولا غيره من ما عملوا كما أسلفت.

فلنلقي نطرة على قصائد العشرينيات لعبدالوهاب والقصبجي وزكريا وأبو العلا فسنرى أنها جامدة تعتمد على الاستعراض الصوتي على حساب الاستعراض اللحني والموسيقي، وهنا قام عبد الوهاب بتطوير قالب القصيدة كما الموال والمونولوج والتأليف الموسيقي، فلحن قصيدة أعجبت بي المتطورة التي ولا شك جذبت اهتمام كل الملحنين ومنهم السنباطي الذي كان حينها لا يزال في بداية تجاربه اللحنية، ثم أتبعها بعدة قصائد اتضحت فيها قدرة عبدالوهاب ونضجه وتمكنه من صنعته الموسيقية التي فتح بها الباب على مصراعيه لزملائه ومنافسيه والبناء على ما وصل إليه هذا الموسيقار الفذ، فكانت جفنه علم الغزل وتلفتت ظبية الوادي وسهرت منه الليالي وعندما يأتي المساء وأوبريت مجنون ليلى الذي يعتبر بلا شك من علامات وقمم الموسيقى العربية، ثم الجندول والكرنك، كما لا نغفل مقطوعاته الموسيقية البديعة كمقطوعة حبي السابقة لعصرها والتي فتحت آفاقاً واسعة لكل الملحنين، فحينما تريد معرفة مدى قامة هذا الموسيقارالفذ فارجع إلى مرحلة المنافسة مع أم كلثوم خلال العشرينيات ومروراً بمرحلة منافسة الأفلام في الثلاثينيات والأربعينيات وانظر إلى هذا الرجل واقفاً وحده في مقابل ثلاثة فطاحل يقفون في الجانب الآخر ضده، فتجده يلحن الطابع الشرقي والغربي والراقص والمرسل والموال والقصائد والثنائيات والتأليف الموسيقي بكل اقتدار وكأنه كل أولئك الملحنين في رجل!!!

ورغم وقوفه وحيداً في المنافسة المحتدمة حينها تعتبر ألحان أفلام عبدالوهاب متفوقة ومتطورة وأكثر جذباً للنقاد والجمهور حينها من ألحان أفلام أم كلثوم باستثناء فيلمي سلامة وفاطمة التي استطاعت ألحانها أن تقف نداً لألحان موسيقار الأجيال بفضل براعة زكريا في اللون البدوي واكتمال النضج الموسيقي للقصبجي وزكريا والسنباطي في فيلم فاطمة، وتأثر الملحنين بما يدور حولهم في الساحة.

فالإبداع الفني هو عملية بشرية تراكمية، ولا بد للفنان أن يتأثر بمن حوله وبمن سبقه ولولا تلك الحقيقة لما تطور الفن أداءً وإبداعاً، ففي مجال السينما مثلاً لننظر كيف كان الأداء والإخراج في بداية ومنتصف الثلاثينيات ولننظر كيف أصبح في منتصف ونهاية الأربعينيات، نجد أن المخرحين والممثلين قد تطور أداؤهم بشكل تدريجي وجماعي بسبب تراكم التجارب والخبرات والإبداع، وكذلك في المجال الموسيقي ينتج المبدعون عشرات الأعمال الموسيقية وكل واحد منهم يبدع فكرة جديدة ويتلقفها زميله ويستحسنها أو تنساب في ذاكرته وخياله ويبني عليها أفكاراً جديدة أخرى وهكذا حتى نجد أننا خلال فترة وجيزة قد تغير وتطور ذوقنا الموسيقي بشكل جماعي، ولو افترضنا أن ملحناً واحداً ولنقل محمد القصبجي كان موجوداً لوحده في الساحة فلن يتطور كما في الواقع وسوف يتوقف به الزمن عند لحن ليه تلاوعيني (على جماله) ولن يصل إلى إبداعه في لحن رق الحبيب في غياب المنافسين الذين يؤثرون به ويؤثر بهم، ولتوقف رياض السنباطي عند أسلوبه وقدرته عندما لحن صلح الحبيب ولم تتفجر موهبته وإبداعه في الشوقيات وغيرها، هذا عدا عن جو التنافس الحميم بين العمالقة وترقب كل جديد منهم.

أما مسألة أن السنباطي وهابي أو من مدرسة عبدالوهاب (كما ذكره المذيع العربي قي لقاء مع عبدالوهاب في بداية السبعينيات ولم ينفه الأستاذ وقال بدبلوماسية ودهاء: اللي تحسبه!!) فلا أرى هذا ولا أقره، فلكل منهما أسلوبه ومدرسته حتى وإن كان عبدالوهاب يسبق السنباطي بعدة سنوات، وحتى لو وضعنا بعين الاعتبار استعانة عبدالوهاب بالسنباطي كعواد قدير ليعمل في فرقته أثناء تسجيل أغاني فيلم الوردة البيضاء، فحينما نستمع لأعمالهما ليس هناك ما يوحي بذلك بشكل واضح.

عندما تكون المنافسة بين هذين القامتين يصعب علي الاختيار بينهما، وقد كنت مهتماً بقراءة كل كتب ومقالات الناقد الكبير الأستاذ كمال النجمي وكانت بيني وبينه لقاءات وحوارات حول الموسيقى والغناء العربي فكنت أحتار في من يفضل بينهما !!

أخيراً أقول وأعترف.. بأني أحب صوت عبدالوهاب الذهبي وألحانه الشرقية العريقة والمتطورة السابقة لعصرها ودهاءه الموسيقي، وأحب أصالة السنباطي وعراقته وشموخه وعبقريته وكبرياءه الموسيقي، ولا أرى أي تناقض أو صراع في داخلي يجعلني أفضل أو أميز واحداً عن الآخر، وعلى غرار ما قال رياض رحمه الله بأننا نحمد الله أننا عشنا في زمن عبدالوهاب وأم كلثوم، فأقول: أحمد لله إذ وصل إلينا إبداع وسحر الأستاذين الكبيرين ولم يندثر أو يضيع.
رحمهما الله رحمة واسعة.

رد مع اقتباس