عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 09/04/2009, 21h21
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

أبو حيان الدمياطي


الجزء الأول

0000في سياحاته في بحار المعرفة, وأيام درسه الجامعي بكلية الآداب في جامعة القاهرة في ساحات مكتباتها وردهاتها وقاعاتها وشيوخها, وجد الدمياطي عجبا وأدرك جللا حين فجأه وراعه ذلك الفيلسوف المسلم الفذ,أبو حيان التوحيدي, ورويدا رويدا توسد منه أقطار نفسه واستبد بقلبه بعد أن سلب لبه واسترق عقله فشغله عن عداه ونهره عمن سواه, لقد بهره التوحيدي,عبقريا شامخا لا يعبأ بوزير أو أمير, ولا يكترث لمهيب أو جليل,طموحا,لا تثنيه كئود نجاد أو سحيق وهاد,فخورا يري لنفسه من السمو والتعاظم والعلو والمكنة مالا يراه فيه غيره, متعاليا لا ترغم أنفه لراغم وإن علا ولا لجبار وإن ذاع سؤدده,واستقر توسده 0

000انبهر الدمياطي بازدراء التوحيدي لعلماءُ وفلاسفة وكتاب ممن عرف فضلهم واتبعت خطاهم ,لكنهم عند التوحيدي لم يكونوا غير طلاب علم يجهدون فلا يدركون فيدعون ويتزلفون,وحين تعوزهم الحجة وتلجئهم الضرورة يستعينون علي عجزهم بالتملق والمداهنة والتصنع والتجاهل حينا والتعالم أحايين عددا ,ولايرعوون عن تصعير الخدود وتهيئة الأقفية وترويضها إذا اقتضت الحاجة أو استدعي الموقف ,الأمر الذي ينأي بنفسه عنه كل ذي نفس شامخة وباع طويل وعطاء وفير جزيل,,أما التوحيدي فقد أعجزه كبرياء نفسه وعبقرية عقله عن أن يتكيف مع واقع مريض ومجتمع سقيم تروج فيه بضاعة أدعياء العلم والمنافقين والمتوسلين والوضعاء ودناءة السوقة وتسفل السفلة,واجتهد ساعيا,باحثا عن مكانة وعلياء رأي نفسه أولي بهما وأجدر, فأجهده بحثه وخاب فأله ,وانكفأ أمله0

000 تأجج قلب أبي حيان حين اصطرعت حاجات نفسه مع كبريائه الذي وقف عقبة كأداء أمام طموحه ودأبه لتغيير واقعه المتدني وشح حالته وفاقته وازورار مجالس الوزراء والأمراء والوجهاء عنه, ومهيلا جالت حاجات نفسه الدنيا,الملحاحة القاسية جولتها وصالت صولتها , فشرعت قدماه تتحسس خطواتها الأولي بطيئة متثاقلة مترددة إلي تلك المجالس بعيد أن كبحت جماح تعاليه,وجنوح عقليته الفذة وأراقت كبرياءه المستكن الأصيل0

000كان التوحيدي لا يملك سبباً لرزقه وسبيلا لثرائه وانتزاع مكانته المهدرة الضائعة,سوي عبقرية الأديب وبحار من المعرفة خاض غمارها
وطابت له ريحها فامتاح ما وسعته قدرته من كنوزها وللآلئها ودرها، ,لقد أثخنته حاجاته فاضطر تحت وطأة الضرورة وغلظتها, إلي شيء من مداهنة أصحاب التوسد والنفوذ والثراء, سعيا لنوالهم وعطائهم, لكنه لم يدرك من ذلك شيئا مما كان يصبو إليه بعد أن أقصي أنفته ربيبة كبريائه, وأراق’مكرها,آملا ماءها ليفسح ساحات نفسه أمام مقتضيات الحاجة المذلة , لكن تلك النفس الهادرة سرعان ما استعرت نارها واندفعت حمم بركانها, حين أيقنت أن بحار التدني لا تدرك,ومعين فنونها وصورها لا ينضب ,وأغوارها لا تسبر, ونهم سادتها لا يشبع ,بعد أن أغراهم بذلك امتطائهم الآمن المستقر لظهور الذين خبروا عباب الذل وطابت لأشرعتهم ريحها,واستكنت نفوسهم واطمأنت لها وبها, فانتفضت نفسه, برمة ناقمة ثائرة ساخطة, فاستغربته مجالس النفاق ثم لفظته,فتقاذفته أقدام وأحذية المتنفذين ونبذته ساحات المتوسدين إلي العراء وهو سقيم, ,فأوسعته سخرية الساخرين من المستمرئين ,الراقصين, اللاعبين علي كل الحبال,الآكلين علي كل مائدة , الموطئين أكنافهم عن ذلة لازمة ملازمة ووضاعة متأصلة ,اللاعقين لكل حذاء,الذين حسدتهم تلك الأحذية ونفست عليهم انتزاعهم لدورها واستئثارهم بمكانتها ومواضعها, فاستعرت بدورها غيرة وحقدا وغلا, جراء ما لا يباري من مرونتهم ونعومتهم وطاعتهم واستخذائهم,واستنفرت قوتها واستنهضت غلظتها حين كان ممتطوها يوسعون بها أدبارهم ووجوههم ,وأمعنت فيهم حانقة غائلة ,لكنها ارتدت كسيفة خزية حسيرة’, أمام ظاهر رضاءهم ودائم استعدادهم وزائف ابتساماتهم0

000لقد صرع بخل البخلاء ونفاق المنافقين وسخائم الحاسدين, أحلام التوحيدي وحاجاته,فزاده ذلك ضراما إلي ضرام وإباقا إلي إباق, وما إن لفظته ساحاتهم حتى انبري يذم فعالهم ويلمز أخلاقهم ويهزأ بسلطانهم ويستقصي عوراتهم ويقتفي زلاتهم ونقائصهم ويهتك أسرارهم ويستبيح مستكنات نقائصه0

000أوغل التوحيدي ففعل بهم الأفاعيل وأهدر كراماتهم واقتص من تعاظمهم,وظن أنه ناج بذلك, لكنهم لم يكفهم أن أنشبوا فيه مخالب إعراضهم, فتهدده ماحق خطرهم, وأدرك عارفوا قدره فداحة ما ينتظره,وهول ما يتلمظ له من شر وكيد ,فآثر فطناؤهم السلامة , فأعرضوا عنه,ونأت عنه ساحاتهم ووجوههم ,واستبق أراذلهم إلي كيده تزلفا وتوددا, وأشفق عليه من اكتوي بمثل ما اكتوي به,لكنه اصطبر علي ذلك فأضمر غيظه,ووأد حنقه,وصرع تمرده ,لكنه اعتبر حنق التوحيدي وغضبه وثورته وتمرده صرخة لأمثاله من المظلومين وبوح بأنات المكلومين,

000مضي التوحيدي طريدا وحيدا منبوذا جائعا,لا يدري أذكي أريب هو أم غبي مغرور؟ واشتعلت نفسه واتقدت مستكناته فصبت لظاها علي أروع ما فاضت به عبقريته وجادت به قريحته من ذخائر مؤلفاته فأشعل فيها النار ضنا بها أن ينالها ويفيد منها ,مجتمعات وأقوام لم ير منها إلا آيات الجهل والازورار والإعراض والاحتقار والإذلال ,وأفلت من هول ذلك المصير بعض مما ازدانت به القريحة العربية وتباهت واستطالت به الحضارة الإسلامية كالإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل وغيرها ,لتترك مأساة التوحيدي وكل توحيدي جذعة متقدة دائمة لاتريم,وحشا لا فكاك من أنيابه ومخالبه,وداءُ عضال لا برء منه ولا شفاء,وسوسا ينخر فلا يشبع ولا يقنع في عقل الأمة وروحها وهيكلها رغم اختلاف الأماكن وتبدل الوجوه وانصرام الأيام وفيض الدروس والعبر وافتضاح الخلل وعموم الزلل0

000لم يفت ذلك في نفس الدمياطي ولم يوهن حبه وإعجابه بأبي حيان التوحيدى ولم يألو صعلوك العرب وثائرها الأشهر عروة بن الورد جهدا في عون التوحيدي, وإبقائه علي مكانه ومكانته في نفس الدمياطي,وكان لعروة دالة ومنزلة لا تنافس في قلبي التوحيدي والدمياطي, الذين جمعهما إعجاب لا يحد بابن الورد حين صرف نفسه وجهده ولم يدخر وسعه وأنفق عمره,علي الإقتصاص للمغبونين المظلومين من ظالميهم ومستغليهم وانتزاع ما أمكن له من أموالهم وعروضهم وأمنهم ,ليعيدها إلي مستحقيها وأهلها,وعلي ذلك ذاع شعره الذي ناء بثقل نقمته وسخطه علي مجتمعه وبيئته وأدرانهما فغدا شاعرا فذا وصعلوكا فريدا في تاريخ شعراء العربية ومتمرديها عبر تاريخها الطويل ,لقد أ’خذ الدمياطي مثلما أ’خذ التوحيدي بعروة الناقم الثائر الهازئ وهو يقول:


ذريني للغنى أسعى فإني000 رأيت الناس شرُّهم الفقير‏


وأبعدهم وأهونهم عليهم0000 وإن أمسى له كرمُ وخِير‏


ويُقْصيه النديُّ وتزدريه 00000حليلته وينهرُه الصغير‏


وتَلقى ذا الغنى له جلال00000 يكادُ فؤادُ صاحبه يطير‏


قليلٌ ذنبه والذنب جَمٌّ 000000ولكنّ للغنى ربّ غفور


000لم يألو عروة جهده فألف بين قلبي وعقلي الرجلين, شريكي بؤسه وعوزه,ورفيقي تمرده وحنقه, فتوحدا به ومعه في الرأي والرؤية,وجمعهم الموقف والمسلك والثورة علي نكد الدنيا وتسيد الأراذل وانزواء العباقرة الشوامخ,وزاد يقين الدمياطي بما ذهب إليه عقله واطمأنت نفسه من نهج ,حين أبصر جوهر الإسلام ونصاعة رؤيته وسمو فكرته حيث لا يتمايز الناس بانتماء ولا محتد ولا عرق وإنما يتمايزون بتقواهم ودورهم فلا عنصرية مقيته ولا استعلاء أصم أجوف ,بهره توسد بلال وأبو ذر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وعمار بن ياسر في قلوب وعقول الرسول والمسلمين مثلما توسد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن معاذ ,وهو ما لم يدرك قليله أثرياء قريش وسادتها ,ومثلما راع زمن الرخاء العباسي أبا حيان التوحيدي ,ارتاع من قبله عروة ابن الورد زمن الجاهلية ,راعت الدمياطي سبعينات القرن المنصرم روعا بقيت أسبابه شامخة حاسرة,جاسرة, وقحة,لا ينال منها نائل ولا تكترث لطائل من فكر أو طرح ولا تتغير أو تتبدل وإنما تسرف في غيها ونزقها, فمريدوها دائما كثر وفاهموها والسالكون طريقها يزيدون ولا ينقصون ويدأبون لديدنهم ومذهبهم ولغتهم ولا يرعوون ولا تستثيرهم أو تنغص أفكارهم وقلوبهم قيمة ,ولا تنكأ ضمائرهم شرعة مهما كانت أو منهجا وإن علا,فبدا التدني والتزلف والتملق والتنكر والجحود والذاتية المفرطة القاصرة المتنكرة ,والتعالي الذي إلا إلي إجادة الإنحاء والاستخذاء, والرضي واستحباب الإمتطاء,ومنافسة الأحذية,لقد أصبح ذلك كله ثقافة مجتمع وسمات جمهرة شخوص الوطن0

000في ساحات آداب القاهرة ,تواترت تساؤلات الدمياطي وحواراته مع أساتذته وزملائه عن أبي حيان التوحيدي,وذاع بينهم نزوعه السافر إليه واقتفاؤه أثره وتمنطقه بمنهجه ,وباحت فأفصحت إيماءاته إليه واحتجاجاته بأقواله ,حتي لقبه بأبي حيان الدمياطي, أحد أساتذته ممن أكثر لجاجتهم وأسرف في جدالهم انتصارا لشخص التوحيدي وثقافته ورؤيته, فشاع ذلك بين أساتذته وأشياخه ورفاقه وزملاؤه ورضيت به نفسه, فاستقرت تلك التسمية في العقول واعتادتها الألسنة,ومثلما كان التوحيدي، الذي لم يكن يملك سوى أدبه وعلمه, غاضباً علي عصره، ساخطاً على أهله ,ناقماً على واقع فاسد يعلي المنافق ويزري بالشريف,حتي لو كان عبقريا فذا, كان الدمياطي يسير علي درب رفيقه ونهجه,فلا يكاد يبرحه, لقد غدا ثورة مستعرة ، وتمردا لا يريم.

000ذهل ابو حيان الدمياطي حين صدمته نهاية التوحيدي وما ساقه تبريرا لحرقه نفائسه حين قال (كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. لقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة، والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم).

000علي أن الدمياطي الذي رأي مآل صاحبيه وعاقبة أمرهما التي كانت خسرا وضيعة, أوعزت له نفسه ووقر في قلبه واستقر في عقله أن رفيقيه قد تكلفا عمرهما ولم تفلح عبقريتيهما وهمتيهما وعلو نفستيهما في قضاء حاجات حياتيهما والرقي بهما إلي ما يرونه جديرا بهما وأولي لهما من المكانة والتوسد والثراء والرفعة ,وراعه مصيرهما بعد أن أشفق علي ولوجوهما ديارا غير مرحبة ولا آبهة لهما أوبهما,فعل ذلك بنفس وعقل أبي حيان الدمياطي الأفاعيل وخيل له غرور عقله ومرونة لازمة مسعفة ملبية نداء حاجته ومقتضيات شدائده ,وتأقلم مع واقعه ,ربي ودرب عليهم, أنهما كان عليهما أن يدورا مثلما دار الناس وأن مآلهما وليد عجز عن فهم وقلة حيلة وانغلاق عقل وبطيئ فكر, واستقرت رؤيته واطمأنت نفسه إلي ما ذهبت إليه وانتوي أمورا ومنهجا في مقبلات أيامه يثبت لنفسه فيه أنه أحصف عقلا وأسع خبرة وأكثر دربة وأقدر مهارة,ليصل إلي ما تطمح إليه نفسه من توسد وتمكن وغني ,وبعد ذلك فلتذهب الأكمة وما وراءها إلي الجحيم0 --الي القاء مع الجزء الثاني
رد مع اقتباس