عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24/05/2009, 05h23
الصورة الرمزية MUNIR MUNIRG
MUNIR MUNIRG MUNIR MUNIRG غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:27439
 
تاريخ التسجيل: mai 2007
الجنسية: Egyptian American
الإقامة: الولايات المتحدة
العمر: 84
المشاركات: 568
افتراضي الموسيقار العظيم «محمد القصبجى»....و صمته العجيب

محمد القصبجى.. ما معنى صمته العجيب
د. سيار الجميل روزاليوسف May 2009




كنت قد وعدت قرائى الأعزاء فى مقالى الأسبوع الماضى، أن أتوقف قليلاً عند الموسيقار العظيم «محمد القصبجى».. ذلك المبدع المصرى الأصيل الذى كان لغزاً محيراً، ولما يزل صندوقاً مقفلاً من الأسرار، وخصوصاً بعد أن أوقف إبداعه، وصمت عن قصد وسبق إصرار! وكنت قد تعرضت لقضيته الإبداعية فى مقال لى كنت أرد فيه على الأخ الدكتور «جلال أمين» بعنوان «سيكولوجية الخوف من نقد الكبار» (الهلال، يوليو 2000) . هنا، أريد أن أتوغل فى فلسفة هذا الرجل العبقرى الذى أعتقد أنه كان فلتة زمان رائع، وسيندر أن يتكرر مثله، وسيسأل التاريخ عن أسراره التى كان يخفيها؟ عن سر صمته الرهيب الذى جعل الدنيا كلها تتساءل عنه، وهو يشخص بهيئته الساكنة وهو يعزف العود وراء الست.
تساؤلات الزمن كان «محمد القصبجى» قد طواه النسيان منذ رحيله، ولما بث مسلسل «أم كلثوم»، تليفزيونيا قبل قرابة السنوات العشر، فقد تذكره الناس القدماء، فى حين لم يعره الجيل الجديد أى أهمية.. بدأت أستعيد أسئلتى عن أسرار هذا العملاق.. ولماذا غاب اسمه طويلاً على مدى خمسين سنة أو أكثر سواء فى حياته أو من بعد مماته.. ببساطة متناهية: كان القصبجى قد غُمِطَ حقه، وتاريخه، وإبداعه طويلاً على امتداد خمسين سنة.. وإن فرصته التى وجد موهبته وصناعته فيها قد اختفت عن المسرح الثقافى، مذ اختفى ذلك العصر الحر الخصب الجميل الذى ازدحمت فيه الطاقات والممارسات والحركات والمنتجات الرائعة، ليس عند اسم معين، أو أسماء محددة، بل عند نخب عدة كانت لها خصالها المتميزة فى جميع مجالات حياة النهضة والإبداع. إن قريحة القصبجى لم تنضب أبدا، كما ادعى بعض المحللين، ولكن الحياة الحرة التى كان القصبجى يعايشها قد نضبت! لقد وجد الرجل نفسه فجأة على أرضية يابسة، هى غير تلك التى كان يتحرك فوقها فى الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين! وإذا قال قائل: إن غيره بقى مستمراً فى عطائه وإبداعه أمثال: رياض السنباطى، ومحمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش وغيرهم، فإننى أقول: إن من يتوغل فى أعماق القصبجى، سيجده مختلفا جداً عن أقرانه فى الحس الاجتماعى والتفكير الموسيقى، إذ لا يمكن للرجل البقاء ضمن حيز واحد فقط من مقامات السلم الموسيقى الشرقى على غرار ما فعله السنباطى الذى كان ينوع ألحانه ضمن حيز مقام واحد من ذلك السلم.. فضلاً عن أن القصبجى لم يقتبس أى لوازم موسيقية عن غيره من المؤلفين الموسيقيين العالميين كالذى فعله كل من عبدالوهاب وفريد وغيرهما.. لم يفعل القصبجى ذلك ليسخرها عربياً، فتذيع وتنتشر إعلامياً وإبداعياً.

ذروة فى الأعماق كان القصبجى وأعماله شاهدة على مقدرته العليا على صياغة لوازم موسيقية أصيلة، وقوية، وصعبة.. فضلاً عن إبداعه فى بناء جملة ألحان جديدة ومتماسكة مطوراً فى الألحان العربية ومجدداً فى الموسيقى الشرقية. وأعتقد أنه الوحيد الذى طور الموسيقى العربية بأصالة واقتدار.. وكان من قبله الموسيقار سيد درويش الذى سبقه بجيل! فالقصبجى فى موسيقاه من الصعوبة بمكان أن يجد الأصوات التى يمكنها أن تصدح بها، وإذا كان الرجل قد وصل ذروته مع الست أم كلثوم فى رائعة «رق الحبيب»،. فقد كانت ذروته أيضاً مع ليلى مراد فى «أنا قلبى دليلى..» تلك الأغنية الراقصة الرائعة الخالدة.. ووصل إلى قمة الإبداع فيما لحنه للفنانة أسمهان فى رائعة «يا طيور» الساحرة.. ولقد أبدعت كل منهن فى ترجمة التفكير الموسيقى الخصب للقصبجى.. ولما رحلت أسمهان ذات الصوت الأوبرالى الواسع إلى السماء قبل أن يبدأ النصف الثانى من القرن العشرين صفحاته، فإن القصبجى - كما أعتقد - اعتبر ذلك الرحيل علامة شؤم كبيرة لما سيحدث من متغيرات تاريخية فى الحياة. فرحل بموهبته الخصبة فى أعماقه، التى لم تستطع أم كلثوم أن تنشلها، كى تترجمها بفعل تأقلمها مع الصفحات الجديدة التى خلقتها عوامل وظروف عقد الخمسينيات، فسببت محنة نفسية وإبداعية حقيقية للقصبجى.. علماً بأنه لم يبخل على فنانات أخريات بأرق الألحان الرائعة، ومنهن: سعاد محمد، ونور الهدى وغيرهما.. ولم يكسر صمته إلا فى تلحين ثلاث قصائد وطنية غنتها كل من شهر زاد، ونازك، وفايدة كامل، ولكن بألحان عادية.. فماذا حدث؟ لقد بقى جسمه شاخصاً أمامنا مع كل معاناته، ولكنه أبقى نفسه عن عمد وسبق إصرار عظيماً، ولم يهمه أبدا أن يجلس عازفاً على عوده فى فرقة الست على امتداد السنوات المتبقية من حياته! ولا ندرى كيف كان يفكر موسيقياً فى تلك المرحلة الأخيرة من حياته، وهو يعزف بهدوء على أوتار عوده تلك الألحان الشجية المؤطرة التى كان يضعها زملاؤه وطلبته الفنانون الكبار، ومنهم، السنباطى وعبدالوهاب وبليغ؟؟ نعم، كان يتقبلها ليس على مضض بل على استحياء كونه احتفظ لنفسه بموهبته وقريحته فى أعماقه، وربما كان الرجل يبكى فى أعماقه ليس على ما يسمع من شدو الست الكبيرة أمامه، بل على ما حدث من انقلاب فاضح فى مفاصل الحياة كاملة! ولكن هل كان من السهل عليه أن يتقبل الجمل اللحنية والموسيقية التى كان ينسجها غير السنباطى؟ وإذا كان يتقبل كلمات شوقى وبيرم ورامى وأخيرهم ناجى فى القصائد الرائعة التى شدت الست بها، فهل كان يتقبل منها كلمات بقية أغانيها بكل تجرد؟

الافتراق عند طريقين إننى أعتقد أن الرجل كان يكظم آلامه فى أعماقه ليخزنها إلى جانب ما كان يخزنه من الألحان! وأقول: حسنا جاء رحيله قبل رحيل الست أم كلثوم بسنوات عدة، لأنه لن يسمع أغنياتها الأخيرة التى غنتها بعد الأطلال!! كما وأعتقد، أن الرجل كان يتمنى فى محنته السيكلوجية، لو توقفت الست واحتفظت بموهبتها فى أعماقها أيضاً منذ سنوات على رحيله؟ أو بالأحرى، أنها رحلت فى أعماقها بعد رحيله هو نفسه فى أعماقه.. ولكن ليس فى اليد حيلة، مادام الأمر يتوقف على رزقه الذى يقوم بسد متطلبات حياته وأسرته! إن الفرق المدهش بين هذا الرجل وهذه المرأة أنهما يختلفان فى تفكيرهما حقا! لقد كان يريد لنفسه من خلال موهبته أن تسمو متجلية فى الأعالى، فيسبح من يسمع موسيقاه فى عالم ملكوتى صعب غير موجود.. فى حين أرادت الست لنفسها أن تنزل من عليائها التى كانت عليها فى الأربعينيات، لتسيطر على عالم سهل موجود، فعلا كالذى توفر عندها ببساطة وبين يديها فى عقدى الخمسينيات والستينيات! لقد أراد القصبجى أن يبقى مجده معلقاً فى السماء.. فى حين أرادت أم كلثوم، أن تبقى مجدها على الأرض، فتسيطر على الأخضر واليابس! ومن خلال عقد مقارنة بين الست وخمسة من أعظم الملحنين لها، اكتشفت منذ زمن طويل، أن الشيخ زكريا أحمد جعلها تنطلق مغردة على هواها كما فى رائعته «الأولى فى الغرام..» .. فى حين جعلها القصبجى تطرب سارحة فى حديقة غناء وهى تقطف زهورها.. أما السنباطى، فلقد خلق لها مسرحاً معيناً لا تخرج منه فى تلك الحديقة الغناء.. وإذا كان بليغ قد ضيق حجم المسرح عليها كثيراً، فإن عبدالوهاب قد جعلها، تغرد فى قفص لم تستطع الخروج منه حتى رحيلها!

وأخيراً: من سبق الآخر؟ لا أعتقد أن «القصبجى الموسيقار قد سبق عصره» - كما ذكر ذلك فكتور سحاب نقلاً عن توصيف الست للرجل - ، بل أعتقد أنه كان ضحية تاريخ جديد، فالعصر هو الذى سبقه، ولم يكن هو الذى سبق عصره.. فلقد كان محمد القصبجى ابنا حقيقياً لعصر العظمة الفنية الراقية والثقافية المصرية خصوصاً والعربية عموماً.. وكنت أتمنى لو طال المطال به، وبذلك الزمن الجميل، لكنا اليوم فى عالم آخر من الخلق والإبداع والأمجاد، ولأخذتنا الحياة المتخيلة إلى عالم كبير من جمال العظماء ورقى الحياة.. وليعذرنى أصحاب النصف الثانى من القرن العشرين، إن قلت لهم، إنه زمنهم كان متدنياً جداً مقارنة بما كان عليه الإبداع الموسيقى والطرب المصرى فى النصف الأول منه! وبعد هذا وذاك، هل عرفنا حقاً سر صمت القصبجى.. الفنان والإنسان؟ دعونى أحيى ذكراه الطيبة بحرارة شديدة.
__________________
عايزنا نرجع زي زمان....قل للزمان ارجع يا زمان.

عودة الي الزمن الجميل. منير
رد مع اقتباس