الموضوع: رياض السنباطي
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20/12/2006, 16h02
الصورة الرمزية ADEEBZI
ADEEBZI ADEEBZI غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:8372
 
تاريخ التسجيل: novembre 2006
الجنسية: سورية
الإقامة: سوريا
العمر: 44
المشاركات: 393
افتراضي رياض السنباطي

في الثلاثين من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1906 كان ميلاد رياض السنباطي ببلدة فارسكور بمحافظة دمياط ، دلتا مصر ، والبعض يقول بل إنه من مواليد مدينة المنصورة ـ عاصمة محافظة الدقهلية ـ وهي أيضا تقع بدلتا النيل ومتاخمة لمحافظة دمياط ، غير أن المتفق عليه ـ فيما يشبه الإجماع ـ أنه انتقل مع والده إلى المنصورة وهو بعد صغير، وعندما ذاع صيته ولفت إليه الأنظار ونال لقب " بلبل المنصورة " ظن البعض أنه مولود بها .

نشأ رياض السنباطي في بيئة مفعمة بالموسيقى والطرب الأصيل ، فأبوه أحد قارئي القرآن المشهورين بالوجه البحري ، وهو أحد المنشدين الذين يؤدون التواشيح والمدائح النبوية في الموالد والأفراح بالدلتا وما حولها حتى حدود الإسكندرية ، وكان الأب يملك صوتا أخاذا ، وفوق ذلك كان بارعا في العزف على آلة العود ، ولهذا ، نشأ الطفل رياض شغوفا بالعزف على عود أبيه ، وكان ذلك سببا في كراهيته للمدرسة وفشله في دراسته الأولية ، وذات يوم ، ورياض في التاسعة من العمر، ضبطه والده عند جارهم النجار، هاربا من المدرسة يضرب على العود،و سمعه يغني أغنية الصهبجية: " ناح الحمــــــــــام والقمري على الغصون "، فطرب لصوته، وقرر أن يصطحبه إلى الأفراح. وفي ذلك الوقت كان عصر سلامة حجازي يمضي باتجاه الأفول ، و شمس عصر أحد أهم أعلام الموسيقى العربية وهو الشيخ سيد درويش تستعد للسطوع ، كانت للقاهرة ـ العاصمة ـ دنياها، وللأرياف دنياها. لكن بداية ظهور الأسطوانة والفونوغراف سنة 1904 مكنت الصلة بينهما. فاستمع الفتى الصغير إلى عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وأبي العلا محمد وغيرهم. ولكن ظلّ أستاذه الأول والده الشيخ محمد، في أغنيات لمحمد عثمان وعبده الحامولي.

قرر الشيخ محمد أن يصطحب ابنه الموهوب معه ليشاركه الغناء والإنشاد في كل المناسبات التي يدعى إليها في المنصورة ومحافظات الوجه البحري ، وبدأ الطفل الموهوب يجد الأرض الخصبة لصقل موهبته بالعزف وبالغناء بتشجيع من الأب والأصدقاء ـ وهي من الحالات النادرة ـ و لم يترك رياض الفرصة بل غنى وغنى وغنى وعزف حتى اكتسب جماهيرية منقطعة النظير ، وما كان من عشاق الفن الأصيل إلا أن يطلقوا عليه لقب " بلبل المنصورة " وهو في الثانية عشرة من عمره.
إلى العاصمةِ بحثـًا عن موطئِ قدم

ي السابعة عشرة من عمره انتقل السنباطي إلى القاهرة واستقر فيها، ولم يلبث أن دخل معهد الموسيقى العربية تلميذا، فارتأى معلموه " أن هذا الفتى الناحل يعلم من فنون والده أكثر مما يعلمون، وأنه يضرب على العود أحسن مما يضربون، فعينوه أستاذا لتعليم الموشحات والعزف على العود في المعهد، فكان تلميذا وأستاذا معا " ، وفي زمن قياسي ، وفيما يشبه إجماع النقاد ، بدأ اسم السنباطي يلمع ويتقدم ليصبح في طليعة عازفي العود العرب، إن لم يكن أعظمهم. وبدأ يلتقي بكبار الفنانين والشعراء وفي مقدمتهم أمير الشعراء أحمد شوقي والمطرب الشهير الذي كان يرعاه: محمد عبد الوهاب.ويضع السنباطي أول لحن ليغنيه وهو قصيدة شاعر المنصورة على محمود طه: " يا مشرق البسمات أضئ سماء حياتي " ، ثم تعرّف على الشاعر حسين حلمي المانسترلي فعرفه بشركة "أوديون" للأسطوانات وأخذ يسجل لديها ألحانه لقاء أجر زهيد جدا، فغنى بصوته لكنه آثر التلحين. فغنى له عبد القادر "أنا أحبك وانت تحبني"، وغنت له منيرة المهدية أوبريت "عروس الشرق"، فنالت شهرة واسعة ، وغنى له عبد الغني السيد " يا ناري من جفاك "
مـــــــــدارس

بدت ألحان السنباطي متأثرة بالمدارس الموجودة آنذاك : محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ، غير أن تأثره الأكبر كان بالمدرسة القصبجية ، فقد كان القصبجي متقدما على الجميع ( جيله ) ، ومعظمهم لم يسلم من تأثيره ، وكلهم أكدوا أنهم تلاميذ مدرسته ، غير أن السنباطي كان أكثرهم اعترافــًا بأثر القصبجي عليه ، ويكفي أن نسترجع من هذا العصر تلك القيمة الكبرى التي انقرضت من حياتنا بأكملها وليس من الفن فقط ، فقد سبق القصبجي الجميع بالتلحين لأم كلثوم بدءا من العام 1924، وتبعه زكريا بداية الثلاثينيات ، ثم السنباطي في أوسطها ، ثم عبدالوهاب في العام 1964 ، وبعد أن كف القصبجي عن التلحين منذ منتصف الأربعينيات ، لم نره يبتعد ، بل ظل قابضا على عوده ، وارتضى أن يكون عازفا خلف السيدة أم كلثوم يؤدي ألحان زملائه ـ أو تلاميذه ـ زكريا والسنباطي وعبد الوهاب ، ومعهم ألحان ولديه بليغ حمدي ومحمد الموجي اللذين سطعت أعمالهما العاطفية الكبرى في صفحة الستينيات ( بليغ 1960 ، والموجي 1964 قبل شهر من سطوع عبدالوهاب ، وإن كان الموجي قد لحن لها في الخمسينيات أعمالا وطنية ودينية ) ، ضرب القصبجي المثل الأعلى في قيمة المعلم الأب الذي يحتضن صغاره ويفرح بهم ، بل إن موقفه من بليغ حمدي لهو النموذج الذي يجب أن يسود في كل تصرفاتنا ، فقد لحن بليغ لأم كلثوم أغنية " حب أيه " وهو في السادسة والعشرين من العمر ، وكان القصبجي هو المشجع الأول له في الفرقة الموسيقية ، وهو الذي علّم بليغ من قبل أن يلتقي بأم كلثوم ، وظل بليغ يذكر له هذه الأفضال حتى لحاقه بهم .

ماردُ القصيدة ... أسطورةُ أمِّ كلثوم

إذا كان الشاعر أحمد رامي هو فارس الرهان في مضمار الكلمة الكلثومية ، فإن السنباطي هو فارس الرهان في مجال الموسيقى ، وهما معا ـ رامي والسنباطي ـ يشكلان الضفيرة اللامعة في الحالة الخالدة التي أسميها " الكلثورامسنباطية " . كانت بداية السنباطي مع أم كلثوم بأغنية " النوم يداعب عيون حبيبــــي " لرامي ( 1936 ) ، ومن بعدها انهمر المطر السنباطي الكلثومي ليأخذ اتجاهه الفريد باتجاه القصيدة التي جاء السنباطي مختلفا فيها تماما عن القصبجي وزكريا ، وأصبح السنباطي ينافس نفسه على صوت أم كلثوم لتتحول كل أعماله الطويلة ، فصحى وعامية ، إلى علامات ناتئة في مسيرة أم كلثوم والأغنية العربية ، خرج السنباطي بكل مخزونه من الخبرة والموهبة والجمال منذ أن كان طفلا مستمعا مستمتعا بفن أبيه ، ثم بلبلا صغيرا على أغصان الأرياف البحرية ، ثم تلميذا وأستاذا بمعهد الموسيقى ، فعازفا ومرددا خلف محمد عبدالوهاب الذي يلحن ويغني أشعار أمير الشعراء والأخطل الصغير وغيرهما من القدامى ، هاهو السنباطي يقفز ليقود المسيرة الكلثومية ، القصبجي يتراجع ويتأهب لأخذ مكانه عازفا في فرقتها ، وزكريا سيطلق عددا هائلا من الأعمال الكبرى ثم يختلف مع أم كلثوم لينفرد السنباطي بالحنجرة الذهبية يطلق من خلالها أعلى وأغلى ما في تراثنا الغنائي .

السنباطي لم يكمل تعليمه ، لا الأساسي ولا بمعهد الموسيقى ، ولكنه جاء أستاذا وعلما من أعلام اللغة العربية ، وعبر صوت أم كلثوم وغيرها من الأصوات الكبرى قدم العشرات من أمهات القصائد التي تحولت إلى مدارس للعامة والبسطاء يرددونها ويحفظونها ويتعلمون منها في زمان لم يكن التعليم متاحا لمعظمهم . أحصيت لأم كلثوم وحدها اثنتين وتسعين قصيدة ، كان نصيب السنباطي منها ثلاثا وخمسين قصيدة ( الرقم تقريبي ، لكنه الأقرب على الإطلاق بعد مطابقة أكثر من عشرين مرجعا ومصدرا ) ، هذا ، بالإضافة إلى القصائد التي أداها بصوته أو لحنها للآخرين والأخريات ، وكلها علامات في تاريخ كل ّ منهم ، لكنني أراه مع أم كلثوم أكثر حضورا وتألقا وتوهجا ، مع أم كلثوم يشعر بالندية وأنه أمام هرم كبير فلابد أن يكون هرما ، بينما أراه مع الآخرين يلحن لهم وهو " واقف " ولا ينحني ليتساوى بهم ، عبدالوهاب كان على العكس تماما ، يلحن لأم كلثوم ، ويلحن لمحمود شكوكو ، مع أم كلثوم يعطيها على مقاسها ، ومع شكوكو يعطيه مقاسه ، أي لونه برؤية عبدالوهاب ، وربما كان السنباطي مكتفيا بأم كلثوم ومستغنيا بهـــا ( وعنده ألف حق ) وفوق ذلك كان عفيفا شرسا مع نفسه لا يسعى إلى الأضواء أو يتسولها ، كان مدركا أن الزمن لا يرحم ، وأنه لن يبقي إلا على ما يستحق البقاء ووجد في ثومة ـ وحدها ـ ما يكفي وزيادة .

لحن السنباطي لأم كلثوم مائة وثلاثة أعمال من جملة ما غنت ، منها ثلاث وخمسون قصيدة ، أي لحن لها بالفصحى أكثر مما لحن بالعامية ، وعلى ألحانه لها رأينا جامعة عربية وإسلامية وتاريخية: من رامي وشوقي وعبدالفتاح مصطفى وطاهر أبي فاشا ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وإبراهيم ناجي وأحمد فتحي وحافظ .... إلخ ، إلى الأمير عبدالله الفيصل وأحمد العدواني ونزار قباني ، إلى عمر الخيام ( من إيران ) ، ومحمد إقبال ( باكستان ) ، إلى أبي فراس الحمداني الذي غنت أم كلثوم قصيدته " أراك عصي الدمع " بلحن السنباطي بعد وفاته ـ أبا فراس ـ بألف عام إلا ثلاثة !!! ( أم كلثوم غنت القصيدة من قبل بألحان عبده الحامولي 1926 وتسجيلها موجود ، وبألحان زكريا أحمد 1944 وليس لها تسجيل ،وأخيرا السنباطي في الثالث من ديسمبر ( كانون الأول ) 1964 ). ولا نستطيع أن نتجاوز استجابته للآلات الحديثة في ألحانه للقصائد في المربع الأخير من الرحلة خصوصا في " أقبل الليل " و " من أجل عينيك " ، وربما كان ذلك ـ في ظني ـ قد حدث نتيجة للثورة التي أحدثها المغامر بليغ حمدي الذي اكتسح المرحلة الأخيرة لأم كلثوم بدءا من العام 1960 ، مع الوضع في الاعتبار أن السنباطي قدم لها في الفترة نفسها ثلاثة أمثال ما قدمه بليغ ، فقط أرى أن بليــــغ " حرّض " الجميع على التجريب والمغامرة ، وكسر حدة أم كلثوم في تعاملها مع الآلات الحديثة التي ترفضها وذلك منذ أن أدخل آلة الأوكورديون في أغنية " سيرة الحب " التي غنتها في الحفل نفسه الذي غنت فيه أم كلثوم " أراك عصي الدمع " للمرة الأولى من ألحان السنباطي ، والمفارقة أن السنباطي استخدم البيانو في لحنه الرائع البديع ، ولا يمكن أن ننسى ـ من حقبة الستينيات ـ قصائد السنباطــــــــي : " الأطلال " التي هي قمة هرم الغناء العربي على الإطلاق ، والتي اختيرت كأحد أخلد مائة عمل في مائة عام ( القرن العشرين ) ، ثم " حديث الروح " ، " أقبل الليل " ، ثم " الثلاثية المقدسة " و " من أجل عينيك " في السبعينيات ، بالإضافة إلى مجموعة من العاميات الشامخة لأم كلثوم ، وعشرات القصائد والعاميات للآخرين .
الهزيــــــعُ الأخـــــــير

في الأمتار الأخيرة من الرحلة بدأ السنباطي واحدا من أهم مشاريعه الغنائيــــــــة ، ولكن ........ ، ذلك المشروع هو تلحينه ثلاث قصائد للسيدة فيروز ، وتدربت عليها معه ( 1979 ) ولكنه رحل قبل أن تغنيها ، وعندما بالغت في نسيانها حدث ما يشبه الخلافات بين ابنه الفنان أحمد السنباطي والعائلة الفيروزية ، على أثرها بدأ السنباطي الابن يهدد بأنه سيتنازل عنها لأي صوت ، وحتى هذه اللحظة لم نتقدم خطوة باتجاه الحل !!

القصائد هي : " بيني وبينك " ، " أمشي إليك " وهما من أشعار جوزف حرب ، الشاعر اللبناني الكبير ، وأجيد البكاء عندما أستمع إليهما بصوت السنباطي ، ولا أدري من المسؤول عن تسريب هاتين الرائعتين إلى إذاعة العدو ( قبل عشرين عاما ) ، ثم إلى عشرات المواقع على شبكة الانترنت ، وما يحزنني هو أن " بيني وبينك " ملبدة بأخطاء النحو واللغة ، وهذا يدل على أنها ليست الصورة النهائية التي تركها السنباطي ، بل أزعم أنها تكاد تكون التجربة الأولى للحن . أما القصيدة الثالثة فهي " آه لو تدري بحالي " للشاعر الكبير عبدالوهاب محمد .

وبعــــــــد

فقد رحل السنباطي قبل ربع القرن ، في التاسع من سبتمبر ( أيلول ) 1981 ، وترك صوته مسافرا فينا ، وأنفاسه حارسة للقصيدة العربية الفصيحة التي أعطت الغناء العربي معظم شرفه قبل أن يأتي المخربون الجدد ويجرّدوا الغناء العربي من " العربي " ومن " الغناء " ومن " الشرف " ومن كل الجميل والجمال الذي ورثناه

عن :بقلم بشير عياد - مجلة " الوطن العربي " ، العدد رقم 1550 ، الأربعاء ، الخامس عشر من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 2006 م
رد مع اقتباس