عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 15/01/2008, 23h42
الصورة الرمزية احمد عبدالهادى
احمد عبدالهادى احمد عبدالهادى غير متصل  
رحمة الله عليه
رقم العضوية:21902
 
تاريخ التسجيل: avril 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
العمر: 68
المشاركات: 2,383
افتراضي رد: دراسه متكامله فى الشعر الصوفى

الجزء الثانى من دراسه فى الشعر الصوفى
التقليد والتجاوز
إذا كان من المتعارف عليه أن الشعرية الصوفية لا تطرح نظرية جمالية لما هو الشعر وكيف ينبغي أن يكون، مادامت لا تولي أيّة أهميّة لفنّيته، فذلك لأنّها – كما سبق القول – فيض عن رؤية وجودية للكون أكثر مما هي رغبة بإبداع شعرية جديدة – وإن ستبدعها فعلاً. وإذا كانت بهذا المعنى تشكل قطيعة رؤيوية مع الشعرية العربية في سموِّها عن الواقع الحسي، واتخاذها لعالم الخيال منطلقاً لها، غير أنها لم تفعل ذلك دائماً على صعيد الكتابة الإبداعية. فأن يكون عالم الخيال هذا برزخاً بين ما هو حسِّي وما هو معنوي قد لا يعني عند معظم الشعراء الصوفيين سوى تحميل الأشعار الحسية دلالات معنوية قد لا تؤثر في خيال الشاعر ولا في صياغته الفنية لا من قريب ولا من بعيد. بل إن الكثير من أشعارها ليس أكثر من اقتباسات ومحاكاة شبه حرفية لأشعار الآخرين، ومن غير أية خصوصية فنية تذكر:

هل نارُ ليلى بدتْ يوماً بذي سلمِ أم بارقٌ لاح في الزوراء فالعلم

من المفترض أن يكون هذا البيت صادراً عن مرتبة البرزخ، كونه يجمع بين ما هو حسي، وهو الظاهر من الكلام، وما هو معنوي، وهو الباطن المفترض. لكن صياغته الفنية ليست أكثر من محاكاة تقليدية للشعر الجاهلي. فهو يذكِّر بمطلع معلقة عنترة إيقاعاً ووزناً وقافية، وهو يذكّر باحتفاء الشعر الجاهلي بذكر الأمكنة ولاسيما الوقوف على أطلالها – مطلع معلقة امرئ القيس مثلاً. أما الظاهر من معنى هذا البيت فلا يتجاوز رغبة الشاعر بدعوة ليلى له إما في موضوع ذي سلم أو في موضعي الزوراء والعلم. وأما المعنى الباطني فهو ليس أكثر من تحميل دلالي لألفاظه؛ فتكون ليلى هي الذات الإلهية، والنار والبرق إحدى تجلِّياتها. ومن الملاحَظ أن هذا التحميل لم يغيِّر في بنية البيت الفنية، فبقي على حاله تقليداً ومحاكاة للشعر الجاهلي.

لكن الشعر الصوفي في زمنه الإبداعي هو امتداد للشعر المحدث، حتى إن هناك من يعتبر أبرز أعلامه من أمثال أبي نواس وأبي تمام والمتنبي من أتباع المذاهب الباطنية المتوافقة إلى حد كبير في أفكارها مع الأفكار الصوفية. وإذا كان الشعر المحدث يماثل في فنِّيته مرتبة البرزخ على أساس أن صوره غالباً ما تقوم على بنية تجمع بين الحسي والمعنوي، فإن ما ينبغي ملاحظته أن الشعر المحدث، حتى في صوره المتخيَّلة، هو في مجمله من هذا العالم، وغالباً ما يعود بدلالاته إليه؛ بينما الشعر الصوفي حتى في اتِّكائه على الشعر المحسوس هو متعالٍ مادام يصدر عن مرتبة أعلى من مرتبة العالم المحسوس الذي يعيشه البشر والطبيعة. وهذا التعالي ربما كان افتراضياً، لكن الشعراء الصوفيين استطاعوا من خلاله أن يشكِّلوا ما يشبه المنظومة الفنيّة داخل الشعر المحدث ذاته، وذلك على الرغم من تأثرهم به وتقليدهم له:

وأرضعني ثديَ الوجود تحقّقاً فما أنا مفطومٌ ولا أنا راضعُ

إن "ثدي الوجود" تركيب لا يُلمَح له شبيه، لا في الغزل العذري ولا في الغزل الماجن؛ إنه يدل على شبقيَّة يستطيع علم النفس الحديث أن يظهر من خلالها عقدة أوديبية صريحة، لولا أنه تركيب صادر عن التجربة الصوفية وحدها. فهو يحيل ببساطة إلى حديث للرسول يشبِّه فيه العلم باللبن.

وإلى ذلك، سوف تبرز خصائص الصوفية في الشعر الموزون من خلال هذه المنظومة الفنية بشكل أوضح حين تفعيلها للتجربة الذهنية بما لا سابق له في الشعر العربي، وخاصة حين صدوره عن مرتبة المعقولات والاتحاد بالذات الكبرى. غير أنه ينبغي عدم التفاؤل كثيراً؛ فمع أن هذا الشعر أنتج الكثير من الإلماحات غير المألوفة في العقلية العربية، إلا أنه لم يستطع، في معظم نتاجه، أن يرتقي إلى مصاف التجريد المقبول فنياً:

كلماتٌ من غير شكل ولا نطق ولا مثل نغمة الأصواتِ
فكأنّي مخاطباً كنتُ إيّاهُ على خاطري بذاتي لذاتي
ظاهرٌ، باطنٌ، قريبٌ، بعيدٌ، وهو لم تحوهِ رسومُ الصفاتِ
هو أدنى من الضمير إلى الوهم وأخفى من لائح الخطراتِ


إنّ الشاعر في صدوره عن مرتبة المعقولات يحاول أن ينزِّه الله عن أي ملمح حسّي. إنه ينقل بدقة موضوعية ماهية الموصوف وتأثيره عليه. لكن التجريد حين يأتي سوف يأتي من كون الموصوف هو معنويّ بذاته وليس نتاجاً لصياغة فنية. وربما من أجل هذا لا تقدم إشراقات الصوفية أية كشوف فنية؛ فهي، في معظمها، محاكامات وشروحات لما هي عليه هذه المرتبة بما يفقدها الكثير من المقومات الشعرية. وليس الشطح الصوفي، ولاسيما المنظوم منه، ببعيد عن ذلك؛ إذ إن الشاعر حين وصوله إلى مرتبة الاتحاد لا يفعل أكثر من الاحتفاء بذاته وغنائها:

أنا مَنْ أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا

فهذا الغناء، لطبيعته الحلولية، يحيل إلى الشاعر ذاته، فتبقى بذلك لحظة الكشف غائبة، بل من المستحيل معاينتها مادام أن ما يراد كشفُه هو معنوي ومجرَّد في ذاته أيضاً. وربما أقصى ما استطاعت أن تبدعه الصوفية في تكوينها لمرجعيَّتها الرؤيوية هو الإبداع من داخل منظومتها المستعارة من الشعرية المنجزة، بعد تجريدها ذهنياً، وإدخالها في منظومة الدلالات الصوفية المتفق عليها مسبقاً:

أباحتْ دمي إذ باح قلبي بحبِّها وحلَّ لها في حكمها ما استحلّتِ

وما كنت ممَّن يظهِر السرّ إنما عروس هواها في ضميري تجلَّتِ

فألقت على سرِّي أشعة نورها فلاحتْ لجلاسي خفايا طويَّتي

ومن عجبٍ أن الذين أحبهم وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنَّة

سقوني وقالوا: لا تغنِّ ولو سقوا جبال حنينٍ ما سقوني لغنّتِ


إن تركيب "عروس هواها" لا يمكن أن يخطر على بال المتأمِّل فيما هو حسي أو برزخي، ذلك أنه نتاج معرفي محض. فالضمير "ها"، صحيح أنه يعود إلى الخمرة، لكن من غير المتعارف عليه أن تكون المحبة بتأثيرها، وإنما يكون للحبيبة تأثير يشبه تأثير الخمرة المسكر. ولولا تماهي دلالة الخمرة بدلالة المعرفة في ذهنية هذا الشاعر لما توصل إلى إبداع مثل هذا التركيب. بل إن الأبيات كلَّها تنشئ علاقة بنيوية بين العالمين الحسي والمعنوي يكون فيها الأول تابعاً للثاني على غير ما هي الحال عادة.
__________________
يارب رحمتك نرجو الدعاء لي بالرحمه والمغفره
رد مع اقتباس