الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 05/05/2007, 18h07
أهل الصفا أهل الصفا غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:27792
 
تاريخ التسجيل: mai 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 1
افتراضي

على مقعده الخشبي رضي بالجلوس وراء «الست» محتضنا عوده لسنوات، مؤثرا أن يكون عضوا كباقي أعضاء فرقتها وهو الموسيقار الكبير، الذي أثرى الموسيقى العربية بالعديد من الأعمال التي كانت سببا في تطورها. هذا هو العملاق محمد القصبجي، الذي لحن لنجوم الطرب في عصره، بدءا من منيرة المهدية وصالح عبد الحي ونجاة علي، مرورا بليلى مراد وأسمهان، وانتهاء بكوكب الشرق أم كلثوم، التي عشق العزف على آلة العود في فرقتها ليظل بجوارها، حتى أنه عندما مات في نهاية الستينات ظلت «ثومة» محتفظة بمقعده خاليا خلفها على المسرح تقديرا لدوره ومشواره معها.
ولد محمد القصبجي في الخامس عشر من أبريل (نيسان) 1892، وهو نفس العام الذي شهد مولد الفنان سيد درويش. وكان والده هو الشيخ علي إبراهيم القصبجي، الذي عُدَّ من أشهر منشدي ومقرئي حي عابدين في القاهرة. ليس هذا فقط، بل كان مولعا بالتلحين على آلة العود، التي كان عاشقا لها، ولهذا فقد غنى من ألحان الشيخ علي إبراهيم القصبجي كبار مطربي عصره من أمثال عبده الحامولي، وزكي مراد، والد المطربة ليلى مراد، وصالح عبد الحي، والشيخ يوسف المنيلاوي. وأصر الشيخ علي، على أن يعلم ابنه محمد فن التجويد الذي يعد الجامعة التي تخرج فيها كبار الملحنين في عالمنا العربي، وعلى رأسهم سيد درويش ومحمد عبد الوهاب. وقد تخرج الابن محمد القصبجي في مدرسة عثمان باشا بعد أن درس وحفظ القرآن على يد الشيخ المحلاوي. وفي المنزل تعلم القصبجي الصغير من والده فنون الموشحات والأناشيد الدينية والعزف على العود الذي صار أستاذا في فنونه، حتى أطلق عليه مؤرخو التراث الموسيقي «سيد عازفي العود» في القرن العشرين. وعلى الرغم من ممارسة والده للموسيقى الا انه عارض في البداية عمل ابنه في هذا المجال، وسعى كي يعمل في مهنة التدريس التي مارسها القصبجي على مضض لمدة عامين في الفترة من 1915 إلى 1917، فكان في الصباح معلما للجغرافيا والحساب وفي المساء عازفا للعود وملحنا. ولكنه لم يستطع مواصلة تلك الحياة المزدوجة كثيرا، حيث تفرغ للفن منذ عام 1917.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه محمد القصبجي في الموسيقى العربية بشهادة الموسيقيين انفسهم، الا انه لم يحتل المكانة التي يستحقها دون سبب واضح. البعض فسر هذا بتواضعه الشديد وعدم اهتمامه بتسليط الاضواء عليه بقدر رغبته في الارتقاء بالموسيقى إلى جانب حبه للعزلة وعدم امتلاكه صوتا جميلا، كما كان لدى زملائه من الملحنين مثل سيد درويش والسنباطي وزكريا أحمد. والبعض الآخر قال ان قبوله بأن يكون مجرد عواد في فرقة أم كلثوم رغم مكانته تلك كان سببا آخر في عدم تسليط الاضواء عليه والاهتمام بما قدمه الا بعد وفاته، حتى أنه كان مدرسة لكبار عباقرة الموسيقى الذين أضاءوا الحياة الفنية وأولهم منيرة المهدية «سلطانة الطرب» التي لحن لها العديد من الألحان الرائعة، وكذلك الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي رعاه فنيا لمدة خمس سنوات قبل ان يتبناه أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1924، وعبقري التلحين رياض السنباطي تتلمذ هو الآخر لسنوات على يد القصبجي. وكانت درة تلامذته «كوكب الشرق» أم كلثوم، التي ارتبط بها منذ مجيئها إلى القاهرة عام 1923 ومنحها مجموعة من أجمل الألحان، وظل مصاحبا لها في فرقتها حتى وفاته في مارس (آذار) من عام 1966، هذا غير ألحانه التي قدمها لباقي المطربين والمطربات من أمثال ليلى مراد وأسمهان وكارم محمود وغيرهم. ولا تقتصر أهمية القصبجي على التلحين لهؤلاء المطربين أو تعليم البعض الآخر منهم، ولكن يعود الفضل لمحمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية وتطويرها تماما كما فعل سلامة حجازي وسيد درويش. وهو ما تؤكد عليه الدكتورة رتيبة الحفني التي ألفت كتابا حمل اسم «محمد القصبجي..الموسيقي العاشق» وصدر عن دار الشروق في عام 2006 حيث تقول: «بدأ القصبجي منذ عام 1917 ومعه الموسيقار سلامة حجازي في تجديد نكهة الغناء العربي وإدخال التعبير عليه، وتطوير اللوازم الموسيقية وجعلها جزءا مهما في البناء الموسيقي لا يمكن الاستغناء عنها. ومع تأثره بالموسيقى الغربية أدخل الهارمونيا والبوليفيا على الموسيقى العربية دون تشويه لها وبما يتناسب معها. كما كان له الفضل في إرساء قواعد فن المونولوج العربي في الغناء والموسيقى وكان ذلك في العام 1928».
والمونولوج ليس هو الأغنية الساخرة التي تنتقد أوضاعا أو مواقف معينة كتلك التي غناها إسماعيل ياسين أو ثريا حلمي، ولكنه فن عرفته الموسيقى العربية منذ عام 1815 وهو مأخوذ من فن الاوبرا الايطالي، ويغني فيه المطرب أغنية قصيرة تعبر عن ملمح عاطفي تموج به مشاعره. ومن أشهر تلك المونولوجات مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» الذي تغنت به كوكب الشرق أم كلثوم. ومن أروع ما لحن القصبجي وعبر به عن عقليته الموسيقية المتطورة كانت أغنية «الطيور» التي غنتها أسمهان وهي قريبة من الاداء الاوبرالي بعض الشيء ولكنها عبرت عن الرؤية الموسيقية التي كان يمتلكها ذلك الموسيقار. ولتلك الاغنية قصة طريفة ترويها الدكتورة رتيبة الحفني التي تتلمذت على يد القصبجي في صغرها وعلمها العود فتقول: كان لدينا في المكتبة الموسيقية التي كنا نمتلكها في منزلنا مقطوعة موسيقية تحمل عنوان «غابات فيينا» للموسيقار يوهان شتراوس وكانت المطربة التي تغني تلك المقطوعة تقلد أصوات الطيور في نهايتها. وقد استمع القصبجي لهذه المقطوعة أكثر من مرة وأشاد بها وبفكرتها وتأثر بها فأمسك عوده ولحن لحنا مصريا صميما غنته أسمهان أدخل عليه تعدد الأصوات والتوزيع الموسيقي، مراعيا عدم الخروج باللحن من هوية موسيقانا العربية. فالقصبجي لم يقلد ولم ينقل ولكنه تأثر وطور وأبدع.
وعلى الرغم من تلحين القصبجي لعدد كبير من المطربات منذ ظهور موهبته في عالم التلحين، الا ان لقاءه بسيدة الغناء العربي يعد تطويرا في أدائه اللحني وبداية التجديد في الموسيقى العربية على حد وصف الدكتورة رتيبة الحفني التي ترى أن إجادة القصبجي وإبداعه الحقيقي لم يظهرا الا بعد لقائه بكوكب الشرق التي قالت عنه قبل وفاتها عند سؤالها عنه: «كان موسيقيا عالما سابقا لعصره بسنوات». ومن بين الدلائل التي تبين مكانة «قصب» كما كانت أم كلثوم تحب أن تناديه، أنها وبعد وفاته ظلت مدة بلا عازف عود، مفضلة الاحتفاظ بمقعده خلفها خاليا حتى اضطرت إلى الاستعانة بعازف العود عبد الفتاح صبري. فقصب لم يكن مجرد عازف عود ولكنه كان عالما فيه حتى انه كان يؤخذ برأيه في مواصفات صناعة العود الذي كان يوصي الا يزيد طول وتره عن 60 سنتيمترا. كما كان عاشقا لتلك الآلة التي كان يخشى ان ينشز بها وهو يعزف عليها وهو الاستاذ فيها.
وعلى الرغم من العلاقة القوية التي كانت تربط بين القصبجي وأم كلثوم الا ان البعض يرى ومن بينهم الباحث الموسيقي التونسي الدكتور محمد العلاني أن أم كلثوم كانت سببا في إقلاع القصبجي عن التلحين على مدار 22 سنة تقريبا، حين طالبته بعدم التلحين لأسمهان التي شعرت بمنافستها القوية لها في مجال الغناء، ولكنه رفض فرفضت هي الاخرى الغناء من ألحانه. وبعد وفاة أسمهان عام 1944 عرض القصبجي ألحانه على أم كلثوم فرفضت غناءها ردا على موقفه، فخشي هو أن يخسرها، ما دفعه إلى القبول بموقعه إلى جوارها كعازف عود في فرقتها حتى لو لم يلحن لها. المؤكد لدى الموسيقيين أن القصبجي هو احد مجددي التراث الموسيقي وبخاصة في مجال القصيدة التي ظلت راكدة، تقدم على نحو تقليدي حتى مجيء القصبجي الذي منحها الروح، حيث يرى أساتذة الموسيقى أن تلحين القصيدة قبل القصبجي كان يبدأ بمقدمة موسيقية مثل الدولاب الموسيقي الذي يكون من نفس مقام القصيدة. ولكن مع قدوم المبدع محمد القصبجي بدأ بتأليف مقدمات موسيقية بسيطة كمفتتح للقصيدة ليتنوع بعد ذلك لحنه وتبعه في ذلك غيره من الملحنين مما أدى الى ظهور مرحلة جديدة في أداء القصيدة ليضم التخت الشرقي بين عناصره الكمان والقانون والعود والناي والايقاع وقد وصل عدد القصائد التي لحنها القصبجي إلى 30 قصيدة. الا وانه ورغم إبداعه في هذا المجال، فقد جال القصبجي في جميع أنواع الموسيقى فلحن 4 مسرحيات غنائية من بينها «المظلومة»، و«نجمة الصباح»، كما لحن 13 دورا و182 طقطوقة و43 مونولوجاً إلى جانب 91 أغنية تغنى بها عدد من المطربين فيما قدموه من أفلام بلغ عددها 38 فيلما. ولعل هذا الكم من الأعمال هو ما دفع بالدكتورة رتيبة الحفني إلى القول بتفرد موسيقى القصبجي عما سواها، وتضيف: «لا أجد مثلها في أعمال غيره من الملحنين. أجد فيها أصالة وثراء لحنيا وتلوينا موسيقيا. فمحمد القصبجي بحق يعتبر مدرسة موسيقية جديدة سابقة لعصرها».
وفي مارس من عام 1966 توفي محمد القصبجي الذي أثرى الموسيقى العربية في هدوء وبلا أي ضجة تاركا وراءه تراثا يخلد اسمه وفنه بعد أن وهب حياته للفن فقط دون زواج وبلا ابناء.
نقلا عن جريده الشرق الأوسط الجمعـة 14 محـرم 1428 هـ 2 فبراير 2007 العدد 10293
إذا كانت هذه المحاور تسلَّطتء، وهي: إعادة تدوير كتابات سابقة (أو سرقتها دون إحالة هامشية)، والانطلاق من أفكار جاهزة (أو مسبقة رددها سابقون)، وإغفال التحليل الاجتماعي (أو غياب التاريخي والثقافي)، في مقالة كتبناها عن كتاب: محمد القصبجي الموسيقي العاشق، لرتيبة الحفني (دار الشروق-2006)، وإلحاقنا إياها بمزايا في الكتاب وجدناها: الأغنية السياسية، إعجاب داوود حسني بأعماله، ثقافته الموسيقية، فلا بد قبل نهاية هذه المقالة أن نضع محاور مسائل في نصابها تعويضاً عما افتقدته الفصول في قضاياها الإشكالية عن إثارة التساؤلات العلمية والنقدية دفعاً إلى تطوير وضع دراسات حولها، ومما استخرجته من هذا الكتاب، هي قضايا تشغلني سبق أن تناقشت حولها في حوارات صحفية مع الراحل توفيق الباشا، وصميم الشريف، وإلياس سحَّاب الذي تعدت مناقشاتنا إلى لقاءات حميمة اتسعت إلى أسرار ربما تتسرب يوماً عبر مقالات لاحقة.
رومانسية المدينة المؤجلة
درج على اعتبار الحالة الثقافية في قاهرة العشرينيات مرتعاً لثقافة العوالم وأدب التعريب،فلقد كانت الأصالة الإبداعية العربية تمر في فترة تحول بعد أن استنفد مشروع النهضة خارجها في تعثراته كامل قوى دفاعه أمام صدمات يتلقاها مرة باختياره، وأخرى مفاجئة له من العالم الآخر، وما كان عبء التراث الذي استند إلى عامودي: الذاكرة الشفوية والنظرة الاستشراقية إلا نذيراً بمأزق كبير بدا يتسع في علاقة العرب بتاريخهم ودورهم المنتظر، فمن اكتشاف القومية العربية وخلقها أثناء انهيار العصر العثماني، إلى مسارات التحديث الحيوية في مجالات الحياة الاقتصادية والتعليمية والعمرانية، وصراع القوى بين مستعمر وهوية أضعف من أن تواجه غير مدجج سوى بأدبيات الماضي وزوالاته المحتومة، فإن في عصر ثقافي اعتمد كلاسيكية مستحدثة شغفت في بقاعها المحلية، وفي إرهاص ولادة عصر آخر كشف الفجوة المعرفية والمستوى الثقافي والفقر الأدبي والفني في دورانه وتكراره قاد تلقائياً للخروج من عباءة الشيخ والقفطان، والذهنية الجماعية القاصرة نحو توق الفرد إلى خلاصه عبر أحلامه ورغباته، وإذا كان إبراهيم ناجي مع علي محمود طه قادا انقلاباً أبيض على أحمد شوقي وحافظ إبراهيم بمظلة التهيئة التي بذرها خليل مطران، بأن وضع حداً جمالياً وبلاغياً وأسلوبياً للقصيدة بين صورة تقدمها قصيدة مصر تتحدث عن نفسها لشوقي من جهة، وبين قصيدة الجندول لعلي محمود طه من جهة أخرى، فإن تراث غناء وموسيقى محمد عثمان وعبده الحمولي كان ينتظر هذا الانقلاب بين دور: يا ما انت واحشني (نهايات القرن التاسع عشر)، وما كان يهيِّئ له داوود حسني حين قدَّمه محمد القصبجي في مناجاة: إن كنت أسامح وأنسى الأسية - 1928، ثم تبعه محمد عبد الوهاب في رسم هذه الرومانسية التي تعلي من شأن الفرد وأحلامه ورغباته، وإن قادته إلى التفكير العلمي والتطور التقني وهذا ما قدمه محمد القصبجي في أغاني الأفلام والأسطوانات.
وقبل أن تصل هذه المرحلة التي انقلبت على المرحلة السابقة إلى استنفاد طاقاتها فإنها وضعت طريقاً ممهداً لمرحلة لاحقة، وهي مرحلة الحداثة بكل أطيافها المتعددة التي كان يمهد لها جيل كبير من مثل: فريد الأطرش وحليم الرومي ومحمد فوزي التي ستدفع بأسماء جديدة مثل: بليغ حمدي، ومحمد الموجي، وكمال الطويل حيث ستأخذ صوراً متعددة في الوطن العربي مثل الصورة التي رسمها الأخوان الرحباني مع توفيق الباشا وزكي ناصيف.
إن الدور الثقافي الذي قدَّمه القصبجي أو كان صورة عنه في تدشين المرحلة الرومانسية بأشعار أحمد رامي وكل جماعة أبولو، وكل الحناجر من رجالية ونسائية، ومثيله محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي مع جماعة أبولو: علي محمود طه، أحمد فتحي، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، لم يصل ذروته بل ترك بذوره لما بعدها من مرحلة عندما انتهى إلى إحباط وكوابيس ثقافية ربما عجلت لبعض الموت أو الصمت الطويل!، ولكن ربما كان استشعار مسبق إلى تهديد المدينة، مدينة القاهرة، وعالمها المندمج في تعدده العرقي والطائفي، وغزوها من قبل الجحافل الريفية وتطهيرها بالترحيل والتهميش العرقي والديني!
كسر ذهنية الأبوية
استطاع محمد القصبجي أن يترك مبدأ ممتازاً يكسر به سطوة عادات وتقاليد دارجة، وهذا المناخ الثقافي في تحولاته لم يكن بطلاً فيه وحده إلا لكونه رجلاً، فربما كان على علم بما فعلته المطربة الكبيرة ماري الجميلة (أو ماري جبران) التي قامت في عام 1925بتسجيل دور: يا ما انت واحشني، لمحمد عثمان كاسرة بدورها (المحرَّم الغنائي) على الحنجرة النسائية أن تغني الدور والموشح والقصيدة، وركنها على بوابة الطقطوقة مثلما كانت عليه توحيدة ونعيمة المصرية، وما قيام منيرة المهدية بالوقوف على المسرح إلا تعزيز لذلك من حيث دور المرأة المفترض على المسرح وقفة وتمثيلاً وغناءً، وربما كان لصالون الموسيقية والممثلة والمنتجة بهيجة حافظ دور كبير في كونه منتدى ثقافيا غير مألوف في قاهرة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، حوارات ثقافية، ومناظرات موسيقية، وأدوار غنائية، ويعرف أن القصبجي تعاون معها في وضع الموسيقى التصويرية في ثالث فيلم أنتجته ومثلته: ليلى بنت الصحراء-1937، وقد لحن الاثنان سوياً قصيدة: ليت للبرَّاق عَيءناً، التي سجَّلت بحنجرة: حياة محمد، وإبراهيم حمودة ثم سجَّلتها أسمهان لاحقاً، وكان القصبجي يجتمع معها على عزف تقاسيم، هي على البيانو وهو على عوده، وكذلك عازف الكمان سامي الشوَّا وأحمد الحفناوي حيث أدارا خطط تسجيلاتهما الأولى من التقاسيم هناك، ودارت حوارات ونقاشات عنيفة حول تجديد الموسيقى، ومزايا موسيقى الشرق والغرب، كل هذا في صالون بهيجة حافظ الثقافي لا فيما انشغلت به الساحة الثقافية من غراميات صالون مي زيادة، ولا عنتريات صالون العقاد!
أسمهان وفينَّا الساحرتان
ويبقى الحديث عن عشق موسيقي سري بين زيارة أسمهان ل فينَّا خلال مطالع الثلاثينيات الميلادية، ودراستها عند مدام جيلان رطل اللبنانية في مدرسة القديس يوسف بالعباسية حيث تعلَّمت إلى جانب تدريبات وتمرينات الصوت، التدوين الموسيقي، والعزف على البيانو، فهي تحتفظ بآلة بيانو موقَّعة من ملك النمسا، كذلك العامل البارز هو ثقافتها الموسيقية الزاخرة، سواء العربية ما بين الإرث البدوي لجبل العرب- السويداء منازل عشيرتها آل أطرش، بقايا بني تنوخ المهاجرة، ولعلنا نذكر غناءها: يا ديرتي ما لك علينا لوم لزيد الأطرش، في فيلم: غرام وانتقام -1944، وإرثها الريفي- الجبلي اللبناني، خاصة في الموال البغدادي الذي تتقنه من المغني اللبناني إيلي بيضا، حيث بث أخوها فؤاد الأطرش تسجيلاً لأحد مواويله بصوتها في أحد لقاءاته الإذاعية خلال الستينيات، ولا ننسى تراث الغناء العربي الكلاسيكي بمنابعه التي اجتمعت في القاهرة من أعلامه: علي محمود، محمود صبح وداوود حسني، حيث كانت تجيد أداء قصيدة لعلي محمود: يا نسيم الصبح، وكذلك الثقافة الأوروبية حيث تكشف مغناة: ليالي الأنس في فينَّا، التي كتبها أحمد رامي بطلب منها في فيلم: غرام وانتقام -1944، غير مسألة زيارتها إلى عاصمة النمسا، بل كشفت أنها التقت مع القصبجي في الاهتمام الثقافي سماعاً لموسيقات الشعوب كالأوروبية، وربما التقاء الاثنين على حب الاستماع ومناقشة أعمال الموسيقي النمسوي يوهان شتراوس، صاحب فالس الدانوب الأزرق الشهير، فقد ذكرت رتيبة الحفني، بأن القصبجي استمع إلى فالس غابات فينَّا لشتراوس في منزلهم، وفي ختام هذا الفالس، على غير عادة، وضع استعراض صوتي لحنجرة المغنية إيرنا زاك حيث تحاكي صوت الطيور ما بينها وبين آلة الفلوت، وهي تشير ضمناً إلى أن هذا الفالس كان مشجِّعاً للقصبجي في استيحاء ذات الفكرة لختام لحنه الشهير: يا طيور، الذي تغنت به أسمهان، ولمَّا أتتء حنجرة لأن تكون بديلاً عنه، حيث وضع يوسف بدروس نصاً يمتد في موضوعه، من أغنية قصصية وضعها مدحت عاصم لأسمهان تدعى: الجنينة، متخذاً صورته الرمزية من الطيور توقاً إلى حرية في سجن ثقافة سلطان الأب وصوت الجماعة، والحريم!
ولعل أبعد من ذلك التنبه إلى لم يتيسر قبول وانسجام آذان وحناجر كل من أسمهان وليلى مراد إلى ثقافة مغايرة من خلال، على حد أقل، إيقاعاتها الوافدة والموفدة الأمريكية -اللاتينية: التانغو، والرومبا، والأوروبية: الفالس والباسودوبل إلا لمرونة واتساع ثقافتهما الموسيقية التي ربما أشعلت جذوة العمل الفني مع القصبجي فيما كانت إحراجاً حاداً لغيره من الملحنين!
فلم يكن هناك من ضير لا على أسمهان ولا القصبجي من الاعتراف بفضل تأثر ومثاقفة مع شتراوس بعملهما: يا طيور، إذ استثمر إمكانية صوتها مثلما هو اعترافهما بالشيخ علي محمود في عملهما: هل تيَّم البانُ ؟ حين غنت بروحه وإحساسه الواجد بلوعاته وهديله!
ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي تستخدم فيها أسمهان صوتها في استعراض من صوت الرأس كما هو متبع في غناء الأوبرا والآريات فيها، ولكن سبق أن أدت ذلك نهاية فالس: انتصار الشباب -1939، التي لحنها فريد الأطرش وغنيَّاها سوياً، ولم تقف عن ذلك بل تطورت به نحو حدود تطوير عميق وباطني لتقنيات الأداء والتعبير، ولعلنا نذكر ذلك في أسلوب بديع قلما يجود الزمن به، يا للعبارة العتيقة!، في مناجاة: أنا اللي أستاهل، من فيلم: غرام وانتقام-1944، في مقطع مهم جداً، خاصة، في عبارة: "يا قلبي"، لو تذكرناها:
"راح البريء مظلوم والذنب دا ذنبي/ فات لك شجون وهموم تشربها يا قلبي"
ولعل علاقة محمد القصبجي بأسمهان، وقبل ذلك معرفته بوالدتها المغنية والعازفة علياء المنذر، ولكونه صديق الأسرة، اتسعت إلى مشروع ثقافي مهم مع حنجرتها وشخصيتها، ولم يذكر أن فكرة زواج محتمل أشيع بينهما، ولم يكن في تعاونهما ما يوحي بين أب وابنته وهذا يمكن أن تنطوي عليه علاقة الأستاذ بالتلميذة بل إن قول فريد الأطرش بأنه: "لو قدر لأسمهان أن تبقى لكانت تشكل منافسة (أو تهديداً) لأم كلثوم بألحان محمد القصبجي"، ومن هي أم كلثوم هذه ؟.إنها حاجز الأبوية، وتقاليد سلب الحريم، وعادات الازدواج الثقافي. وأخيراً لا يسعني سوى شكر هذا الكتاب الذي بقدر ما كانت حالة تطُّلعي إلى قراءته وازتها حالة خيبة متأكد من أنها كانت حافزاً إلى إنجاز عمل دراسي عن قامة كبيرة اسمها محمد القصبجي، ليس لاشتراكنا في سلالة فلكية واحدة، وكذلك كيمياء الاندماج الفلكي نفسه مع أسمهان، وليس إغاظة في مهووسِيء أم كلثوم وزمرتها، وليس دكاً لأسوار الذهنية الأبوية، بل هو الوفاء لتلك الروح الإنسانية التي تتقد متوجباً علينا ألا تنطفئ قبل أن تصل من بعدنا!
نقلا عن جريدة الرياض اليومية
الأثنين 15 صَفر 1428هـ - 5 مارس 2007م - العدد 14133

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 13/05/2009 الساعة 19h28
رد مع اقتباس