الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 25/03/2009, 00h11
الصورة الرمزية أبوإلياس
أبوإلياس أبوإلياس غير متصل  
مشرف منتدى فريد الأطرش
رقم العضوية:165965
 
تاريخ التسجيل: février 2008
الجنسية: مغربية
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,064
افتراضي كلمة احتفالية الذكرى 43 لرحيل محمد القصبجي

كلمة احتفالية الذكرى 43 لرحيل محمد القصبجي
على الساعة العاشرة من مساء يوم الجمعة 25 مارس/ آدار 1966 غيب الموت الموسيقار محمد القصبجي عن عمر ناهز 74 سنة ، انطفأ القصبجي الذي يدين له الغناء العربي بالثراء .. مشلولا ، وحيدا ، لا يزوره سوى قلة من الأصدقاء ، لم تقم له جنازة عسكرية على غرار بعض أقرانه ، رحل في صمت كما عاش في صمت ، إلا أن النقاد المنصفين اعترفوا له بالريادة ، فبعيد رحيله كتب أحد النقاد قائلا « إن ألحان القصبجي سبقت زمانها بمئة عام على الأقل » ، وقبلها علق الموسيقار محمد فوزي على أغنية أنا قلبي دليلي التي لحنها لليلى مراد قائلا : « إنها ليست أغنية العام 1946 ، إنها أغنية للعام 2000 . » ، قالت عنه تلميذته أم كلثوم بعد وفاته : «كان موسيقيا عالما سابقا لعصره بسنوات». لم يخطأ الذين اعتبروه المجدد الثاني في الموسيقى العربية بعد الشيخ سيد درويش ، فقد تفوق في هذا على جميع معاصريه من الكبار، فالشيخ زكاريا أحمد اكتفى بالتطريب ولم تكن التجارب التجديدية من أجندته ، ورياض السنباطي كان يرى أن التجديد ينبغي أن يتم داخل القالب الشرقي الأصيل ذاته ، وحتى محمد عبد الوهاب كان لا يغامر بطرح أي شكل تجديدي إلا بعد استبيان رد فعل الجمهور.
مسيرته درس من دروس الغناء العربي التي تستحق أن تدرس في معاهد الموسيقى الشرقية ، فقد ولد في 1892بعد تسعة وعشرين يوما فقط من مولد الشيخ سيد درويش ، نشأ في عائلة فنية موسيقية معروفة. فوالده الشيخ علي إبراهيم القصبجي، كان عواداً وملحناً غنى له عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وصالح عبد الحي وزكي مراد (والد ليلى مراد) ومحمد السنباطي (والد رياض السنباطي)، وكان منشداً ومقرئاً معروفاً في حي عابدين ، وعلى يديه تعلم اصول الموسيقى العربية والعزف على العود ، بعد ممارسة وظائف مختلفة استقر به المقام في مملكة التلحين ، وفي البداية عمل عوادا وملحنا للطقاطيق الرخيصة لعوالم شارع محمد علي ، ثم إجتدبته السيدة منيرة المهدية وبنات جيلها ، لكن نقطة التحول كان لقائه بالسيدة أم كلثوم في بيت الملحن أبو العلاء محمد ، كان طوق النجاة بالنسبة لكوكب الشرق خاصة بعد وفاة أستاذها الأول الشيخ أبو العلا محمد وخلافها مع ملحنها آنذاك الطبيب الهاوي أحمد صبري النجريدي ، استطاع القصبجي أن يرفع أم كلثوم إلى السماء ، فأعطاها من كل الأشكال ، ومعها كان فتحه الأول في تاريخ الموسيقى العربية مونولوج إن كنت أسامح في سنة 1928 الذي دخل تاريخ الغناء العربي لا بحمولته التجديدية الكبيرة فقط ولكن لكونه أول عمل غنائي عربي حطم حاجز المليون أسطوانة ، علاقته مع أم كلثوم إحدى أساطير الغناء العربي فبعد رائعة رق الحبيب عام 1944 ، أحالته السيدة أم كلثوم على معاش التلحين ، وباءت كل محاولاته للعودة معها بالفشل ، واختلفت الروايات في تفسيرما حدث ؛ فمن قائل أنها إنما أدبته لتقويته لغريمتها على عرش الغناء أسمهان وإعطائها أعذب الألحان ، ومن قائل أن السيدة أم كلثوم شعرت أن معينه نضب بعد تشابه ألحانه الأخيرة وتكرار نفسه ، لكنه كما قال الموسيقار مدحت عاصم كان بمثابة الأستاذ الذي وقع في حب تلميذته ، فرضي أن يصير رئيس لفرقتها ثم مجرد عواد ظل يعزف في حفلاتها حتى العام 1966 تاريخ وفاته .
كان القصبجي أحد الملحنين الذين التقطوا عبقرية صوت أسمهان ، فأعطاها أجمل ما غنته ، ويحتفظ لهما تاريخ الغناء العربي بكثير من الروائع من قبيل ليث للبراق وهل تيم البان وفرّق ما بينا ليه الزمان وايمتى حترف ايمتى ثم رائعة يا طيور غني حبي التي إرتأينا أن نبرزها في احتفالية الذكرى 43 بما يليق بها .
نجحت ألحان القصبجي مع مطربين ومطربات من مختلف المستويات ومن مختلف الأجيال كمنيرة المهدية وفتحية أحمد و نجاة علي وإبراهيم حمودة ونور الهدى وليلى مراد وسعاد محمد ورجاء عبده و عبد العزيز محمود والقائمة طويلة ، وفي عام 1946 قرر اعتزال التلحين إلى الأبد بعدما شعر أنه أدى رسالته التجديدية كاملة وأنه لا يمكنه أن يعطي ألحانا تسيء إلى ماضيه الطويل.
لحن القصبجي في جميع الأشكال التلحينية ، وبرز في الطقطوقة والقصيدة والمونولوج الرومانسي والأغنية السينمائية ، وكانت له محاولات ناجحة في الدور والموشح والمسرح الغنائي والموال ، وترك ثراثا هائلا ، فلحن 4 مسرحيات غنائية و30 قصيدة ، كما لحن 13 دورا و182 طقطوقة و43 مونولوجاً إلى جانب 91 أغنية تغنى بها عدد من المطربين فيما قدموه من أفلام بلغ عددها 38 فيلما .
لو سألت مؤرخي الغناء العربي عن القصبجي لأجابوك:
إنه رائد المونولوج الرومانسي في الغناء العربي الذي ارتفع بهذا الفن ووضعه في القمة ؛
إنه المجدد الثاني لتلحين القصيدة في الغناء العربي بعد محاولات الرائدين الكبيرين عبد الحامولي والشيخ أبو العلا محمد وأول من أدخل المقدمة الموسيقية بدل الدولاب في تلحين القصيدة ، وأول من طعم التخت الشرقي المصاحب لغناء القصيدة بالآلات الغربية ؛
إنه« سيد عازفي العود» في القرن العشرين ، فقد جمع بين التكنيك العالي في العزف والخيال الخصب في التقاسيم ، وكان من تلامذته محمد عبد الوهاب ، رياض السنباطي وفريد الأطرش؛
إنه أول من طور المقدمة الموسيقية في الأغنية العربية ، وجعلها من صلب الأغنية لامجرد تمهيد للغناء ؛
إنه رائد المرحلة الرومانسية في الغناء العربي مع الشاعرأحمد رامي ، وعلى يديه أخذت الأغنية الغزلية أبعادها الشاعرية ؛
إنه أول من وظف الهارموني في الموسيقى العربية توظيفا علميا موفقا ، وجعله موافقا للسلّم الموسيقي اللحني العربي، بحيث بقيت الأغنية العربية محتفظة بروحها ومميزاتها ؛
إنه الوحيد من كبارعمالقة التلحين الذي أتقن التدوين الموسيقي ، في وقت كان أغلب أقرانه يلحنون بالسماع ؛
إنه من القلائل الذين برعوا في تلحين الأغنية السينمائية ، وكان يستمد مادة الطقاطيق التي يلحنها للسينما من أجواء المشاهد السينمائية؛
إنه أحد قلة استطاعوا تحقيق معادلة التعبير بالموسيقى قبل الكلمة ؛
إنه مبدع روائع الغناء العربي من مثل إن كنت أسامح و يا طيور و رق الحبيب وأنا قلبي دليلي وغيرها كثير؛
إنه الملحن العربي الوحيد الذي انفرد بمقدرة عجيبة على الارتفاع بالكلام الهزيل السخيف إلى مستوى رفيع عن طريق موسيقاه مثل أغنيات ادفع اطلع ؛ اضحك كركر ؛ ياجمال العصفور وأما قلبي دليلي ؛
إنه واحد من الذين نقلوا الأغنية العربية من التطريب التركي إلى التعبيرية البديعة التي تأثرت بالغرب دون أن تخرج عن الروح الشرقية الأصيلة ؛
إنه .. وإنه ..وإنه ....
وبرغم كل إسهاماته في تطوير الموسيقى العربية والتي لا ينكرها إلا جاحد ، فإن الرجل لم يأخذ نصيبه من التكريم والاحتفاء فقد بقيت شهرته متواضعة وطغت عليها أسماء العمالقة الآخرين سيد درويش ، زكاريا أحمد ، محمد عبد الوهاب ، رياض السنباطي وحتى فريد الأطرش ، لقد بقيت ألحانه أشهر منه.
لم يكن من الذين يجيدون تسويق أنفسهم ، وكان منعزلا عن الناس والتواضع عملة لا يعترف بها العرب بل ويزدرون صاحبها ، لذلك لم يلق الاهتمام إلا بعد غيابه ، فقد حجبت عنه جائزة الدولة التقديرية وذهبت إلى من هم أقل منه موهبة ، وتجاهله الإعلام رغم أن من هم أقل منه موهبة ملئوا الإذاعات والتلفزيونات بالزعيق ، وفي الوقت الذي تجاهله أبناء جلدته أطلق اسمه على معهد موسيقي في اسطنبول بتركيا ، واعترافات الآخرين بإسهاماته أكبر من أن تحصى ...
إن منتدى سماعي الذي عودنا دائما أن يكون في المواعيد الكبرى ، إذ يحتفل بالذكرى 43 لرحيل القصبجي ، فإنما يكرس دوره الريادي في التوثيق لتاريخ الغناء العربي ، وإذ نثمن مبادرته السابقة بالاحتفاء بأعلام آخرين ، نرجو أن يقبل منا شعارا لهذه الاحتفالية هو إعادة الإعتبارللمجدد الثاني في الغناء العربي .
رد مع اقتباس