الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 26/03/2008, 06h35
الصورة الرمزية hamorabib
hamorabib hamorabib غير متصل  
عضو سماعي
رقم العضوية:8807
 
تاريخ التسجيل: novembre 2006
الجنسية: لبنانية
الإقامة: لبنان
العمر: 64
المشاركات: 7
افتراضي القصبجي العبقري المظلوم

محمد القصبجي... العبقري المظلوم؟
42 عاماً علـى رحيل محرّر الأغنية العربيّة

حين قدّمت ليلى مراد «أنا قلبي دليلي» عام 1948،علّق محمد فوزي أنّها «أغنية العام ألفين!». لكنّ ملحّنها مات في الظلّ، وبقيت أغنياته أشهر منه. عودة إلى الفنان الذي قارب التأليف السمفوني، وزاوج بين الكلاسيكيّة والتجديد
في الربع الأول من القرن العشرين، ظهر حاملاً شكلاً موسيقياً جديداً، بعدما تيقّن من أنّ المعرفة العلمية هي ما كان ينقص الموسيقى العربية. اطّلع على تجارب من سبقه، وألمّ بالموسيقى العالمية. حمل نفساً جديداً يتجلّى، بصوت أم كلثوم، في أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» (1928) التي أجلست فنّ المونولوغ على عرش الثبات والتجدد، لتتخلص الأغنية العربية من شكلها التقليدي. هكذا صارت المقدمة الموسيقية المستوحاة من عالم الأغنية نفسه مدخلاً مهماً يمهد للمستمع الولوج إلى عالم الموسيقى وسحر الكلمات المغناة.إنّه محمد القصبجي (1892 ـ 1966) الظاهرة الموسيقية التي حرّرت الغناء العربي من قيد الأسلوب التقليدي، لينطلق إلى التعبير بالموسيقى قبل الكلمة. تحوّل هذا المبدع «الخجول» محفّزاً لأغلب معاصريه على اتباع المنهج العلمي في أعمالهم، ونبذ الاستسهال
والنمطية في البنية اللحنية. وفي هذا المناخ، ظهرت مواهب موسيقية نهضت بواقع الموسيقى العربية ومن ثم الأغنية، مثل محمد عبد الوهاب الذي تتلمذ على يد القصبجي وتعلم عنده العزف على العود، ودرس علوم الموسيقى لمدة خمس سنوات، ثم رياض السنباطي ومحمد الموجي ومحمد فوزي وغيرهم. تأثير القصبجي امتدّ إلى بلدان عربية أخرى، فطال زكي ناصيف وتوفيق الباشا. ويرى فيكتور سحاب، في كتابه «السبعة الكبار»، أنّ وجود معهد موسيقي في اسطنبول باسم محمد القصبجي، هو «اعترافٌ بخطورة هذا الفنان».
محمّد القصبجي الذي توفي في مثل هذا اليوم قبل 42 عاماً، تمتّع بفكر موسيقي سمفوني، لا يقرب الارتجال والجمل اللحنية المتداولة والبسيطة. واتخذ من دار الأوبرا المصرية مدرسةً له، حيث كانت الأعمال الأوبرالية والسمفونيات العالمية تساعده في فضح الأساليب البسيطة التي سادت عالم الأغنية العربية حينذاك. كما درس الموسيقى الغربية، وخصوصاً المرحلة «البوليفونية» التي تعتمد تعدد الأصوات الموسيقية، وعلى قمة هرمها يتربّع الألماني جان ــــ سيبستيان باخ (1685 ــــ 1750) الذي يعد تراثه خلاصة المدرسة البوليفونية من الناحية المدرسية والإبداعية، ثم المرحلة الكلاسيكية «الهارموني» التي تعتمد التوافق اللحني، وقد ظهرت وتطورت على يد النمساوي هايدن (1732 ــــ 1809)، لترسّخ أسلوباً جديداً في النسيج الموسيقي، وتحتل محل البوليفونيا.
ولم يفت القصبجي أن يحتك بعلوم الموسيقى الغربية، لا سيما في مجال الأوبرا وفنونها. وخير دليل على ذلك التماهي مع الموسيقية الغربية، أغنية «يا طيور» التي سمعها الجمهور بصوت أسمهان عام 1941، وتبدو مقدمتها الموسيقية كأنها مكتوبة بطابع سمفوني، لكنها ظلّت متمسكة بطابعها الموسيقي العربي في الوقت عينه.
ويعترف الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنّ القصبجي كان سبّاقاً في استخدام الهارموني والبوليفوني، بأسلوب علمي صحيح... كما يعترف بأنه تأثر بما أنجزه القصبجي في مجال المونولوغ، ومنه جاءت أعماله «اللي يحب الجمال» و«الليل يطوّل عليّ» و«بلبل حيران» وغيرها.
هكذا صار محمد القصبجي أحد أهم الموسيقيين الذين طوّروا الأغنية العربية، هو الذي ينتمي إلى عائلة فنية موسيقية معروفة. فوالده الشيخ علي إبراهيم القصبجي، كان عواداً وملحناً غنى له عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وصالح عبد الحي وزكي مراد (والد ليلى مراد) ومحمد السنباطي (والد رياض السنباطي)، وكان منشداً ومقرئاً معروفاً في حي عابدين. وعرف عنه أيضاً كتابة النوتة الموسيقية لكثير من الملحنين الذين عاصروه. وقد أحصى محمود كامل في كتابه «محمد القصبجي، حياته وأعماله» 360 أغنية من تأليفه... كما وضع للمسرح قرابة 35 لحناً موزعاً بين خمس مسرحيات هي «المظلومة»(1926)، و«حرم المفتش» (1926)، و«حياة النفوس» (1928)، و«كيد النساء» (1928)، و«نجمة الصبح» (1929). وله 91 أغنية وضعها لـ38 فيلماً سينمائياً، أغلبها ينتمي إلى الطقطوقة التي يأخذ طابعها الأدائي شكل الأوبريت. إذ كان معروفاً عن القصبجي أنه يستمد مادة الطقطوقة من أجواء المشاهد السينمائية.
لكنّ أعماله حظيت بشهرة لم يحظ بها هو شخصياً، وتلك ظاهرة غريبة، وخصوصاً إذا ما قارنّاها بما حظي به رفيقه الشيخ سيد درويش وزكريا أحمد، إضافة إلى شهرة الشاعر أحمد رامي التي تجاوزت بكثير شهرة القصبجي... وتزداد دهشتنا لدى المقارنة مع الشهرة التي كانت من نصيب تلميذه محمد عبد الوهاب. وقد عزا بعض النقاد تلك الظاهرة إلى أن القصبجي ابتعد عن أداء أغانيه بصوته، كما كان يفعل سيد درويش وزكريا أحمد أو عبد الوهاب. فمن منا لا يعرف أغنية «فرّق ما بينا ليه الزمان» و«ايمتى حترف ايمتى» و«يا طيور غني حبي» بصوت أسمهان؟ وأغنية «يا صباح الخير» أو «رق الحبيب» أو «يلي جفاك المنام» بصوت أم كلثوم؟ وتلك المداعبات الغنائية الجميلة بصوت ليلى مراد مثل «يا ريتني أنسى الحب» و«حبيت جمالك» و«أنا قلبي دليلي» التي سمعها الجمهور لأول مرة عام 1948. يومها، قال عنها محمد فوزي «إنّها أغنية العام ألفين!»، ظناً منه وهو يعايش تطور الأغنية العربية آنذاك بأنّ الموسيقى العربية والأغنية ستستمران بتجاربهما وتجددان فرسانهما.
ولا نبالغ إذا رأينا أنّ القصبجي لا يختلف كثيراً عن عمالقة الموسيقى الغربية الذين عملوا على تطوير موسيقى بلدانهم وموروثاتهم المحلية، بالاعتماد على دراسة تاريخ الموسيقى العالمية وتطويعه لخدمة موسيقاهم المحلية، من دون المساس بخصوصيتها. وهنا نشير إلى ما قاله الباحث الموسيقي اللبناني سليم سحاب في مقال له بعنوان «الموسيقى العربية والهارمونيا» نُشر عام 1995 في مجلة «الحياة الموسيقية» الصادرة في دمشق، إذ ذكر أنّ عباقرة الموسيقى الروسية مثل جلينكا وتشايكوفسكي ورخمانينوف وآخرون، ممن يمثّلون المدرسة القومية الروسية الكلاسيكية لدى استعمالهم الألحان الروسية الشعبية، أو لدى كتابتهم ألحاناً تحتوي على جميع خصائص الموسيقى الشعبية الروسية، لم يعالجوا هذه الألحان بالهارمونيا الكلاسيكية الأوروبية، بل أوجدوا لغة هارمونية جديدة تتلاءم مع «السلّم الموسيقي اللحني» للموسيقى الروسية. لذلك لم يضطر الموسيقيون الروس الكبار إلى تغيير التركيب الميلودي للألحان الشعبية الروسية التي استعملوها في أعمالهم.
وبعدما عاد جلينكا، مؤسس المدرسة الموسيقية الروسية القومية الكلاسيكية من دراسته في إيطاليا وألمانيا، وكتب سمفونيته «تاراس بولبا» ــــ وهي السمفونية الروسية الأولى ــــ على أساس ألحان شعبية روسية جمعها لهذا الهدف، مزّق سمفونيته بعدما وجد أن الهارمونيا الكلاسيكية الأوروبية التي استعملها لم تنسجم مع الألحان الروسية الشعبية التي عالجها. كما لم يتقيد شوبان، عبقري الهارمونيا، بالوظيفة الهارمونية الكلاسيكية في معالجة الألحان الشعبية البولونية التي استعملها في موسيقاه. أما اللغة الهارمونية الجديدة لمعالجة المادة الموسيقية ذات الطابع اللحني، فبلغت ذروتها في الموسيقى الروسية مع موسورجسكي... وقد لفتت لغته الهارمونية الجديدة نظر أهم موسيقيي فرنسا المخضرمين كلود دوبوسي الذي انكبّ على دراسة الموسيقى الشعبية الفرنسية القديمة، فوجد الدلائل نفسها، أي أنّ الموسيقى الشعبية الفرنسية مبنية على السلّم الموسيقي اللحني، ولا يجوز إطلاقاً استعمال الهارمونيا الكلاسيكية في معالجتها. من هنا ظهرت المدرسة الجديدة في الموسيقى الفرنسية «الموسيقى الانطباعية» المبنية أساساً على لغة هارمونية جديدة، وضعت خصيصاً لتتلاءم مع طابع الموسيقى الفرنسية.
وفي السياق نفسه، يمكننا أن نقول إن ما كان يشغل محمد القصبجي، هو ضرورة إيجاد لغة هارمونية جديدة تتلاءم مع السلّم الموسيقي اللحني العربي، بحيث تبقى الأغنية العربية محتفظة بروحها ومميزاتها. وعلى رغم ذلك، لم يأخذ القصبجي حقّه من الأضواء... هذا الموسيقي رضي بأن يكون عواداً في فرقة أم كلثوم، مفضّلاً العزلة والوحدة حتى الرمق الأخير.


العلاقة الصعبة مع أم كلثوم
العلاقة غريبة بين القصبجي وأم كلثوم. سمعها للمرّة الأولى عام 1923 تغني في مسرح «تياترو بايلوت باسك». كانت حينذاك ترتدي العقال، وتنشد قصائد في مدح الرسول. أعجب القصبجي بصاحبة الحنجرة الذهبية المتمكنة من الغناء الكلاسيكي. وفي العام التالي قدّم لها، من خلال شركة «أوديون»، طقطوقة «قال حلف ما يكلمنيش» من دون أن تعرف ــــ في البداية ــــ أنه مؤلفها. وكانت الانطلاقة الأولى لمغامرة استثنائيّة أعطت كوكب الشرق بعض أجمل ألحانها، قبل أن تؤدي إلى إحباط الموسيقي الكبير وانهياره. احتل القصبجي موقع الأستاذ الثالث في حياتها، بعد والدها وأبو العلا محمد. وكوّن لها الفرقة الموسيقية، وظل لسنوات يزوّدها بالألحان التجديدية التي مكنتها من الانتصار الكامل على فنانتين كانتا تتقدمان على أم كلثوم: منيرة المهدية وفتحية أحمد. لقد حقق القصبجي تجديداً نادراً مع «كوكب الشرق»، على امتداد عقدين (1925ـ 1945)، منذ «إن حالي في هواها عجب» و«إن كنت أسامح»... إلى الذروة التي تجسدها أغنيات مثل «ما دام تحب بتنكر ليه»، أو «رق الحبيب»، جامعاً بين تجذّره في تربة المقامات العربية، وانفتاحه على إنجازات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية. ثم وقعت الأزمة. فجأة أخذت أم كلثوم ترفض ألحان القصبجي، وتفضل عليها أخرى من تأليف السنباطي والموجي... إلى أن قالت له مرّة: يبدو يا «قصب» أنك محتاج إلى راحة طويلة!
وبعد الراحة الطويلة، ومحاولات «قصب» غير المجدية في العودة إلى التلحين، ثم عزله عن رئاسة فرقتها الموسيقية، تحوّل إلى مجرد عازف عندها ليحتفظ بمورد رزقه. واستمر القصبجي يعمل في فرقة أم كلثوم عواداً... إلى آخر يوم في حياته.

جريدة الاخبار اللبنانية
الكاتب حسين السكاف
عدد الاربعاء ٢٦ آذار ٢٠٠٨
رد مع اقتباس