عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 16/01/2008, 00h56
الصورة الرمزية احمد عبدالهادى
احمد عبدالهادى احمد عبدالهادى غير متصل  
رحمة الله عليه
رقم العضوية:21902
 
تاريخ التسجيل: avril 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
العمر: 68
المشاركات: 2,383
افتراضي رد: دراسه متكامله فى الشعر الصوفى

تابع الجزء الثالث

أوقفني في الموت،

فرأيت الأعمال كلها سيِّئات،

ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء،

ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار،

ورأيت الفقر خصماً يحتج،

ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء،

ورأيت الملك غروراً،

ورأيت الملكوت خداعاً.

وناديت: يا علم!

فلم يجبني.

وناديت" يا معرفة!

فلم تجبني.

ورأيت كل شيء قد أسلمني،

ورأيت كل خليقة قد هرب مني،

وبقيت وحدي.

وجاءني العمل،

فرأيت فيه الوهم الخفي،

والخفي الغابر.

فما ينفعني إلا رحمة ربي.

وقال لي: أين علمك؟

فرأيت النار.

وقال لي: أين عملك؟

فرأيت النار.

وقال لي: أين معرفتك؟

فرأيت النار.

وكشف لي عن معارفه الفردانيَّة،

فخمدت النار.

وقال لي: أنا وليُّك،

فثبتُّ.

وقال لي: أنا معرفتك،

فنطقتُ.

وقال لي: أنا طالبك،

فخرجتُ.


ربما يكون هذا التوزيع العمودي لـ"موقف الموت" تعدِّياً على النص الأصلي. لكن قراءته وفقاً لما هو مكتوب أفقياً، لابد أن تراعي الفواصل بين جملة وأخرى، مما يفضي إلى التوزيع الإيقاعي نفسه. وهو بذلك لا يختلف عن أي إيقاع داخلي لقصيدة النثر الحديثة؛ بل إن انتهاء الجملة بهذا الانسجام بين الإيقاعين النحوي والدلالي قد لا يتحقق كثيراً فيما يُكتَب الآن.

والأهم من هذا أن إيقاع هذه القصيدة جاء عفوياً وتلبية لتجربة النِّفَّري الشعورية. إذ إن تخلِّيه عن الوزن لم يجعل منه إيقاعاً مهموساً خافتاً. فالانفعال واضح في تلاحق العبارات المتمركزة حول دلالة الموت مشكِّلة وحدة مقطعية أولى، سوف تنتهي بقفلة معبِّرة عما يقصده النِّفَّري من هذا الموقف تماماً. فعبارة "بقيت وحدي" تدل على رفضه لكل ما رأى في هذا العالم لتنفي تورُّطه به. وتأتي الوحدة الثانية عابرة لتدل على ألا جدوى من المحاولة من أجل التغيير. أما الوحدة الثانية فهي انتقالية بين الوحدتين الأولى–الثانية والوحدة الرابعة–الختامية، ذلك أن النِّفَّري يعبِّر من خلالها عن لجوئه إلى الله بعد أن أدرك بطلان علمه وعمله في هذا العالم. في الوحدة الرابعة يتم الكشف عن الخلاص الفردي بعيداً عن أية حلول جماعية. وتنتهي القصيدة في الوحدة الخامسة بنداء الله للنِّفَّري وتلبيته لهذه الدعوة.

تفيد هذه المتتالية المنطقية لسير الدلالات في إبراز تقابلاتها الإيقاعية، إذ تعتمد الوحدة الأولى على تكرار الفعل "رأيت" كدلالة على ما هو دنيوي، وتعتمد الوحدة الخامسة على تكرار الفعل "قال" كدلالة على ما هو إلهي، بينما تعتمد الوحدة الثالثة على تكرار الفعلين معاً كدلالة على أنها وحدة انتقالية. وثمة تقابل مركزي بين عبارة "بقيتُ وحدي" التي جاءت خلاصة للفعل "رأيتُ" وعبارة "خرجتُ" التي جاءت خلاصة للفعل "قال". هذا بالإضافة إلى التكرارات والطباقات الثانوية التي تحقِّقها كل وحدة على حدة لتشكِّل في مجموعها وحدة إيقاعية على علاقة جدلية بدلالاتها. بل إن شعرية هذه القصيدة تقوم على رؤية كلية للوجود تولَّدت عنها مجموعة من الوحدات الإيقاعية–الدلالية التي أفضت إليها. ونتيجة لهذه العلاقة التي تحققت في قصائد عديدة من المواقف والمخاطبات، أبدع النِّفَّري لغة شعرية تجريدية تكاد تضاهي أرقى ما أبدعه الشعر الحديث في هذا المجال.

فلغة النِّفَّري في صدورها عن مرتبة المعقولات سوف ترتقي بالشعر وبالصورة الشعرية عن برزخ المعقولات الكونية إلى برزخ المعقولات الإلهية. وهي لم تكتف بالنقل – كما سيفعل البسطامي –، وإنما جعلت هذا "البرزخ" خالصاً بين اللغة ودلالاتها، بما يشكل نقله نوعية عن الشعر المحدث في أرقى أشكاله الصوفية:
فإن جاءك نصري فنم فيه.

فإن أوقفك في الصراخ فنم فيه


قد لا يكون إطلاق دلالة الصراخ أو النوم في شعرية النِّفَّري بجديد؛ فقد أوقف المتنبي، مرة، ممدوحَه في جفن الردى؛ وكذلك النِّفَّري أوقفه الله في مطلع القصيدة السابقة. لكن، وعلى اختلاف الموقفين، فقد أحالا إلى هذا العالم، فبقيت صورهما حاملة له، متعلِّقة به، بينما صورة النوم في الصراخ لا تحيل إلا إلى ذاتها. فالنِّفَّري لا ينام بين صراخ الأفواه أو فيه، إنما ينام في الصراخ مجرداً، مما ينفي أية استعارة. لقد فكر جان كوهن مؤخراً بالاستعارة المطلقة: "الأذان الأزرق" مثلاً!؟


__________________
يارب رحمتك نرجو الدعاء لي بالرحمه والمغفره
رد مع اقتباس