عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10/11/2008, 14h50
تميم الاسدي تميم الاسدي غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:308993
 
تاريخ التسجيل: octobre 2008
الجنسية: فلسطينية
الإقامة: فلسطين
المشاركات: 6
افتراضي رد: من الفنون الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة

الشَّاعر الشَّعبيّ الفلسطينيّ
المقالة الثانية
كُنت قد تحدَّثت في المقالة السابقة عن الشاعر الشَّعبيّ الفلسطينيّ ( الزَّجَّال ، الحادي ، الحدَّا بلغة العامَّة ) ، واليوم سأتابع حديثي إليكم مُظهرًا الميزات التي تمتَّع بها الشَّاعر الشَّعبيّ .
الميزة الأولى من الميزات التي تمتَّع بها شاعرنا الشّعبيّ القدرة على الابتكار ، ونحن نعني بذلك طَلاقة اللِّسان في التَّعبير عن الفكرة بأسلوب شعري منظوم ، وهذا الأسلوب ،كما هو معروف ، يتقيَّد بضوابط نظميَّة لا يجوز التّهاون بها ، فالنَّاس العالمون ، المدركون صناعة الفنّ ، لا يقبلون بالخروج عمَّا يجب من القيود ، مثل الوزن والقافية ، وأسلوب غناء كُلّ فنّ ، وما إلى ذلك من قواعد العمل الفنِّيّ .
في الابتكار لمعات البديهة السَّريعة ، التي من خلالها يستطيع الشَّاعر أن يرتجل عددًا من الأبيات ، ردَّة ، مطلعًا ، وكُلٌّ وفْق قدرته ، وموهبته ، وثقافته . فالمهارة في إتقان هذه الصَّنعة تتجلَّى في التَّحاور بين شاعرين حول موضوع معيَّن ، في سجال يحتاج إلى المعرفة بأصول الكلام ، والحجج والبراهين ، ولن يتمّ ذلك إلا بثقافة شعبيَّة ، وغير شعبيَّة ، يستقيها الشَّاعر الشَّعبيّ من تجاربه وتجارب النَّاس حوله ، ومن المطالعة في الكتب ، هذا إذا كان الشَّاعر من الذين يقرأون ، ويهتمُّون بالمعرفة ، وبالأحداث ، وبأحوال النَّاس ، فالشَُّعراء هنا مستويات ، منهم من قرأ ، فَعَرف ، فَطَوَّر ، فأَضاف إلى الموهبة المعرفِة ، فجارى من تقدم في هذا المذمار .
أما الميزة الثانية ، والتي لا غِنى عنها ، بلّ إنَّها قد تكون الأُولى عند البعض ، هي القدرة الصوتيَّة وجماليته في الأداء والتأثير بالنّفوس ، فالأصوات التي سُمعت في بلادنا تتمتَّع بقوَّة ، وقد أطلق النَّاس في فلسطين على الصَّوت القويّ عبارة "صوت جبليّ" ، و"الصَّوت الجبليّ" هو صورة عن جغرافيَّة بلاد فلسطين ، وبالأخصّ البلاد التي اشتهر بها فنّ الحُداء ، ولا عَجَب في ذلك ، ففي مصر يُطلِقون على الصَّوت الذي يُغنِّي فنون العتابا والميجنا ، وما إلى ذلك من فنون برّ الشَّام ، بالصَّوت الجبليّ ، تمييزًا عن الصوت الذي يسود بلاد مصر السَّهليَّة ، بواديها الجاري مع نهر النيل المنساب بسلاسة وهدوء . وهنا لدينا ملاحظة ، نأمل أن نعالجها في المستقبل ، وهي مدى علاقة الصّوت بجغرافيّة البلاد التي يُخلَق ويُطلَق بها .
لقد تمتَّع كثير من الشُّعراء الشَّعبيين بأصوات جميلة ، لدرجة أن هذه الأصوات لو قُدِّر لأصحابها أن يدرسوا الموسيقى في المعاهد العليا ، كما حدث مع الكثير من المطربين ، لتطوَّرت قدراتهم الإبداعيَّة أكثر فأكثر . وهنا يجب الإشارة إلى أن الشَّاعر الشعبيّ ، في أغلب الأحيان ،لم يعلم بأسماء المقامات التي يستخدمها ، ولا بالدَّرجات ، وهو وإن أتقن دوره ، إلا أنَّه لم يكن عارفًا بدقائق الأمور والعلوم الفنيَّة . والذي نريد أن نوضحَه أن الشَّاعر الشّعبيّ أخذ نغماته من الميراث ، من الذين سبقوه ، فنقل عنهم ، وقد طوَّر بعضهم نفسه بعد ظُهور الرَّاديو وسماع المطربين من شتَّى البلاد ، فنحن نعرف أن العديد من الشُّعراء الشَّعبيين أخذ في العقود الأخيرة بتطوير نفسه ، فكم شاعر غنَّى بنغمات سوريَّة ، أو لبنانيَّة ، بألحان جديدة ظهرت وسُمعت بالرَّاديو ، وهذا ما جعل هذه الصَّنعة تتطوَّر أكثر فأكثر ، حتَّى أخذنا نرى بعضهم يغنِّي مع الآلات الموسيقيَّة بأسلوب حديث ، بعد أن كان يغنِّي بأسلوبه المفرد ، أو مع الآلات النفخيَّة الشّعبيَّة ، مثل الأرغول والمجوز والشُّبَّابة (الناي) أحيانًا .
الميزة الثالثة ، التي توفَّرت عند معظم شعرائنا الشعبيين ، هي الشَّخصيَّة القويَّة من جهة ، ومن جهة أخرى السَّلسة ، التي تعرف كيف تتعامل وتتفاعل مع النَّاس ، وفي مختلف المناطق ، فيحبُّها النَّاس ، بأجناسهم وأطيافهم ، والمعروف أن فلسطين بلاد التَّعدديَّة المنسجمة مع ذاتها ، بكلّ ألوانها وأطيافها . هذه الميزة الطَّيِّبة جعلت الشَّاعر الشّعبيّ قادرًا على التَّواصل مع كلّ الفئات ، فلا عجب بذلك فهو الشَّاعر الشَّعبي الذي يعبِّر عن النَّاس ، بمدِّهم وجزرهم ، ووصلهم وصدِّهم ، وبكلّ حالاتهم النَّفسيَّة والتَّقلُّبات التي تصيبهم ، من خلال ظروفهم السّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة . وكما هو معروف أنّ الشَّاعر الشَّعبيّ أكثرهم تأثّرًا بالحدث اليوميّ ، وبما يجري مع النَّاس من شؤون الحياة العامَّة والخاصَّة .
الميزة الرَّابعة ، والتي أراها مهمَّة جدًّا ، وهي هيئة الشّاعر وأخلاقه ، وهنا يجب التَّذكير أن الشَّاعر إبن بيئته ، بعاداتها وتقاليدها ، وهو أكثر النَّاس تمسُّكًا بها ، فالمعروف أن شعراء فلسطين الشَّعبيين طافوا البلاد ، وعاشوا بين النَّاس ، حتَّى أن أحد أبناء هؤلاء الشُّعراء الشَّعبيين قال في كلمة رثاء والده يوم تشييعه ، عندما رأى النَّاس من كلّ حدب وصوب ، قد أَتَوا لتشييع والده إلى مثواه الأخير ، شاعرهم الذي عايشهم وعايشوه ، "يا أهلنا لكم به أكثر منَّا " ، وهو يعني ما يقول ، فَوالده قد غُمر بالنَّاس ، بمناسباتهم وأحداثهم ، بحياتهم الخاصَّة والعامَّة ، وهو إبن لهم ، وأخ ، وشاعر ، وصديق ، وهنا يجب القول ، أنّ شعراءنا الشَّعبيين استطاعوا ، بحكمة وبذكاء ، أن يقولوا الكلمة الطَّيِّبة ، وأن يتصرَّفوا التَّصرُّف اللائق ، وأن يقرِّبوا النَّاس من بعضهم البعض ، ويتركوا الصَّدى الحسن لصوتهم المعبِّر . وعندما قلت الهيئة ، أردت بها المنظر أيضًا ، فالشّاعر الشعبيّ قنديل الفرح ،كما كان يخاطب الشَّاعر زميله قائلاً له : " إسْمَعْني يا زَميلي يا قَنديل التَّعْليلِه " ، ونحن في بلادنا ما زلنا نذكر العديد من شعرائنا الشَّعبيين بطلَّتِهم المبهجة ، المفرحة ، كيف لا وهم شعراء الأفراح . ونذكر أيضًا الزيّ العربيّ التَّقليديّ الجميل ، الذي كان مثالاً للذَّوق الجمالي ، فهم في عيون النَّاس ، والنَّاس يتمتَّعون برؤيتهم .
إلى هنا آمل أن تكونوا قد تمتَّعتم ، وإلى لقاء جديد .
رد مع اقتباس