عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05/05/2009, 23h34
MAAAB1 MAAAB1 غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:16330
 
تاريخ التسجيل: février 2007
الجنسية: المانية
الإقامة: المانيا
المشاركات: 1,194
افتراضي رد: وديع الصافي صوت تاريخي في الغناء العربي .. إلياس سحاب

وديع الصافي صوت تاريخي في الغناء العربي

إلياس سحاب



معالم النهضة الموسيقية
لم يكن الأمر يتعلق فقط، بظهور صوت غنائي عظيم (بكل ما في الكلمة من معنى) في لبنان، لكن اكتمال نضج هذا الصوت التاريخي الاستثنائي، قد تزامن مع نضج ثمار النهضة الموسيقية في المشرق العربي، التي انطلقت مواسمها الأولى في عقد الأربعينيات في فلسطين (قبل النكبة) عبر إذاعتي القدس والشرق الأدنى، ثم انتقلت إلى بيروت التي أصبحت (كما سيتضح فيما بعد) مركزاً لنهضة مشرقية عامة، يلعب الفنانون اللبنانيون والفلسطينيون فيها دور العصب الحساس.
والحقيقة أن عقد الخمسينيات قد تميز في لبنان بمعلمين مهمين من معالم هذه النهضة الموسيقية:

  • إنشاء مهرجانات بعلبك الدولية، في أوخر عهد الرئيس اللبناني كميل شمعون في العام 1956. واعتمادها في العام الثاني لولادتها (1957) حصة للفن اللبناني المحلي، تحت عنوان «الليالي اللبنانية».
  • بدء النهضة الجدية لإذاعة بيروت الكبرى في العام 1958، مع بداية عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب.


لقد تجمعت للنهوض بهاتين المؤسستين الفنيتين، كل المواهب الفنية التي ولدت وترعرعت في لبنان وفلسطين في الربع الأول من القرن العشرين، والربع الثاني منه.
في هذا الوقت كان وديع الصافي، يستكمل تكوين شخصيته الفنية، كما قال، بعلاقة مثمرة مع الفنان ميشال خياط في كواليس الإذاعة اللبنانية، الذي كان يطلعه، بعد كل ما اطلع عليه بنفسه، على ذخائر نتاج كل من سيد درويش وزكريا أحمد، وتراث القرن التاسع عشر.
لذلك، وبما أن السنوات الأولى من هذه النهضة قد عرفت نوعاً من العمل الجماعي بين هؤلاء الفنانين، على نقيض المرحلة اللاحقة التي انصرف فيها كل إلى خدمة شهرته الخاصة (المؤسسة الرحبانية ركزت على فيروز، على سبيل المثال)، فقد أصبح وديع الصافي البطل الذي ملأ فراغ الدور الذي كان قبله يبحث عن بطل. وفي رأيي الخاص، أنه لو كوّن الفنانان الكبيران وديع الصافي وزكي ناصيف ثنائياً فنياً ثابتاً، كما في حالة الأخوين رحباني مع صوت فيروز، لاغتنت المكتبة الغنائية المشرقية بذخائر نفيسة لا مثيل لها. لكن كل أحاديث وديع الصافي، القديمة والجديدة، كانت تعبر عن اقتناعه بأنه أحسن من يلحن لصوته، لأنه أحسن من يفهم صوته.
الصافي.. صوت وأداء
مع أن حنجرة وديع الصافي تملك عدداً من المزايا الفنية الطبيعية لدى الأصوات الجميلة، فإن هذه الحنجرة قد حباها الله بمزايا أخرى استثنائية، إلى درجة تبدو أحياناً مخالفة للطبيعة البشرية للأصوات.
في التكوين الطبيعي لحنجرة وديع الصافي أولاً ميزة اتساع المساحات الصوتية على كل الدرجات المرتفعة والمنخفضة، حتى أطلق عليه شيخ النقاد العرب كمال النجمي لقب «جاجارين الطبقات الصوتية» (معلوم أن جاجارين هو أول إنسان ارتاد الفضاء الخارجي)، وميزة امتلاك معدن بالغ النفاسة، عز نظيره في الأصوات المعروفة. وإذا كانت هذه المزايا هبة الخالق، فإن الدربة الطويلة التي درب وديع الصافي صوته على أدائها، في مختلف الألوان الدينية والدنيوية التي استعرضنا في مطلع هذه السطور، قد زودت صاحب هذه الحنجرة المميزة أصلا، بأساليب ساحرة في الأداء الغنائي، أولها قدرته على تغليف المعدن النفيس لحنجرته بما يشبه الحرير أو المخمل، أي بحنان ورقة ودفء إنساني قل أن اجتمعت في صوت بهذه المواصفات الجميلة.
ويصل أداء وديع الصافي إلى ذروة تجعله يبدو مخالفا للقوانين الطبيعية. فهذه القوانين تقول إن الصوت البشري عندما يرتفع إلى درجاته العليا، فإنه يزداد ضيقا وحدة، إلا صوت وديع الصافي، الذي يسيطر عليه صاحبه في مساحاته العليا، ليغلفه بحنان ورقة عز نظيرها في الأصوات الأخرى، عندما تصل إلى هذه المساحات العليا المرتفعة، بما يذكرنا بصوتي عبدالوهاب وأسمهان فقط.
المزية الأخرى في أداء وديع الصافي،خاصة عندما يدخل غناؤه في مساحات الارتجال اللحني والغنائي، أن الدربة الطويلة على تراث الفولكلور اللبناني، والتراث العربي الكلاسيكي، والإنشاد الديني المسيحي المشرقي، الذي يوازي في غناه ينابيع الإنشاد الديني الإسلامي، هذه الدربة زودت أداء وديع الصافي بقدرة على التنقل بين المقامات الموسيقية العربية، إلى حد كثيراً ما يصيب المستمع العارف أو الحساس، بالدهشة والذهول، ويبدو ذلك أكثر ما يبدو في أدائه للمواويل، بشكل خاص مع صباح ونجاح سلام، وفي بعض تسجيلاته مع فيروز، مثل فاصل «سهرة حب» وفواصل الموشحات والقصائد. حتى أن فكتور سحّاب سجل له في كتابه عنه مساجلة ثنائية بينه وبين صباح، يغني فيها مقام الهزام على الدرجات العليا، ثم الوسطى، ثم المنخفضة، حتى يصل إلى الدرجة المناسبة لصوت صباح، كل ذلك اعتماداً على حنجرته، وليس على الآلات الموسيقية المرافقة، التي كان بعضها يتوقف عن العزف عجزاً عن مجاراة التقلبات السحرية في أداء حنجرة وديع الصافي.
إن مكتبات إذاعتي دمشق وبيروت، مليئة بنماذج من هذا الغناء الفريد الساحر لحنجرة وديع الصافي، التي زودها الله بميزة أخرى (تذكرنا بأم كلثوم)، وهي أن طبقات الصوت العليا لدى وديع الصافي بقيت تتحدى تقدمه في العمر، حتى ما قبل سنوات قليلة، حتى أنه مازال يحتفظ إلى الآن بمساحات صوتية تفوق كثيراً ما يسمح به تقدمه في العمر، الذي بلغ السابعة والثمانين من السنين (أطال الله في عمره).
سحر الحنجرة
ومع أن هذه المواهب الربانية والمزايا المكتسبة في أداء وديع الصافي قد أمّنت له انتشاراً واسعاً بين جميع طبقات المستمعين، فإن التعرّف الكامل إلى كل كوامن السحر في هذه الحنجرة وهذا الأداء، يظل محصوراً في طبقة المستمعين العارفين بأسرار الصنعة، وكبار الموسيقيين والمطربين المحترفين. يكفي أن نستمع في هذا المجال إلى جلسة يغني فيها وديع الصافي في حضور محمد عبدالوهاب أو عبدالحليم حافظ، لنضع أيدينا على كل مكامن سحر الغناء لدى هذا المطرب الاستثنائي، حتى أن عبدالحليم حافظ في سهرة في منزل الرحابنة ببيروت، وبعد الاستماع إلى أداء مذهل من وديع الصافي لأغنيته الشهيرة على مقام نهاوند «ولو»، رفض كل إلحاح الساهرين عليه بالغناء، وقال بالحرف الواحد: بعدما غنى وديع الصافي، سأذهب لأبيع ترمس».
وكان من ثمار تأثر عبدالحليم بهذه السهرة، أن نقل أحاسيسه بهذا النغم لصديقه الموسيقار محمد الموجي، الذي صاغ له من قماشة «ولو» (على مقام النهاوند) أغنيته الرائعة أمام نادية لطفي في فيلم الخطايا «مغرور».

لا نبالغ إذا قلنا أن وديع الصافي هو صوت تاريخي في الغناء العربي المشرقي، لسببين مكتملين:
  • المزايا الخارقة والاستثنائية التي جعلته مطرب الجماهير ومطرب النخبة من الذواقة في الوقت نفسه.
  • الدور التاريخي الذي لعبه وديع الصافي، في مقدمة الأصوات التي تأسست عليها نهضة الموسيقى العربية المشرقية في القرن العشرين.

المصدر : مجلة العربي ـ الأحد 1 مارس 2009 5/3/1430هـ / العدد 604
رد مع اقتباس