الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 03/09/2006, 10h25
adham006
Guest
رقم العضوية:
 
المشاركات: n/a
افتراضي رياض السنباطي عاشق القصيدة الغنائية

رياض السنباطي عاشق القصيدة الغنائية

استعرضنا في مقالين سابقين في (العربي), مرحلتين من مراحلتطور فن القصيدة الغنائية في الموسيقى العربية المعاصرة, فيما بين القرنين التاسع عشر والعشرين: لا يكتمل تاريخ تطور الفن الغنائي العربي في العصر الحديث, إلابالحلقة الأخيرة من حلقات مؤسسي ومطوّري فن القصيدة الغنائية العربية المعاصرة, الفارس المجلي رياض السنباطي.
-عند إستكمال باقي المقالات الثلاثة في سماعي سوف يتم إدراج روابط لهم أدناه

مارس فن تلحين القصيدة باقتدار عدد من الموهوبين بينهم محمد عبدالوهاب وأحمد صدقي ومحمود الشريف ومحمد فوزي وفريد الأطرش وكمال الطويل ومحمد الموجي وسواهم في مصر, إضافة إلى خالد أبي النصر وحليم الرومي ونجيب السراج والأخوينرحباني وتوفيق الباشا وسواهم في بلدان المشرق العربي, غير أن عبدالوهاب والسنباطي بقيا الفارسين المجليين في هذا المضمار, لأنهما أسسا لكل الألوان الممكنة في فن القصيدة الغنائية, فبقيت كل التجارب اللاحقة, على قيمتها وجدتها, تدور في فلك إنجازات عبدالوهاب والسنباطي.

يمكن تأريخ بداية دخول رياض السنباطي ميدان القصيدة الغنائية بمنتصف عقد الثلاثينيات, عندما كان محمد عبدالوهاب قد وصل في تطوير هذا الفن, تأليفا وغناء, إلى مرحلة (أعجبت بي) البالغة التقدم والتطور. وهي المرحلة التي سرعان ما تطورت قبل نهاية عقد الثلاثينيات إلى مرحلة قصائد مثل الصبا والجمال, وسجى الليل, ومغناة قيس وليلى, ثم الجندول.
والحقيقة التاريخية تقول إن السنباطي قد بدأ تجاربه في ميدان القصيدة الغنائية منذ مطلع عقد الثلاثينيات, وإن كانت تلك التجارب أشبه بالتمارين الأولى فيهذا الفن الصعب, التي لم تبدأ ثمارها الناضجة بالظهور حتى النصف الثاني من الثلاثينيات.
ومع أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد اشتهر في تاريخ الغناء والموسيقىالعربيين بصفته الراعي الروحي والفكري والثقافي لمحمد عبدالوهاب, فإن شغف شوقي بفنون الموسيقى والغناء الذي بدأ بعبده الحامولي وعبدالحي حلمي, وكل من رافقهماوتلاهما من نجوم الموسيقى والغناء وصولا إلى عبدالوهاب, لم يبخل برعايته على نجوم التلحين والغناء التي بدأ بزوغها مع عبدالوهاب, مثل أم كلثوم, أو الجيل التالي, مثل رياض السنباطي.

افهم ثم لحن
ومن أشهر ما روي عن علاقة شوقي بالسنباطي, عندما بدأت مواهب هذاالأخير تلفت الأنظار والأسماع, أنه في إحدى الجلسات الفنية التي كان شوقي يستمع فيها إلى النجم الجديد الصاعد رياض السنباطي, اسمعه هذا الأخير قصيدة من ألحانهالأولى, فلاحظ شوقي عبارة صعبة المعاني في أحد الأبيات الملحنة, وتعمد سؤال السنباطي عن معنى العبارة, فلما لم يحر السنباطي جوابا, بادره شوقي بنصيحة غالية, يقول السنباطي إنها كانت من أهم الدروس التي تعلمها في حياته:
إياك يا بني أن تلحنبيتا من الشعر, أو عبارة لا تفهم معناها.
غير أن جذور السنباطي كانت, من قبل لقائه بأحمد شوقي, تضرب عميقا في الإنشاد الديني وتجويد القرآن الكريم, وليس عجيبا أو غريبا أن كل عباقرة الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر, والنصف الأول من القرن العشرين, كانوا إما من المشايخ, أو من أبناء المشايخ. وهذه القاعدة تنطبق بدقة أكبر على عباقرة تلحين القصيدة الغنائية. فقد كان سلامة حجازي وأبو العلا محمد من المشايخ, أما عبدالوهاب ورياض السنباطي فكانوا من أبناء المشايخ.
ونشأة السنباطي الأولى كانت شديدة الشبه بنشأة أم كلثوم الأولى, فقد كان لوالد كل منهما, فرقة إنشاد ديني تجوب قرى الريف المصري (وجه بحري), وكان والد رياض السنباطي يصحبه في حفلات الإنشاد الديني, اتكالا على صوته الواعد, كما كان يفعل الشيخ إبراهيم البلتاجي بابنته أم كلثوم.
كان رياض السنباطي إذن قادما من خلفيات مشتركة مع كل عباقرة وموهوبي عصره:
ـ تربى في أحضان الإنشاد الديني ومارسه مع والده.
ـ اطلع على تراث القرن التاسع عشر, وتراث النهضة الدرويشية في مطلع القرن العشرين.
ـ استند في توجهه إلى تجاربه الأولى في تلحين القصيدة الغنائية على إنجازات الفرسان المؤسسين الثلاثة: الحامولي وسلامة حجازي وأبو العلا محمد, وعلى النهضة الحديثة في فن القصيدة الغنائية, التي أطلقها من عقالها وفتح أمامها كل الآفاق, محمد عبدالوهاب.
لم يبق أمام السنباطي بعد أن ملأ خزانه الوجداني بتراث الإنشاد الديني, وتراث النهضة الموسيقية - الغنائية الأولى المخضرمة بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, وعايش بدايات النهضة التجديدية الثانية التي أطلقها سيددرويش, على أيدي محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب, لم يبق أمام السنباطي بعد ذلك سوى الانطلاق للتعبير عن شخصيته الخاصة المميزة في هذا السياق النهضوي التصاعدي.
حدث عند ذلك المنعطف أن ذهب السنباطي في بداية الثلاثينيات للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية طالبا, فاكتشفت اللجنة الفاحصة عندما استمعت إلى عزفه على آلة العود, أنها إنما تستمع إلى أستاذ لا إلى تلميذ.
ملحن استثنائي
لا تكشف هذه الحادثة فقط عن براعة السنباطي كعازف عبقري على آلة العود, نضجت مواهبه واكتملت في وقت مبكر, ولكنها تكشف بالتأكيد عن ولادة ملحن استثنائي, ذلك أن براعة رياض السنباطي في العزف على آلة العود لا تقتصر (كما ثبت فيما بعد) على براعة في السيطرة التقنية على الآلة, ولكنها تستند قبل ذلك إلى خيال موسيقي مجنح, وذخائر من الأحاسيس الفنية العميقة الغور, كان أثرها يبدو جليا واضحا كلما أمسك رياض السنباطي العود لمداعبته, وبقيت تلك ميزة واضحة حتى عندما قدم السنباطي بعض التقاسيم في مقابلته المطولة النادرة للتلفزيون الكويتي في أواخرأيامه.
كذلك حدث عند ذلك المنعطف في بداية حياة السنباطي, أن التحق مدة وجيزة بفرقة محمد عبدالوهاب في مطلع الثلاثينيات (تبدو صورته مع الفرقة الموسيقية في فيلم عبدالوهاب الأول (الوردة البيضاء)). ومن المؤكد أن ذلك لم يكن تعبيرا عن حاجة السنباطي للعمل في فرقة موسيقية, بقدر ما كان تعبيرا عن إعجاب مبكر بفن عبدالوهاب وجرأته التجديدية. ومن المؤكد أن الفنانين الكبيرين بقيا يتبادلان الإعجاب والاحترام, طوال زمالتهما الفنية, على عكس ما يشاع أحيانا في كواليس (الصحافةالفنية). فقد أتيح لي أن أستمع إلى عبارات واضحة في الإعجاب المميز الذي كان عبدالوهاب يكنّه لفن رياض السنباطي (على لسان ابنه الثاني أحمد) كما قدر لي الاستماع إلى تسجيل لسهرة فنية منزلية في بيروت, كان السنباطي يتحدث فيها باحترام وتقدير لا حدود لهما عن فن عبدالوهاب وأم كلثوم, ويدعو الساهرين إلى حمد الله على أننا عشنا في عصر هذين الفنانين الاستثنائيين, ويرفض مقارنتهما بأي من كبارالفنانين المعاصرين.
أستذكر كل هذه التفاصيل لاستكشاف العناصر التي تؤكد أن عظمة السنباطي الفنية (في فن القصيدة الغنائية مثل غيرها) التي ملأت القرن العشرين بقلاع شامخة في فن القصيدة, إنما استندت إلى كون السنباطي حلقة في العقد المتصل لكل المبدعين الذين سبقوه أو رافقوه, تماما كما استندت إلى تميز مواهبه الخاصة المتفردة وشخصيته الإنسانية والفنية الشديدة التميز.
يكتشف كل من يقترب من مكونات الشخصية الإنسانية لرياض السنباطي, أنه كان محكوما بالاتجاه إلى فن القصيدة, أكثر من سواه من فنون الموسيقى والغناء العربيين. من ذلك رصانته وجديته في حياته الخاصة والعامة, وميله العميق لحياة العزلة الاجتماعية التي تنتمي إلى حال التصوف والتأمل.
تحفة موسيقية
لكل هذه الأسباب والعناصر المكونة, لم يكن غريبا أن رياض السنباطي, عندما كان يخوض تجاربه الأولى المبكرة في فن القصيدة الغنائية, خرج علينا بتحفة تاريخية رائعة, تصلح لأن تكون تتويجا لرحلة طويلة في فن تلحين القصائد, أكثر مما تصلح لتكون خطوة أولى في هذه الرحلة, عنيت بذلك رائعته لأم كلثوم (سلوا كئوس الطلا), التي صاغ شعرها أمير الشعراء أحمد شوقي, تعبيرا عن إعجاب لا حدود له بأم كلثوم وغنائها.
إن تحليلا دقيقا لمكونات هذه القصيدة الغنائية, يجعلنا نضع اليد على أنها احتوت كل العناصر التي أسس عليها السنباطي فيما بعد الخط الأبرز في عمارته الشاهقة لفن القصيدة, وهو الخط الذي تغلب عليه المشاعر الصوفية (حتى عندما يكون موضوع القصيدة عاطفيا) كما تتجلى فيه فنون العمارة الهندسية العربية الكلاسيكية (بما يشبه قصور العرب في الأندلس, ويذكّر بها) مما ينعكس بدقة وأمانة وعظمة فنية على الهندسة الموسيقية لعمارة القصيدة الغنائية, وهو الخط الذي أكمله السنباطي فيما بعد في قصائده الدينية مثل سلوا قلبي ونهج البردة وولد الهدى وحديث الروح, وقصائده العاطفية مثل الأطلال, وقصائده الوطنية مثل (مصر تتحدث عن نفسها) و(صوت الوطن), والوصفية مثل قصيدة النيل.
ويجدر بنا الملاحظة هنا أن هذا الخط الأول إنما شكل في الرصيد العام لإبداعات السنباطي في فن القصيدة الغنائية, اللون الطاغي والمهيمن, حتى أن كثيرا من المعجبين بفن السنباطي (بمن فيهم بعض النقاد المختصين) يذهبون في إعجابهم بهذا الخط إلى درجة إهمال الخط الآخر البارز الوضوح في الإبداع السنباطي في مجال القصيدة الغنائية, الذي يتجه إلى آفاق الرومانسية والدرامية, بعيدا عن الخط الأول, وإن كانت شخصية السنباطي الفنية المميزة تبقى قاسما مشتركا واضحا بين الخطين.
وإذا كان الخط الثاني يبدو متقطعا ومقلا في لقاءات السنباطي بأمكلثوم, فينحصر في ألحان مثل اذكريني (في بداية التعاون المشترك) وقصة الأمس (في العصر الوسيط) وأقبل الليل ومن أجل عينيك, في أواخر الرحلة السنباطية - الكلثومية المشتركة, فإنه يتجلى بوضوح أكبر, في القصائد التي لحّنها السنباطي وغناها بصوته مثل فجر والزهرة (ذات يوم يا حبيبي) وأشواق. وإلى هذا الخط تنتمي القصيدة الرومانسية - الدرامية الخالدة التي صاغها أحمد رامي ولحّنها السنباطي وغنته اأسمهان في فيلمها الثاني والأخير (غرام وانتقام) وهي قصيدة:
أيها النائم عن ليلي, سلاما
لم يكن عهد الهوى إلا مناما
فهذه القصيدة المنطلقة من صميم الشخصية الفنية لرياض السنباطي, ذهبت إلى آفاق رومانسية - درامية عميقة حتى لتبدو أشبه بموسيقى (القداس الجنائزي) (ريكويام) في الموسيقى الكلاسيكية الأوربية.
المطرب الذي توارى
ولا يكتفي إبداع السنباطي في هذه القصائد الرومانسية بالارتقاء باللحن إلى مستويات مدهشة في المعادلة بين الأصالة والحداثة, ولكنه يكشف فيها (عدا قصيدة أيها النائم التي غنتها أسمهان) عن مطرب كبير, آثر أن يتوارى, تاركا لحنجرة أمكلثوم مهمة ترجمة ألحانه, وترجمة لإعجاب لا حدود له كان من المؤكد أن السنباطي يكنه لعظمة عبدالوهاب في الأداء الغنائي الرفيع.
ولعل أهم رأي قيل في مستوى الأداء الغنائي لرياض السنباطي, هو ذلك الذي كان محمد عبدالوهاب لا يكف عن ترديده فيقول:
(لو لم يغن السنباطي غير قصيدة (أشواق), لوجب اعتباره مطربا كبيرا).
برياض السنباطي, اكتملت حلقات العقد التاريخي للفرسان التاريخيين لفن القصيدة الغنائية العربية المعاصرة, وهو العقد الذي بدأ بعبده الحامولي وسلامة حجازي وأبو العلا محمد, واكتمل بمحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي, الذي لم يكن فقط واحدا من فرسان القصيدة الغنائية العربية, ولكنه تحول راهبا في محرابها, حتى آخرأنفاسه الفنية.


إلياس سحّاب
المصدر:

www.alarabimag.com
رد مع اقتباس