الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 11/01/2009, 00h03
الصورة الرمزية doctorluxor
doctorluxor doctorluxor غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:33615
 
تاريخ التسجيل: mai 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 136
افتراضي رياض السنباطي: كيف أصبح شخصية اجتماعية كبيرة؟

خيري شلبي
صحبة العشاق رواد الكلمة والنغم (ص 131)
رياض السنباطي: كيف أصبح شخصية اجتماعية كبيرة؟
منذ أن انتشر الراديو في القرى في أوائل الخمسينات بدأ الغناء الحقيقي يعرف طريقه إلى الأفهام، ولم تكن القرية المصرية تعرف من الغناء إلا لونًا معينًا من المووايل، ولم تكن تعرف أن ثمة فروقًا بين التلحين والأداء، وكانت خصية المطرب أو المغني تشتهر بنفسها فقط وينسب إليها الغناء الذي تغنيه حتى لو كان هناك من قام بتأليفه وتلحينه، ومع ذلك فقد اشتهر في قرانا اسم رياض السنباطي دون أسماء الملحنين جميعا، اشتهر كعلم على فن جديد تعرف القرية لأول مرة عبر الراديو اسمه التلحين، فكل تلحين جميل ينسب إلى رياض السنباطي تلقائيًّا، والسبب في ذلك ليس هو صوت أم كلثوم وما أعظمه بل الألحان التي كانت تغنيها وما أعظمها.
وكان في بيننا ما يسمى بالحاكي أي الجرامفون ولولا ما دوِّن على أغلفة أسطواناته من بيانات لما عرفنا أن ثمة من يسمى بالملحن وآخر يسمى بالمؤلف الغنائي وهما يعملان معًا في خدمة المغنى، وكانت أغنية (إله الكون سامحني أنا حيران) التي يغنيها السنباطي بصوته من ألحانه وكلمات حسين السيد قد انتشرت وكشفت عن شخصية مطرب كبير عظيم في شخصية السنباطي ومع ذلك بقي السنباطي في أذهاننا علما على فن التلحين الدعائية، وفكرت بأن حديثا صحفيًّا محترمًا يجريه أحد الشبان المتفهمين حول فن الغناء والتلحين قد يقنع بقبول الحديث، وهكذا يدفعني الغرور أن أكون هذا المحرر، ودفعني الخوف من جبروته وقوته الفنية أن ألتقي بكثير من دارسي الغناء والموسيقى والتلحين لأتوصل معهم إلى أسئلة هامة يمكن أن أناقش فيها رياض السنباطي فيحترمها ويجيب عليها.
ثم إنني بدأت مرحلة البحث عن رقم تليفونه - الذي تبين لي أنه يغيره كل بضعة شهور هربا من أصوات المتطفلين - فلما نجحت في الحصول عليه تَلْفَنْتُ له فإذا بالسيدة العظيمة زوجه (كوكب عبد البر) تردُّ عليَّ في رفق شديد وتستوعب كل الرجاءات الحارة التي ألقيتها على مسامعها لكل تقبل توصيل أذني بصوت السنباطي، ويبدو أنها أشفقت عليَّ فقالت إنها سوف تحاول إقناعه وإنني إذا عاودت الاتصال به بعد يوم أو يومين فربما استطعت الحصول على موعد منه، وخلال انتظاري ليوم أو يومين استمعت إلى عديد من الإشاعات في الوسط الصحفي تقول لي أن السنباطي إذا خضع لإلحاحي وقبل مبدأ إجراء الحديث فإنه سوف يطلب نقودًا على ذلك وحكوا لي حكاية طالب يمني جاء من لندن خصوصًا لمقابلته ووضع ظروفه الصعبة تحت سمعه ولكنه رفض مقابلته!
وتصورت أنني أستطيع التغلب على هذه الناحية المادية التي قيل إن شخصية السنباطي مصابة بها، فتفتق ذهني عن حلٍّ تصورته عبقريًّا، إذا اتصلت بإحدى جهات النشر الصحفي وكانت مزدهرة في ذلك الوقت من أوائل الستينات واتفقت معها على إجراء حوار مع السنباطي ولمحت في عيون المسئولين اعتقادًا بأن هذا الاتفاق لن يتم، فألقيت آخر سهم في جعبتي واقترحت عليهم أن يرصدوا ميزانية رمزية معقولة بعض الشيء يمكن دفعها لرياض السنباطي مقابل موافقته على إجراء الحديث، وفوجئت بأن هذا الاقتراح وهو غريب وجديد في ذلك الوقت يلقى بعض الترحيب من جانبهم، وقال المسئول إنه لكي يوافق على هذا الاقتراح لابد أن يقرأ نص الأسئلة التي سيدور حولها الحوار، وأن يكون لهم الحق في إضافة بعض أسئلة يرونها موضوعية وضرورية في الحوار مع السنباطي، ووافقت على ذلك, ووافقوا بدورهم أن يرصدوا للسنباطي أجرا يوازي أجر لحن في مقابل هذا الحديث الهام.
وبناءًا عليه اتصلت من جديد بالسنباطي بجرأة، وردت عليّ السيدة زوجته وما كادت تعرف اسمي حتى ابتسمت وقال إن كل جهودها أثمرت في أن يوافق السنباطي على الرد عليَّ في التليفون، فاعتبرت هذا كسبًا كبيرًا، ثم جاءني صوت السنباطي بكل رفق وبساطة يدعوني للمقابلة أولاً، وحدد لي موعدًا في نقابة الموسيقيين حيث إنه كان ذاهبا إليها في غرض ما ويستطيع مقابلتي لدقائق.
وذهبت أجري من الفرح، ولقيته هناك فإذا بي أرى عملاقا طويل القامة رفيعها، طويل الأصابع يرتدي منظارا، لكنه يمشي كما يمشي الناس ويتكلم كما يتكلم الناس، ثم سحبني من يدي كأنني أحد أبنائه، وانتحى بي جانبا، ثم جلس أمامي قائلا في حنو شديد إنه لا يحب الإدلاء بأي حديث لا في الصحف ولا في الإذاعات حتى ولو كان ذلك بأجر، قلت له ببراءة إن هناك أجرًا للحديث، فابتسم وقال لنفرض أن أجر الحديث سيكون أجر لحن مثلاً أليس كذلك؟ قلت نعم، قال أرني أسئلتك، فعرضتها عليه في حوالي خمس صفحات، فألقى عليها نظرة سريعة ثم قال: إن كل سؤال من هذه الأسئلة لا تصلح الإجابة عليه في أقل من ساعة مع استحضار الذهن والمراجع، وإن الإجابة التي ترضيه تحتم عليه أن يأخذ هذه الأسئلة ويدرسها ويجيب عليها في هدوء وروية، ولسوف يمنعه من ذلك أسباب أهمها أنه ليس لديه الوقت الذي يعطيه لها، واعتقاده الراسخ بأن الجهة التي ستذيع الحديث أو تنشره لن تتركه في حاله بل ستغير فيه وتعدل وهذا ما لن يقبله أبدا مهما تلقى من الضمانات الشخصية، ثم إنه طلب لي فنجانا من القهوة قال لي إنني لا يجب أن أصدق كل ما سمعته عنه من إشاعات بأنه مادي وأنه متكبر ومنعزل وما إلى ذلك فحقيقة الأمر أنه لا يستطيع التوفيق في شصه بين الفنان والدعائي، وأن الكثرين يملأون أعمدة الصحف والأثير بالأحاديث، ورأيه أنهم على قدر ما لديهم من إمكانيات فنية فإنهم يحرقون هذه الطاقة في الأحاديث الفارغة، ورأيه أن التحدث في الصحف كثير يجعله دون أن يدري يلتزم أمام القراء أو المستمعين ببعض القضايا ووجهات النظر الفنية التي يطرحها في حديثه وهو لا يحب أن يفعل هذا، إذ أنه لابد أن يطرح كثيرًا من وجهات النظر، وإن طرها فسيلتزم بها، وقد تثير بين الملحنين زملائه من المشاكل والردود ما يساهم في شغل وقته وتبديد اهتماماته وربما إفساد أعصابه، ثم قال كذلك أنه قد وضع لنفسه مناخًا صالحًا للتحلين ساعات طويلة، وهذا المناخ يتضمن سلوكا فكريًّا وفنيًّا معينًا لا يجب أن يجري فيه أي تعديل وإلا كان ذلك على حساب الفن، ثم إذا به ينهض فجأة ويتجه نحو التليفون ويطلب رقما فهمت من المحادثة أنه بيته، وكان ينبه على السيدة أن تحتفظ بالشريط الفلاني فلا تسلمه لفلان كما اتفق لأنه غيَّر رأيه فجأة، وحين عاد إليّ لم ينتظر تطفلي لمعرفة موضوع المحادثة فقال إنه الآن فقط طر له أن يغيِّر جملة موسيقيَّة معينة سبق أن صاغها بعدة صياغات مناسبة كلها وإنه الآن اقتنع بتعديله بمجرد استماعه لواحد ينادي في الشارع هل سمعته؟ قلت لم أسمع شيئًا، قال أما أنا فقد سمعت رجلا يتكلم في الشارع الآن بطبقة معينة وانفعال معين ألهمني أن الانفعال الصحيح لهذه الجملة الموسيقيَّة يمكن أن يستفيد بمثل هذه اللهجة الواقعية الصادقة، ثم إنه استأذنني في الانصراف لموعد هام في منزله، وفي الطريق إلى السلم كان قد شرد تماما وانفصل عني وأخذ يدندن في غموض، وانتهزت فرصة انتهائه من الدندنة وقلت له ما رأيه لو اعتبرنا هذا اللقاء السريع حديثًا ونشرناه؟ فقال باسما إنني أكون عدم المؤاخذة نصابًا كغيري من الذين يدردشون مع الفنانين في التليفون أي دردشة فارغة ثم ينشرونها اعتمادًا على أن صوتهم قد خاطب صوت الفنان بصرف النظر عن جوهر المخاطبة.
وكنت أهدف من خلال حديثي المقترح معه أن أعرف لماذا هو عظيم ولماذا قد أصبح شخصية اجتماعية كبيرة، وما أن صافحت قدمي أرض الشارع وحدي حتى أدركت من خلال هذا اللقاء السريع الخاطف كم هو عظيم، ذلك أن مقومات العظمة في شخص تبدأ أول ما تبدأ باحترامه لنفسه وسلوكه وتقدير الكلمة التي تخرج من لسانه، إن العمل الفني ليس مسؤوليته وحده بل إن سلوك الفنان لا ينفصل عنه، ومن يومها لم أحقد على السنباطي ولم تصبني النقمة عليه بسبب رفضه للأحاديث.
وقد حدث أنني شرفت بالحصول على جائزة الدولة التشجيعية في نفس العام الذي حصل هو فيه على الجائزة التقديرية، وجاءت جلستي في الحفل بجواره، فملت عليه هامسا بطلب حديث بهذه المناسبة، فابتسم قائلا إن العمر لم يعد فيه بقية لكلام النظري الفارغ، وإنه يفضل أن يشغل نفسه الآن بأعمال فنية يسد بها الفراغ الضارب أطنابه في حقل التلحين، قلت له ولكن أم كلثوم العظيمة ماتت وهي التي كانت تستطيع إبراز قوة ألحانك فهل ترى أن موتها كان السبب في أنك لم تقدم ألحانًا جديدة كبير باستثناء لحن القصيدة التي غنتها وردة؟ قال مبتسما إن هذا صحيح ولكن التلحين يشبه الكتابة الروائية، إنك قد تكتب رواية دون أن تعرف أين ستنشرها أو متى أو كيف صحيح إن جهة النشر مهمة في سرعة الإلهام والإنجاز ولكنك لابد أن تكتب مهما كان الأمر، إنني ألحن لا لكي يغني ألحاني أحد بل لكي أكون قد تركت أبنية متينة تقف بجوار الهرم الأكبر.
قلت له إذا كان الغناء كفن شعبي قد جعل من أم كلثوم اجتماعية كبرى فما تفسيرك لأن تصبح أنت كذلك من خلال التلحين مع أن التلحين يعتبر فنًّا برجوازيًّا والملحن شخصية لا تشتهر إلا بين مجتمعات مثقفة واعية؟ لحظِتْها شرد قليلا، وبصوته الخفيض قال إن المجتمع هو الذي تغير وأصبح يستوعب كثيرًا من الأدوار التي لم تكن شائعة فيه من قبل، وأحسست أن التواضع وحده وراء هذا القول المبتسر فطلبت إجابة أخرى في لطف، فقال أكثر لطفًا إن العقل المصري من أشد العقول تقبلاً للتطور واحتواء لظواهره المتفتحة، ولقد كان الغناء قبل عبده الحامولي والشيخ أبو العلا محمد وزكريا أحمد وسيد درويش مجرد رفع العقيرة بالصوت وتلوين النغم حسبما اتفق مع لحظة الانفعال الوقتية، ونحن جميعًا أساتذة وتلامذة حين اكتشفنا إمكانيّات المقامات الموسيقية العربية من خلال كتاب سفينة الملك وسفيرة الفلك لمؤلفه شهاب الدين حاولنا استظهارها، فارتفعنا بهذه المقامات إلى (مقامات) عليا، وبحث الشعب كعادته عمن يكون وراء الكشف عن هذه الإمكانيات فعرف شخصية الملحن المتخصص غير المطرب، فرفع الملحن إلى الدرجة التي تليق به.
ثم قطع الاحتفال خلوتنا ودخل السيد الرئيس لتوزيع الجوائز ونودي على السنباطي فصعد إلى المصرح عملاقًا كبيرًا وتسلم الجائزة ثم عاد، وكان يرتدي بنطلولنا وسترة عادية كأي شخص أقل من عادي، ثم جلس صامتًا لبرهة طويلة، ثم لما انتهى الحفل فوجئت به يبحث عني فلما رآني غمزني في ذراعي قائلا نسيت أن أقول لك شيئًا هامًّا يتعلق بالمجتمع المصري والشعب المصري ذلك أنه شعب يرتفع بمن يحاول الارتفاع به، وليس كما يشاع عنه ميَّالاً إلى السطحية والابتذال لقد ظهرنا أم كلثوم وأنا وغيرنا في مجتمع فيني تسود في أغنيات مبتذلة رخيصة تجد شهرة ورواجا لا قِبَلَ لأحد بمقاوماتها، وكان الاعتقاد بأننا إن لم نحاول تقليد هذه الأغنيات الرخيصة فإننا لن نجد لأنفسنا مكانًا في عالم التلحين والغناء، ولكننا أو أنا بالذات أدركت أن ذوق الجمهور المصري ليس مطبوعا على المستوى الرخيص، وإنما يسود الذوق الرخيص لأن القيادة الفنية للمجتمع تميل إلى الرخص وانحدار الذوق، وأنا شخصيًّا فكرت في مثل شعبي يردِّدُه المجتمع المصري منذ عشرات القرون وهو مثل بسيط جدًّا لكنه شديد العمق، إن المثل يقول (الباني طالع)، وحقيقة معنى هذا المثل أن كل من يعمل عملاً بنائيًّا متقنا فإنه يرتفع مع جدرانه إلى القمة التي تصل إليها الجدران، والمعنى رمزي طبعًا، ولما اقتحمت ميدان القصيد الشعري الفصيح لم يكن في ذهني أن نسبة قليلة من المثقفين هي التي ستستطيع استيعاب القصيد ومن ثم اللحن إنما كان في ذهني شيء واحد فقط هو أن أقوم ببناء ذوق جديد رفيع المستوى، وأن هذه المحاولة البنائية ستجد قبولاً رحبًا لدى الجمهور حتى ولو كان ذلك على المدى الطويل غير أن المدى لم يطل بل حدث الاحتكاك المباشر بين الأعمال الفنية التي قدمناها وبين التراث الحضاري القوي الراسخ في نفوس حتى العامة، وحدثت العلاقة الجدلية العظيمة بين رغبتنا في البناء وبين حب الجمهور للأبنية العالية المتينة.
قال هذا ثم سلَّم عليّ وانصرف.
__________________
عَجِبتُ لِـمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ * وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ
وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالي * فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ
وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً * كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ
رب همة أحيت أمة
رد مع اقتباس