الحلقة الثالثة من :
"دراسة في متغيرات الوعي الجمالي الموسيقي"
منذ عصر أبي الفرج الأصفهاني (القرن العاشر) الذي طالما أمتعنا في كتابه " الأغاني " بأخبار الموسـيقى والموسيقيين، ضَعُفَ فن الغناء والتأليف. وبغزو المغول وهدم بغداد عام 1258 ميلادي، خسر الفن الموسيقي أحد ألمع مراكـزه وأكثرها حركة، ومع وصول الأتـراك الحكـم ابتداءً من عـام 1517 ميلادي وانتقال مركز الخلافة إلى إستانبول، دخلت التأثيرات التركية في موسيقات المجتمعات العربية الإسلامية. أما الموسيقات المحلية والأشكال التقليدية للموسيقى العربية الإسلامية فقد بقيت فقط في تكايا الشيوخ والدّراويش والمساجد، وفي بعض حلقات الموسيقيين العارفين، وأصبح التراث التقليدي في عهدتهم.. وفي القرن العشرين رجعت الرّوح إلى الموسيقى والغناء، وكان الدّعاة لها هم من الدّراويش والمشايخ، وبعض الفنانين الذين تتلمذوا عليهم.
وبالمقابل ظهر اتجاه جديد من الخارج (متأثر بالموسيقى الأوروبية) ابتدأ مع محمد علي باشا بتأسيسه لأول معهد للموسيقى العسكرية، وذلك ضمن جهوده الرّامية إلى تحـديث مؤسسات الدّولـة. وتلاه الخديــوي إسماعيل، وكان طموحه أن تتغلغل الموسيقى الأوروبية في الأوساط الاجتماعية شيئاً فشيئاً. وشهد الشطر الأول من القرن العشرين تزايد دخول الموسيقى الأوروبية، وتزايد تأثيرها عندما أصبحت تدرّس في معاهد موسيقية متعددة. وبإنشاء أول معهد لتدريس الموسيقى العربية (عام 1929 وهو معهد فؤاد الأول) ترسخت دعائم "الازدواجية الموسيقية" في الفكر الموسيقي.
لقد حرص العراق وسورية وبلدان المغرب العربي على الأصول الموسيقية بلا شك، ولكن مصر بأهميتها الثقافية والجغرافية والسياسية والديموغرافية، استطاعت أن تـُحدِّد اتجاهات الفن وتحوّلاته بترؤسها لحركة التجديد. ومع ذلك فقد تمّت المحافظة على (المقام العراقي) الذي يرجعه البعض إلى الغناء العبّاسي القديم، والخاضع لتأثيرات فارسية وكردية وتركية، ولكنّه احتفظ بجوهره الكامل، كما حافظت مدينة حلب في سورية على أصول الغناء العربي ألأصيلة تـَجَسَّـدَ خصوصاً في الموشحات (ورقص السماح) المشتقّ على الأغلب من رقصات لمتصوفين اتخذوا في حلب تكية شهيرة بما يشبه معهداً موسيقياً تقليدياً. واشتهرت مدينة حلب بمغنّيها. وبفضل أولئك الفنانين اللذين لجأوا إلى مصر، قـُدِّرَ للقسم الأكبر من الموسيقى السورية أن تكون أساس الحركة الموسيقية التي جدّدت الغناء التقليدي في مصر فيما بعد.
وفي عـام 1932 تمّت الدعـوة إلـى مؤتمـر عالمي للموسيقى العربيـة (بغية دراسة أساليب تنشيط الموسيقى العربية، مع المحافظة على طابعها ومميزاتها). وفي عام 1940 أنشئت الاوركسترا الغربية بإذاعة الدولة وأُوكِلَ لها تقديم الموسيقى السيمفونية. وطوال الشطر الأول من القرن العشرين تابع غزو الموسيقى الأوروبية تقدّمَهُ، فقد كانت تدرّس رسمياً في المعاهد العلمية على يد أساتذة ومربّين تعلّموا في معاهد العواصم الأوروبية الكبيرة، وبهذا تمًّ ترسيخ دعائم "الازدواجية" في الفكر الموسيقي أيضاً، ودخلت معارك دعاة التراث ودعاة التجديد الميدان الموسيقي أيضاً، تحت تسميات مختلفة كما هو الشأن في المسرح والرواية والشعر والفلسفة والسياسة والعلوم الاجتماعية.... الخ.
وفي الوقت الذي كانت مصر تعاني فيه من وطأة الاستعمار البريطاني اكتسب الصراع بعده الإيديولوجي - وإن بشكل فيه الكثير من المغالطات أحياناً- ما بين دعاة العصرنة والانفتاح على أوروبا، وما بين رفض مجمل الشعب لذلك من خلال وعيه الاجتماعي العام والجمالي الذي يُفَضِل الاستماع والإحساس بموسيقاه، والذي تحدَّدَتْ من خلال ذلك (أي الوعي الاجتماعي العام والجمالي) حاجاته الجمالية خلال أجيال طويلة، وكذلك رفضه المساس بقيمه الحضارية واللغوية والأدبية والدينية. وقد حَمَلَ لواء الرفض المشايخ والعلماء المتصوفون.
وفي أجواء هؤلاء نشأ عبده الحامولي، والشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش.
ماذا عن الأجواء الاجتماعية والسياسية في مصر ...؟
لقد تزايد تأثير دعاة الإصلاح والنهضة وعلى رأسهم (الشيخ محمد عبده)، وتوالت نتاجات (دار الألسن) التي تولت الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية، ولعبت البعثات الدراسية العديدة دورها الإيجابي وتبيّن بأنَّ العالم الخارجي كان قد قطع أشواطاً بعيدة، ودخلت أفكار العدالة الاجتماعية وتعميم التعليم الحديث إلى المجتمع المصري. ومسًّت ثورة عرابي باشا، ونضالات سعد زغلول، وجدان رجل الشارع، ولم تنج مصر من تأثيرات الحرب العالمية الأولى، وظهرت الأفكار والإيديولوجيات القومية، والدينية، والماركسية، والليبرالية. ( .... واكتشف الجميع مع نهاية الحرب العالمية مدى زيف الإستقلالات التي حصلت عليها الدّول العربية، إذ لم تتعدّ القشرة الهشّة من الزخارف الدّستورية، كالأعلام والأناشيد والسفراء أحياناً، ولم تستطع أن تحجب حقائق الحياة البشعة.
وقد عجزت الأنظمة العربية عن تلبية الاحتياجات الاقتصادية لشعوبها أو تطوير اقتصادها. ولم يتعرّض البناء الاجتماعي القديم ببيكواته، وملاّكه وتجاره) إلى أي تغيير مهم. وبدأت تظهر بوادر إقطاع جديد من أبناء الطبقات والفئات الوسطى والدّنيا أو الصغيرة، كانت تتكوّن من أبناء الفلاحين بدرجة أساسية. وتزايد عدد الدارسين والمثقفين المنحدرين من الطبقات المحرومة في أدنى السلم الاجتماعي، ولم تكن تمارس أي نفوذ في ظلّ النظام القديم (ما قبل 23 يوليو ـ تموزـ 1952) ولعلّ تقسيم ميراث الإمبراطورية العثمانية إلى دول يسهل التحكّم فيها قد طرح فكرة الوحدة العربية بين مختلف الأوساط الاجتماعية. وفي ظلّ هذه الأوضاع برزت القضية الفلسطينية التي مثّلت بالنسبة للكثير من الأحزاب ذات الإيديولوجيا القومية على أنّها تهديد لأعماق الروح العربية.
وفي ظل هذه الأوضاع أٌطيح بالملكية عام 1952 وظهر جمال عبد الناصر الذي أٌعتُبِرَ وريث كل الحركات والأفكار الدّاعية إلى التغيير.
لقد أدّت الأحداث التي تلت حرب السويس (حلف بغداد، الهجوم الأمريكي على المنطقة، حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا، مدّ الجسور نحو المعسكر الاشتراكي، التطلع نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في مصر) أدّت كل هذه الأحداث إلى إحساس عبد الناصر بضرورة خلق مناخ اجتماعي وثقافي يتناسب وأهداف القيادة. وقد تمّ التعبير عن ذلك في القول التالي: ((الثورة الثقافية هي أساس الثورة السياسية، وأساس الثورة الاجتماعية.)) ((وتصوّر المرء على هذا النحو يجعل قضية التغيير الثقافي قضية قائمة بذاتها)).
ونُظِرَ إلى الثقافة والفنون على الشكل التالي: ((إنّ الثورة الثقافية تضع نفسها في خدمة الثورة السـياسـية، وفي خدمـة الثورة الاجتماعيـة.)
(المصدر: الميثاق)
وهكذا فقد أُعطيت للثقافة والفن دور كبير في أيديولوجيا النظام. وبقدر ما كانت أهداف النظام على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هي مطلب الجماهير العريضة، بقدر ما اكتسبت الآلة الإعلامية والثقافية والفنيّة شرعيتها، وذلك على الرغم من طابع أجهزة الدولة القمعي، المتسم بهيمنة رجال المخابرات (الأمن السياسي) على كل مرافق الدّولة والمجتمع.
(إنّ السلطة- في أحسن الأحوال- تـُقنـِّنُ وتراقب جميع ظواهر الاجتماعية، وتعيد كل نشاط إنساني إلى صورة واحدة، بينما الثقافة والفن هي الانطلاقة المبدعة نحو كل خلق جديد. والسلطة، في أحسن الأحوال، هي في طبيعتها توازنية، تراعي دوماً الوضع الراهن. لذلك فإن القوى الثقافية ـ كما يرى هربارت ريد ـ (هي في حالة تمرّد دائم. وهي وعياً أم لا وعياً تحاول كسر القوالب الجامدة التي تعيق نموّها الطبيعي، أو تسدّ منافذ انفتاحها.).
فكيف سيكون عليه حال الثقافة والفن إذا لم تمّ توجيههما من قبل السلطة؟ لن تكون النتيجة في صالح الثقافة والفن دوماً، خاصةً في ظل غياب الديمقراطية والتعددية السياسية.
ومع ذلك، فقد خـَطـَتْ الدولة المصرية في عهد عبد الناصر، خطوات جبارة في بناء العديد من المؤسسات الثقافية والفنيّة، وفي الاهتمام بخلق قاعدة عريضة كان يمكن أن تكون أساساً لتطوير شامل. فبنيت المراكز الثقافية في عشرات المدن الصغيرة والكبيرة. وظهرت العديد من المجلات المتخصصة في شؤون المسرح والسينما والفنون التشكيلية والآداب والموسيقى. وتمّ دعم وتأسيس العديد من المعاهد والأقسام الموسيقية والمسارح، وعقد المؤتمر الدولي الثاني للموسيقى العربية عام 1969، وتعايشت عدّة مدارس غنائية جنباً إلى جنب، وكذلك العديد من الفرق الموسيقية، والتجارب الموسيقية الجادّة ( أبو بكر خيرت، عزيز الشوان، جمال عبد الرحيم، سامي حافظ محمد ... وآخرون). ولا شك أن حضور عبد الناصر بنفسه لحفلات موسيقية وغنائية، وعروض مسرحية جديدة، وكذلك تخصيصه للجوائز والأوسمة الرفيعة لرجالات الفكر والثقافة والفنون، هي أمور لها دلالاتها حقاً. لقد أدرك عبد الناصر مدى أهمية الثقافة والفن في تشكيل الوعي الاجتماعي العام.
إنّ إيمان السلطة بأن توجهاتها هي اشتراكية (... ولكن اشتراكية خاصة تناسب واقعنا ........؟) قد قاد بالضرورة إلى دراسة الاشتراكية الماركسية والاطلاع على أدواتها الإيديولوجية والثقافية والفنيّة، وتمت محاولات تطويع أو خلق اشتراكية ذات مضمون قومي، ولا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسـلامية، وذا ما عرفنا ما كان عليه الـوضع الفكري والثقافـي (والديمقراطي) في العالم الاشتراكي بجذوره الستالينية ، لأدركنا كيف كان يتم صنع الوعي الاجتماعي الثــــقافي والفني في مصر خلال الستينات.
وبهزيمة حزيران 1967، ثمّ موت عبد الناصر في فترة تميّزت بأحداث عصيبة، ومجيء السادات بعده: تغيّرت الصورة رأساً على عقب في جميع المجالات. وبالنسبة للفنون فقد سادها الانحطاط والانحلال التامّين.