[مصطفى نصر]

مقالتي بجريدة القاهرة - المصرية الثلاثاء 25 فبراير 2014

محمود حسن مؤسس ركن عبد الوهاب

مصطفى نصر

ولد محمود حسن بشارع الشيخ خفاجة في 13 أكتوبر 1931، في بيت تحته أمين المزيكاتي، صاحب فرقة حسب الله، طبلة كبيرة معلقة على الحائط بجوار مدخل الباب. ومجموعة من المزيكاتية بردائهم الأصفر، يعزفون ويجربون آلاتهم. كان محمود الابن السادس والأخير بالإضافة لثلاث بنات.
ارتبط بالجو الفني من عدة جهات، فرقة حسب الله تحت بيتهم التي يقودها أمين المزيكاتي، وخاله سيد سليمان المنلوجست والممثل المشهور الذي يسكن شارع الزمزمي في بيت ملكه، فاتخذ الدور الأرضي منه مكاناً لعمل بروفات للفرق المسرحية التي يعمل بها. فيذهب محمود إليه لحضور البروفات.
ثم انتقلت الأسرة إلى بيتها الجديد بشارع الطوفي، في مواجهة منشار خشب مشهور هناك. والتحق محمود بمدرسة أبناء النيل الأولية بشارع جميل ثابت.
وقد حرص أحد أشقاءه على سماع الأسطوانات على جرامفون أشتراه حديثا: أبو العلا محمد ومنيرة المهدية وأم كلثوم وسلامة حجازي. كان محمود في التاسعة من عمره، لكنه أدرك أن محمد عبد الوهاب هو الأقرب إلى قلبه. ثم أمسك بورقة من كراسته وكتب رسالة لعبد الوهاب، ووضع الرسالة في مظروف لكنه لا يعرف عنوانه، فلصق على المظروف صورة عبد الوهاب، وكتب يسلم إلى يد الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب. وتكرر هذا منه، كل عدة أيام يكتب رسالة ويبثه فيها إعجابه ورأيه في أغانيه.
وسخر منه أخ من أخوته، قائلا:
- أنت بتضيع وقتك، فالبوسطجي سيمزق الخطاب، فليس مكتوبا فيه عنوان البيت، ولم تضع عليه طابع بريد.
عاد محمود من المدرسة في أحد أيام عام 1940، فقالت أخته:
- اتنين جم سألوا عليك، وقالوا حانجيله يوم الجمعة الساعة سبعة مساء.
وبالفعل جاء عبد الغني السيد وحامد مرسي إلى البيت، وسألوا عنه، ونظروا إليه مندهشين:
- أنت إللي بتبعت جوابات للأستاذ عبد الوهاب؟
قال: أيوه أنا.
قال أحدهما له: الأستاذ مسافر بيروت، وحايرجع يوم الأحد، وعايز يشوفك.
وتم الاتفاق أن يقابلهما أمام باب 10، ليستقبل عبد الوهاب معهم.
كان متواريا خلف الكثيرين الذين جاءوا لاستقباله. وعندما احتضن عبد الوهاب؛ عبد الغني السيد سأله: جاييلي وإيدك فاضية؟!
فقال: لا جبته معايا.
وأمسك بيد محمود حسن وقدمه إليه، فصاح الأستاذ مندهشا:
- أنت محمود حسن إللي بتبعت لي الجوابات؟
- أيوه.
كان من ضمن الحضور الشيخ حسن وعبد الفتاح سوكا باشا الذي استضافهم في قصره برأس التين.
سأله عبد الوهاب: سمعتلي إيه وإيه؟
فحدثه عن الأغاني الكثيرة التي سمعها له، خاصة أغنيته في الليل لما خللي، فأعجب به عبد الوهاب، وقال له:
- تعالى زورني في القاهرة.
بعد فترة قصيرة ركب القطار الذاهب إلى القاهرة، كانت تذكرته بـ17 قرش.
عندما خرج من محطة مصر، سأل عن بيت عبد الوهاب، فسخر منه الناس، لكن رجل مسن، نهرهم، وقال له:
- خد الترام بخمسة مليم وانزل في العباسية، واسأل هناك عن فيللا عبد الوهاب، ألف من يدلك.
ووصل إلى هناك، واجهه طاهر أخو سعد عبد الوهاب الصغير، فقال له:
- عايز أقابل الأستاذ.
نظر الشاب إلى ذلك الصبي مندهشا: إيه المناسبة؟
- هو إللي عازمني.
كاد أن يطرده من البيت لولا أن رآه الشيخ حسن الذي شاهده في الإسكندرية فرحب به.
الدور الأول تسكنه أم محمد عبد الوهاب وشقيقه الشيخ حسن، والدور الثاني يسكنه عبد الوهاب. وكعادته كل يوم، ينزل ببذلته ليفطر مع باقي الأسرة فقدموا محمود إليه. فقابله بترحاب شديد، وبعد أن أشركه معهم في تناول الطعام، قال له:
- حاتروح مع سعد لشركة كايرفون بالموسكي، حايدولك اسطوانات كتير جدا من أغانيه.
وأوصاهم هناك بأن يعطوه مظروفا فيه نقود، لأنه يعلم إنه لا يمكن أن يقبل منه مليما.
ركن عبد الوهاب
واستمرت هذه العلاقة، ما أن يأتي عبد الوهاب إلى الإسكندرية في شهر يوليو من كل عام؛ إلا ويرسل في طلبه، ليحدثه عن أغانيه، فقد أكتشف عبد الوهاب إنه خبير بكل ما غني ولحن ومثل.
في عام 1945 عرض محمود على عبد الوهاب أن ينشئ جمعية محبي عبد الوهاب، لكنه قال الجمعية محتاجة لإجراءات وصعب وأنت في هذه السن أن يوافقوا لك.
واتفقوا على إنشاء ركن عبد الوهاب. الذي بدأ في 15 سبتمبر 1945، ومازال موجودا للآن.
وجد محمود شقة خالية بشارع توفيق ( عرابي حاليا) فاتخذها مقرا للركن، وسماها الوردة البيضاء، اسم أول أفلام عبد الوهاب.
دأب محمود على الجلوس أمام باب العمارة وسماع أغاني عبد الوهاب، وكان إسماعيل تيمور باشا كبير أمناء الملك فاروق يحرص على حلق لحيته عند حلاق اسمه بلانكو، فسأل عن هذا الصبي الذي يسمع عبد الوهاب باستمرار، وطلب من بلانكو أن يستدعيه. فقال له:
- أنا معجب بك لأنك تحب عبد الوهاب. فعبد الوهاب قد الدنيا.
وأهداه مجموعة اسطوانات لعبد الوهاب، وعشرة جنيهات.
كتبت الجرائد والمجلات عن ركن عبد الوهاب، مجلة زهرة الخليج، والسفير والبصير وفكري أباظة في مجلة المصور وآخر ساعة، وكتب مفيد فوزي عنه – بعد ذلك – في مجلة صباح الخير.
حرص محمود حسن على إقامة حفل كبير في مسارح الإسكندرية احتفالا بمولد عبد الوهاب، فحضره عبد الوهاب، ثم أناب عنه الشيخ حسن – شقيقه - وابنه سعد،. وموظفو شركة اسطواناته حامد عزو ومجدي العمروسي. وحضرها حافظ عبد الوهاب ومحمد أمين وشهر زاد وصلاح نظمي وفاروق شوشة وزوجته هالة الحديدي وغيرهم.
حرب 67 تحتجز عبد الوهاب في بيروت
قامت حرب 67 في منطقة الشرق الأوسط بينما كان عبد الوهاب في زيارةلبيروت، ووقفت حركة السفن، فاضطر أن يبقى هناك لمدة طويلة.
وعندما عادت حركة السفر ثانية، جاء عبد الوهاب في السفينة إيزونيا، ووقف محمود حسن في انتظاره مع نجاة وعبد الحليم وجلال معوض وآخرين، واحتضن محمود حسن عبد الوهاب، ووضع يساره في ذراعه وبيمينه أمسك عوده.
وأصبح محمود حسن مرجعاً لعبد الوهاب وألحانه وأفلامه وأغانيه، فما أن يسأله أحد عن شيء فيها، يقول لهم: اسألوا في ذلك محمود حسن في الإسكندرية.
فقد اتصل به عبد الوهاب في الحادية عشر صباحا وقال له:
- ممكن تجيلي جليم دلوقتي؟
فاسرع محمود إلى فيللا عبد الوهاب، كان هناك أحمد رامي وأم كلثوم وفريد الأطرش، فقال عبد الوهاب:
- اسمع يا سيدي ( يا واحشني وأنت قصاد عيني وشاغلني وأنت بعيد) عملنا حاجة زي كده؟

فقال محمود: أيوه، توحشني وأنت ويايا واشتقلك وعينيك في عينيه

تعاتنبني والحق معايا وآجي أعاتبك ما تهونش عليه.

فسأل رامي: مين إللي قال الكلام ده؟
قال محمود حسن: أحمد شوقي.
فصمت رامي وشرد بعيدا.
وأصبح محمود خبيرا في مسألة المقامات وذلك من كثر اقترابه من عبد الوهاب وحضور الكثير من الموسيقيين الكبار إلى مكتبه فيسمعوا الأغاني ويتحدثوا عن الكلمات واللحن والمقام الذي استخدمه الملحن. كما أنه كان قريبا جدا من المؤرخ الموسيقى محمود كامل.
موت عبد الوهاب
كان شقيق محمود حسن الأكبر في مستشفى جليم، وقد أجرى عملية جراحية في البروستاتا، وقد سهر عنده لوقت متأخر من الليل.
في السادسة صباحا من اليوم التالي دق جرس التليفون، وجاءه صوت لم يتبين صاحبه أول الأمر:
- انت نايم البقية في حياتك.
ظن أن أخاه قد مات. قال: أخويه مات؟
قال: أنا أحمد فؤاد حسن، افتح الراديو، الأستاذ مات.
سافر على الفور إلى القاهرة، ذهب إلى صديق له في العجوزة، كانا يبكيان طوال الليل.
دق جرس التليفون، فسأل عبد الحميد حمدي عنه، وقال له:
- خللي بالك، مهمتك بدأت.
تحدث معه مجدي العمروسي وحامد عزو قالا سيدفن الأحد 5 مايو 1991.
كان هناك الشيخ طنطاوي شيخ الأزهر وعبد الحليم موسى وزير الداخلية واللواءات أحمد رشدي والنبوي إسماعيل وحسن أبو باشا. وقف ابنه محمد وسعد ابن أخيه ومحمود حسن في المقدمة.
التربة مفتوحة نزل محمود تحت، ورقد هناك، قائلا: ادفنوني معاه.
عبد اللطيف أبو هيف ويحيي شاهين قالا: اطلع.
رفض أن يصعد، فقال له سعد:
- اطلع إنه أمر الله.
صعد إلى أعلى وبذلته السوداء قد صارت صفراء من لون التراب في أسفل التربة.
سيدة من المعزيين صاحت غاضبة:
- كيف لا يحضر حسني مبارك الجنازة، إن مكانش حاييجي لجنازة عبد الوهاب، حاييجي لمين؟!.
العزاء بالليل كان في جامع مصطفى محمود. وفجأة اقتربت سيارة مرسيدس، أسرع أحد الرجال بحمل مقعد، كان الآتي الشيخ الشعراوي الذي يعاني من أثر إجراء عملية جراحية خطيرة. خرج من السيارة، وجلس على المقعد من شدة الألم.
قالوا له: تعبت نفسك ليه، أحنا عارفين أنك تعبان.
قال: لأن أنا أعرف قدر عبد الوهاب.
مازال محمود حسن يقيم الحفل السنوي لعبد الوهاب في المناسبتين مولده وموته، وهما مناسبتان تهتم بهما الحركة الثقافية والفنية في الإسكندرية، فيحضر الاحتفال كبار الموسيقيين والأدباء والمثقفين.