رد: بشــيــر عيــَّـاد مصـــري / عـــربــي حتي النخاع
الشاحن !!!!!!
***********

******
في الحادية عشرة إلا الربع من صباح الاثنين 11 فبراير 2008م ، كنتُ أجلسُ مرتعِدًا في الغرفةِ رقم 37 بمستشفى الميرغني بمصر الجديدة ، منتظرًا صوتَ الدكتور أحمد أمين صالح الذي جاء عبر التليفون مُبتهجًا نديًّا قائلا : "الحمدُ لله ، ابنك بخير والست والدته بخير "، وعلى الفورِ انطلقت أجملُ زغرودةٍ من جدّته ، بينما انهرتُ باكيًا ساجدًا لله حمدًا وشكرًا ، فقد كان هناك عبءٌ ثقيلٌ أحملُه ، ومعي الدكتور أحمد ، وظللنا لمدة شهرٍ بين الرعبِ والقلق خوفا على " الجنين " وعلى والدتِه ، ولذلك صعدَ هذا العالِم العظيم ـ الدكتور أحمد أمين صالح( كان ـ يومها ـ أستاذ ورئيس قسم النساء والتوليد بطبّ الأزهر ) ـ إلى الغرفةِ قبلَ أن يدخلَ غرفةَ العمليات واحتضنني قائلا : لا تخف ، إن شاء الله حتمرّ بسلام .
كنت أتساهى بمشاهدة التليفزيون الذي يعرض مراسم تكريم الفريق الوطني لكرة القدم بعد عودته من غانا حاملا كأس أفريقيا ، كان الطابور يمرّ أمام الرئيس (المخلوع الأول مبارك ) وهو مبتهج وسعيد ، وهم كذلك ، لكنني كنتُ أراهُ طابورًا من الحريق يمرّ عبرَ قلبي وكياني وعينيّ ، وبكلّ ما أوتيتُ من حرصٍ أخفيتُ توتري عن حماي وحماتي بأيةِ تعليقاتٍ طائشةٍ على ما نراهُ على الشاشة .
في الحادية عشرة إلا الربع دقّ التليفون ، وجاء الخبرُ السعيدُ الذي كنتُ أنتظره ، احتضنت نوران وسُلوان وجدَّهما وجدَّتهما ، وانهرتُ تمامًا حتى وصلَ الدكتور أحمد وأخذني في أحضانه وقال : الحمدُ للهِ يا بطل !!
نزلتُ ـ قفزًا ـ لأرى محمدا // الحلم ، فسمحوا لي برؤيته فقط وتقبيله دون أن أحملَهُ فهناك بعض الاحتياطات الواجب إجراؤها ، بعدها صعدتُ قفزًا مرّةً أخرى ، وأمام إصرار جدّهم على معرفة سبب بكائي ، أخبرتُهُ بالسرّ الذي أخفيناه طوال الشهر الأخير .... فانهارَ باكيا .
كنّا أعددنا قائمة أسماء "للمولودة المنتظرة "،وكانت الحيرة في النهاية بين : نجوان ؟ أم أشجان ؟ ، لتكون على وزن " نوران ، سُلوان " ، ثمّ أضافت لنا أختنا حنان خورشيد اسما ثالثا هو " غُفران " فاخترناه وفرحنا بهِ وبرنينه ومعناه ، ورسونا عليه ، فلم نكن نهتم بنوع الجنين : ولد أم بنت ؟ نرضى بما اختاره الله ، ولإيماننا بأنّ البنت قد تكون أحسن ألف مرةٍ عندما نُحسنُ تربيتَها وتلقَى ما يليقُ بها من رعايةٍ وحنانٍ وتعليم ، فتصبح فخرًا لأهلها ووطنها ، وخيرًا من ألفِ رجل من المستهترين واللاهين والعابثين الفارغين .
في " السونار " الأخير ( سبب كلّ القلق ) ، أخبرنا الطبيب أن الجنين ولد ، فقلنا : الحمدُ لله على ما يختاره الله ، وبعد عرض " السونار " على الدكتور أحمد ، همس لي بأننا نريد عمل " سونار " آخر لدى طبيب آخر ، وتحديدًا فلان ـ نسيت اسمه الآن ـ في روكسي ، لأنه يتعامل بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الأشعة ، وأخبرني الدكتور أحمد بالسبب ، وحذرني من أن أبوح به لمخلوق !! وعلى الفور عملنا اللازم ، ولم تتأكّد المخاوف فقط ، بل " تأبّدت " ، وكان مطلوبًا مني أن أظلّ " عاديا " طوال الشهر المتبقّي ، مع قائمة محاذير لا حصر لها .
لم تسمع زوجتي " نكت " مثلما أسمعتها في ذلك الشهر ، فعلت كلّ شيء من تنكيت وتهريج واختراع أي شيء يثير الضحك ، وكنت شبه متفرّغ للمطبخ ، أطبخ حسب طلباتها وأوامرها ، وأعدّ المائدة ، وأقدّم الطعامَ لها ولابنتينا ولضيوفنا ( الآن أدفع الثمن ، فبين الحين والحين يجبرونني على أن أطبخ لهم ) ، وبعد أن أكرمنا الله بوصول محمد بخير وبسلامة والدته ، كانت أجمل عقيقة ( بعد عشرين يومًا ) .
دارت الأيّام ، وجاء 11 فبراير 2011م ليكون خلع حسني مبارك ليكون ذلك اليوم أسوأ أيام حياته وضاعت سعادته التي أبداها في يوم ميلاد محمد ابني ـ 11فبراير 2008 ـ معتبرًا إنجاز الفريق الوطني أحد نجاحاته هو " بقيادته الحكيمة " للبلاد !!، ويوم سقوطه كتبت وقلت إننا في السادسة من مساء الاثنين 11 فبراير 2008 قام الطبيب الشاب أحمد ــ غير الدكتور أحمد أمين صالح ( الكبير جدًّا ) ـ بإجراء عملية ختان محمد ابني بمستشفى الميرغني ، وفي السادسة من مساء هذا اليوم ـ 11 فبراير 2011 ـ قام جيل الطبيب الشاب بإجراء أكبر عملية ختان لنظام بأكمله ، وليصبح هذا اليوم تاريخيّا للوطن ، وتاريخيّا أكثر وبشكلٍ مختلفٍ بالنسبة لي ولأسرتي ولولدي .
بعدها فوجئت أن 11 فبراير مليء بالألغاز ، وأهمها : ميلاد الملك فاروق في 1920 ، وهروب شاه إيران في 1979 ، وخروج نيلسون مانديلا من السجن في 1990م !! ولم أشغل بالي بأكثر من مجرّد العلم ، فكلّ شيءٍ بيدِ الله .
محمد ، الذي غنينا له في مهده وفي يوم السبوع / العقيقة :
محمد يا غالي
يا قمر الليالي
يا حبيب بابا وماما
وحبيب نونا وسالي
( قلت هذا بسرعة عندما طلبوا مني أن أكتب له " شيئا " خاصا به ، فقلت هذه الكلمات التي تحوّلت إلى أنشودة البيت ثم العائلة والأصدقاء في احتفالية عقيقته )، ها هو الآن في الصف الأول الابتدائي ، متفوّق ومحبوب ، ويقلّدني في كلّ شيءٍ وخصوصًا رسم الخط ، وقد يصبح رسّاما ، وأختاه ، فميولهم للرسم أكثر منها إلى الشعر ، على الرغم من أنهم يدمنون الفصحى إذ حرصنا على تحفيظهم القرآن من بداية التأتأة ، وهو ـ مثل أختيه أيضا ـ مولع بالأغاني الوطنية بشكل تلقائي ، ويغني " اسلمي يا مصر " كأنه ضابط برتبة عميد في القوات المسلحة ، ويغني " بلادي " و" حق بلادك "(( قوم بإيمان وبروح وضمير )) و" يا حبيبتي يا مصر " ، أما أغنية 25 يناير " يا بلادي " فيجبرنا على البكاء في الحال أنا وأمّه .
محمد يلجأ إلى صدري تلقائيا ويغفو عليه ، ومَنْ يَرَهُ يظنّ أنه يأخذ بعضَ الحنان ، والعكس هو الصحيح ، إنه هو الذي يعطيني ويملأ كلّ فراغات روحي وكياني ويمنحني الكثير إلى الدرجة التي أشعرُ فيها أنه الأكبر وأنني طفلُهُ البريءُ المحتاجُ إلى حنانِهِ باستمرار لكي يعطيني القدرة على الاستمرارِ والإحساس بطعم وجودي ، ويمنحني طاقة الدوران .

زمان ، كانت لدينا زهرة واحدة هي نوران ( أمّ أبيها ، كما أسمّيها ) ، كنت أضعُها على صدري وأغفو أتخيّلها وأبتسم ، فإذا ما نادتني أمّها ، أقول لها : أنا في الشاحن !! فتضحك بشدّة وتتركني ، ثم جاءت الزهرة الأخرى سُلوان الأكثر شقاوة ولذاذة ، ليصبح لديَّ أمّان أو " شاحنان " ، ثم جاء محمد الذي يعرف خدّه موقعًا ما على صدري فيلتصق به تلقائيا التصاقَ الحرفِ بالحرف ، ولم تعد أمهم تناديني عندما تشعر بأحدهم يعطيني ما لديه لأكمل فراغي واحتياجي ، ولفرطِ تقديرها لتلك اللحظات ، تربّصت بنا ـ ذات عملية شحن ـ لتلتقط لنا هذه الصورة العبقرية ، ومحمد يعطيني من أنفاسه ما يمنحني القدرة على الشعور بأنني على قيدِ الحياة .
كلّ سنة وأنت طيّب يا محمد
يا حبيب بابا وماما
وحبيب نونا وسالي !!
التعديل الأخير تم بواسطة : بشير عياد بتاريخ 12/02/2014 الساعة 18h53
|