رد: إحتفالية ذكرى أم كلثوم 2014
مساهمتي في ذكراها .. مقال لي نشرته جريدة الشروق
أم كلثوم .. ليتني كنت عندك

لا ريب أن الملأ الأعلى قد اختصم ليلة ميلادها، وتساءلت حملة العرش: من أي روح قدسية برأ الخالق هذا الصوت؟، وكيف يا رب تُنزل إلى الأرض قطعة من نعيم الجنة؟، ولم اخترت أرض مصر لتحظى بهذا التكريم؟، وأنى لأوتار هذه الطفلة الصغيرة أن تتحمل إرسال صوت الخلود السرمدي إلى بني البشر؟... لكن شدو أم كلثوم على الأرض شغل أهل السماء عن إجابة أسئلتهم، وبينما الناس يمدحون الصوت الحسن بأنه "ملائكي"، فإن الملأ الأعلى يمدحون المسبحين من الملائكة بأن صوتهم "كلثومي".
تربعت أم كلثوم على عرش الطرب خمسين عاما، وظلت في مكانتها إلى يومنا هذا رغم مرور نحو أربعة عقود على رحيلها، إذ إن أعظم المطربين والمطربات لا يطاولون ذيل ثوبها، ولا يحلمون بغير البقاء عند مواطئ أقدامها، وهم جميعا يتنافسون في ساحة عند سفح جبل استراحت هي على قمته.
لا مبالغة في وصفنا، لكنها الحقيقة، يدركها من سيلقي السمع وهو شهيد، ومن سيبحث عن التراث الكامل لسيدة الطرب، ومن يعلم أن استماع أم كلثوم علم قائم بذاته، ومن سيكتشف أن التسجيلات المتلفزة التي تبثها الفضائيات لا تمثل واحدا على الألف من الحقيقة الكلثومية الكبرى.
ذات ليلة، وعبر الهاتف، أتاني صوت الحبر الكلثومي الكبير بشير عياد، الشاعر والناقد الذي يفني عمره وفكره وماله عند أم كلثوم، باحثا في تاريخها، ومتعبدا في محرابها، ليشكو قائلا: كلما ظننت أنني أحطت بها، وأدركت عمق بحرها، وسبحت في موجها العاتي، إذا بي مازلت على شاطئها، لم تبتل أطرافي من ساحلها المترامي... هذا قول رجل أنفق خمسة عشر عاما من عمره يكتب أهم سفر وأوثق كتاب عن كوكب الغناء، ولمّا ينته بعد، هذا قول أحد السائرين إليها، المأسورين بصوتها، العارفين لفضلها، ثم يأتيني غر لم يعرف السيدة إلا من خلال تسجيلات تجارية لـ"أنت عمري" و"وألف ليلة وليلة" ليتحدث عن أم كلثوم.
محبون جاهلون، هؤلاء الذين يتلقون أم كلثوم من الحفلات القليلة المتلفزة في الفضائيات، أو تسجيلات شركة صوت القاهرة التي خضعت لمونتاج صفيق، وقص ولصق لا يراعي إلا مدة الشريط، ثم نقل هذا المونتاج كما هو إلى الاسطوانات المدمجة التي لن تشكو من زمن يزيد 20 أو 30 دقيقة، وإنما تشكو من العدوان على تراث غال.
محبون جاهلون، هؤلاء الذين يمثل لهم صوت أم كلثوم مجرد ذكريات يحنون إليها، عندما كانت تجتمع الأسرة كلها في "المندرة" بعد العصر يستمعون للست وهم يحتسون أكواب الشاي، أو هؤلاء الذين تثير كلمات أغانيها لديهم ذكريات حب لم يكتمل، أو لوعة فراق حبيب طال انتظاره، أو أمجاد معارك وطنية افتقدناها في عصر الاضمحلال الذي عاشته مصر أربعين عاما، وكل هذه أسباب هامشية، وطلاء رقيق على جدران صرح شاهق أصله ثابت وفرعه في السماء.
أول الطريق إلى إدراك الحقيقة الكلثومية أن تستمع لسيدة الغناء ابتغاء الطرب، وأن تجعل من "السلطنة" هدفا، وأن تستفيق إلى حقيقة بدهية، وهي أن "المطرب" وظيفته أن يطرب، وأنه ما لم يطرب، لا يستحق وصف "مطرب"، وأن الاستمتاع بجماليات الغناء، والبراعة الفائقة في أداء اللحن، والإضافات الحلوة، والتصرفات الباهرة، والارتجالات الخطيرة، تحتاج إلى استماع يقظ، واع، منتبه، بل قد تحتاج إلى من يأخذ بيدك إليها، ومن يرشدك إلى طريقها.
"وأنا اللي أخصلت في ودي، وفضلت طول العمر أمين، ياخد الزمان مني ويدي، وقلبك أنت عليا ضنين" مقطع من منولوج "غلبت أصالح" كتبه رامي، ولحنه السنباطي، لكن أم كلثوم في أدائها للفظة "ضنين" صنعت ما لا يقدر عليه بشر، ولا يستطيعه بين العالمين إنسان، فقد أرادت أن تصل آخر العبارة بأولها، فأمسكت بلفظة "ضنين" ومدت ياءها مدا طويلا تهز فيه أوتارها كأنها آلة موسيقية لا حنجرة بشرية، مع تصاعد نغمي ينتهي بالتقاء نون "بضنين" مع "وأنا اللي" .. لينفجر الجمهور مقاطعا بالتصفيق الحاد وصيحات الاستحسان المتعجب لهذا السحر الحلال.
"وعيشنا طيف خيال، فنل حظك منه قبل فوت الشباب"، مقطع من "رباعيات الخيام"، قررت فيه زعيمة الغناء أن تشرح بصوتها معنى لفظة "طيف"، فبعدما كان صوتها عريضا جبارا، إذا به يرق ويشف مع لفظة "طيف" كأنها تأتي المستمعين من عالم آخر، خارج حدود الإدراك المادي، ليضج الجمهور مقاطعا بصرخات الإعجاب والتصفيق، لأداء معجز، وغناء لا يمكن أن يؤديه أحد.
"ولما القاك قريب مني، وأقول البعد تاه عني، أشوف عينك تراعيني، وقلبي من لقاك فرحان"، مقطع من "دليلي احتار"، التي وصلنا منها نحو خمسة وعشرين تسجيلا، تذهب أم كلثوم بعقول جمهورها وهي تؤدي كلمة "فرحان" أداء يصور الفرحة والبهجة والسعادة، فتخرج ألف المد كأنها ضحكة يطلقها مفتون غمرته نشوة لقاء الحبيب، وهذا الاهتزاز الضاحك السريع، هو من الصعوبة والجمال، بما يصل إلى حد التحدي للمطربين والمطربات إلى يوم يبعثون.
"محمد صفوة الباري ورحمته، وبغية الله من خلق ومن نسم، بيت من قصيدة نهج البردة، لم يكن يجرؤ السنباطي أن يلحنه كما لحنه، إلا وهو مطمئن إلى القوة الهائلة لصوت من ستؤديه، فقد ارتفع نغميا بألف لفظ الجلالة إلى ما فوق السحاب، مع مد طويل جدا، فكان أداء أم كلثوم له أشبه بنفخ الصور، وكان وقعه على المستمعين هائلا، فمن غير هذه المعجزة يمكنه هذا الأداء الخارق الجبار؟.
وعلى ذكر نهج البردة، فقد أدت شادية العرب، بيت شوقي في نفس القصيدة، "حتى بلغت سماء لا يطار لها، على جناح ولا يسعى على قدم، وأسعدت الجمهور بقفلتها الفخمة المحكمة، لكن كل كلثومي في العالم، لا ينسى ارتجال كوكب الغناء لهذا البيت في حفل دمشق عام 1955، حين مكثت نحو ربع ساعة تصول وتجول مع البيت، وتقدم للعرب واحدا من أهم دروس فن الارتجال في تاريخنا الغنائي كله.
"وقف الخلق ينظرون جميعا، كيف أبني قواعد المجد وحدي، قصيدة حافظ إبراهيم، وأحد أعظم ألحان السنباطي، تكفيني هنا إشارة إلى أدائها لكلمة "كيف"، حيث وضعت في لفظة الاستفهام كل معاني الشموخ والفخر والاستعلاء، وكأن مصر تخاطب الدنيا من عل.
في نوفمبر عام 1967، سافرت أم كلثوم إلى باريس لإحياء حفلها التاريخي على مسرح الأوليمبيا، بعد مفاوضات صعبة ومحاولات مضنية بذلها مدير المسرح مع السيدة على مدار عامين، كانت أم كلثوم تقترب من السبعين، واعترى صوتها ما يمكننا أن نسميه "الوهن الوقور"، وزاد من حملها حزنها الكبير، إذ لم تمر على الهزيمة إلا أشهر قليلة.. لكن هذه السيدة العجوز، أحيت إحدى أهم الحفلات في تاريخ مسرح الأوليمبيا، وتلقت أكبر أجر دفعه المسرح لأي فنان في العالم، وحققت له أكبر دخل في تاريخه، وانتظمت رحلات جوية لنقل المستمعين العرب من دول أوروبا وبلاد المغرب العربي، واستقبلت بأطول عاصفة من التصفيق في تاريخ الأوليمبيا، وظلت الصحف الفرنسية أسبوعا تتحدث عن الأسطورة الكلثومية في مساحات واسعة، ومانشيتات رئيسية، وتبرعت الفلاحة الدقهلاوية بكامل أجرها للمجهود الحربي.
حين تقترب ذكرى الرحيل كل عام، يتجدد في قلبي الحزن على فقدانها، وتمتلئ نفسي بالحسرة على تراثها الضائع، وأتمنى لو أنني كنت عندها، أعيش في زمانها، وأحضر حفلاتها العظيمة، ثم أجدني لا أهرب منها إلا إليها، أقلب في صورها، وأشاهد مقاطع من جنازتها الكبرى، التي لم يحظ بها فنان ولا زعيم سوى جمال عبد الناصر، ولا بأس من حزن أيام، فهي واهبة السعادة والبهجة طوال العام، وإن لم يبق لنا منها إلا التسجيلات، فلا ريب عندي أن محافل استماعها مازالت قائمة في الملأ الأعلى.
التعديل الأخير تم بواسطة : بشير عياد بتاريخ 10/02/2014 الساعة 21h44
|