لعل الكثير ممن يستمعون الى البستة العراقية القديمة يجهلون ان اغلب البستات وراءها قصة معينة ارتايت ان افتح هذا الموضوع عن البستات العراقية بعد توفر عدد منها مسجله بصوت قارئ المقام حامد السعدي مع شرح موجز لاغلبها وهي من تسجيلات الاستاذ زكريا الانصاري ولنبدأ بموضوع نشرته المدى قبل سنتين بقلم المرحوم العلامة الشيخ جلال الحنفي يتطرق من خلاله لهذا الفن الاصيل حيث جاء فيه
البستة العراقية وارتباطتها الاجتماعية
الشيخ جلال الحنفي
تعد البستات من المصادر النغمية المهمة .. والاصل في تسميتها : انها تعني نغمة مذيلة تاتي بعد الفراغ من المقام اوقبل الفراغ منه ـ احياناً كالذي هو كائن مقام( العريبون عرب ) ثم صارت تورد في مقدمات المقام كالذي نراه في مقام ( الحليلاوي ) وغلب على البستات ان تغني بعد الانتهاء من غناء المقام اذ صار يغنيه الجوق الموسيقي المصاحب للمغني ويتولى ادارتها بستجي معترف به يكون ضمن جوق الجالغي في هذه الحالة وان لم يعزف شيئا
وتكون البستات من جنس النغمة الاساسية في المقام وقد يشارك في انشاد البستة مغني المقام نفسه .. ومن الضروري الاشارة هنا الى ان قارئ المقام كان يجلس الى جوار جماعة الجالغي ،
ولم يعرف في غناء المقام وقوف المغني على قدميه انما حدث ذلك بعد الاربعينيات تقليداً لما كان يجري في بعض البلاد العربية بفعل ماحدث من ضخامة الفرقة العازفة واستعمال المايكروفونات لذا جعل للمغني حق الانفراد والبروز لاسيما حين يكون الغناء على مسارح كبيرة وامام مستمعين كثيرين .
وكان اول من غنى في بغداد الاستاذ القبانجي ثم مضى على ذلك من بعده يوسف عمر وعبد الرحمن خضر وصار وقوف المغنين حالة طبيعية عند الغناء ، وان كان الجلوس خيراً للمغني اذ يكون في حالة جلوسه متمكناً من حنجرته ومسيطرا على الحالة الجسمية ويكون له موقعه ما يتكى عليه عند حاجته الى رفع صوته في ميانة ونحوها ، ولايظهر عليه من التحركات الانفعالية ابان الجلوس كالذي يظهر عليه مما يشبه الرقص عند الغناء وقوفاً .
وكذلك يتاح له عند الجلوس الى جماعة المواسقة العازفين ان ينتفع من ملاحظاتهم التي يهمسون بها في اذنه لفرط قربه منهم .
لقد كانت البستات وسيلة اراحة للمغني عند الانتهاء من غنائه واعني قراءة المقام .
كما ان البستات كانت مجالا للابداع النغمي والتلحين الفني واستدعاء المستمعين الى المشاركة في ذلك ، لاسيما ان كان للبستة مذاق وجداني وشعور شعبي او حالة تواجد شبه راقصة ..
وتعد البستات وثائق نغمية متميزة بحسن ادائها ولطف تلحينها اضافة الى ما عسى ان يكون التنويه فيها بحدث تاريخي فلقد كان بعض الغناء لدى البغداديين يؤرخ به لاكثر من مسالة كائنة في حياة الناس وستأتي الى ذلك ..
واذا كان النص يقرا احياناً في غير مقام واحد فان البستة لا تتكرر باكثر من نغمة او تلحين بعينه ، ومعظم البستات التي غنيت في مجالس المقام ببغداد كانت موفقة في تلحينها وقد يكون مرد شيوعها الى هذا ..
ان لدينا من البستات القديمة المجهولة الملحن ـ والتي لم تكن قد نقلت من الحان قادمة من الخارج ـ اغنية ( دشداشة صبغ النيل كومي بطركها ، والكذلة ست طيات ماندل فركها ) .
فان لهذه البستة تلحيناً موفقاً غاية التوفيق وماتزال على قدمها تفعل فعلها في الامزجة والعواطف . وقد سمعتها يوما منقولة من يوسف عمر وكنت في الكويت عام 1959 فكدت اغيب عن نفسي ، ونظمت ابياتاً .عبرت بها عن ظروفي في تلك الانحاء، وقد كانت ظروفاً تزدحم دقائقها وثوانيها بثقال المتاعب والهموم..
ومن بستاتنا القديمة الشجية : (بالله يمجرى الماي ذبني عليهم) ومنها (حّمل الريل وشال للناصرية ،واشبلش المحبوب بها القضية)... ولابد من الاشارة الى ان تلحين هذه الاغاني واداءها تكثر فيه التزيينات والتحركات النغمية والتمويج الصوتي الذي يأخذ بالالباب..
ومن هذه الاغاني (يالولد يا ابني، حس خالك يناديك) و(كلي يحلو منين الله جابك، خزن جرح كلبي من عذابك) و(فوك النخل فوك، مدري لمع خده مدري لمع طوك) و(جواد جواد مسيبي) و(فراك الحلو بجاني جالما طلية بالضلع) و(يازارع البزرنكوش ارزع لنا حنة) و (حمولنا غر بن للشام وماجنا) و(يصياد السمج صيدلي بنية) وهناك بستات بغدادية قديمة موغلة في القدم قد تنتمي الى ماقبل مئات السنين، منها (عفاك عفاك على فند العملتينو، انا اتعبتو وانا شقيتو على الخاضع اخذ تينو).. فانها تمثل كلام البغداديين القديم اذ كانوا يقلبون الراء الى غين وقد انتقلت صور من لهجتهم الى مدن عراقية اخرى منها مدينة الموصل..
اما البستات ذات العلاقة بتأريخ احداث وقعت في البلد فمنها (أنا المسيجينة انا ، انا المظيليمة انا، انا الباعوني هلي بنوط والوعدة سنة).
وهي تشير الى العملة الورقية التي اصدرتها الحكومة العثمانية ايام الحرب العالمية الاولى دون غطاء ذهبي، وقد كتب عليها ما يشير الى تعهد الدولة بدفع ليرات ذهبية لقاءها بعد انتهاء الحرب..
فكانت الناس تتهرب من التعامل بها حتى كانت شكوى تلك العروس من زواجها على مهر من تلك النقود..
وكانت مدينة الناصرية قد مصرت منذ اكثر من مئة عام، ثم صار القطار وسيلة التنقل اليها فكانت هناك اغنية تشير الى هذه الاحداث وهي (حمل الريل وشال للناصرية) والريل هو القطار..
وفي اواخر ايام العهد العثماني كان هناك اتفاق بين طالب النقيب والشيخ خزعل بن مرداو ومبارك الصباح على تكوين دولة منشقة على الحكم العثماني وشاعت آنذاك اغنية شعبية اولها:
هم الثلاثة همة الخانوا الحكام يعبوده..
طالب وخزيعل والثالث..
وقد جسدت هذه الاغنية تلك المحاولة اذ عبّرت عن تعلقها بالحكم القائم يومذاك، واحسبها نظمت وغنيت بعد وفاة الشيخ مبارك لدلالات لفظية وردت فيها ما يقوي هذا الظن ويشجع العامة على اطلاق ألسنتهم في الحركات السياسية عند فشلها..
وحين دخل البرق العراق (التيلغراف) ونصبت اعمدته، كان هناك من نظم مقولة شعرية غناها، جاءت فيها اشارة الى هذا الاختراع غير مقصودة:
يا تيل يابو عمد
ودي لعشيري اخبار
فاركتهم من جهل
مدرس وراية اشصار
وما اوردناه من هذه النماذج يقع التمييز فيه بفضل لحنه بالدرجة الاولى، لان حكاية الموسيقى هي حكاية اللحن والعطاء النغمي.. واعمال الالفاظ في هذا الوجه انها هي مزيد من الفن والتعبير المعبر عن المشاعر وحاجات النفوس.. وفي ايامنا كان هناك شيء من مثل ذلك فعند ظهور (السدارة) التي اعتمر بها الشباب العراقي والشخصيات الرسمية الكثيرة، في أواخر العشرينيات غني الكبنجي اغنية (ياجكو يابو السدارة ، متيمك سوي له جارة)..
وحين قصت بعض الفتيات جدائلها غنى القبانجي (لبنية بنت لبيت كصت شعرها)..
وفي ايام الحرب العالمية الثانية في الاربعينيات شاعت اغنية التموين:
عمي يبو التموين يبه
دمضي العريضة، دمضي..
اذ كانت الحياة الاقتصادية ترتبط بتوزيع بطاقات السكر والشاي والملابس القطنية وغير ذلك على الاهلين..
ومن الاغاني الجميلة التي شاعت قبل حين قريب ثم انكمشت عن الانطلاق، اغنية:
( سمر سمار يسمر
منج يغار الكمر
عيني سمر وين تروح
وانت الكلب وانت الروح
سمرة ووسيعة عين
عيني سمر عيني سمر
حلوة وجمالج زين
عيني سمر عيني سمر...
لرضا علي ... فأنها من ناحية تلحينها وسرعة التحول الادائي فيها لتعد من الاغاني المتميزة التي لايصح ان تنسى..
ان هذا الموضوع سيكرس لجميع الاخوة الذي لديهم بستات عراقية مع الاشارة الى سبب غنائها وزمنها الا اني ابدأ بما توفر لي منها وبصوت الفنان حامد السعدي وشروحاته
اغلب الظن ان الفنان السعدي تناول هذا الموضوع في ندوة تثقيفية ضمن فعاليات مهرجان بابل لنبدأ اولا بمقدمة المذيع وكذلك تقديم الاستاذ حامد واداءه لبستة (جتلني اكحل العين) على ميزان (اليكرك) وعلى نغم العجم وهو اصعب ميزان مع ميزان الوحدة