عثمان الموصلي وابو العلاء المعري
موازنة عامة بينهما
أ.د. عادل البكري
عثمان الموصلي شخصيته عجيبة فهو موسيقار بارع ورائد من رواد الموسيقى الاوائل وكان من اقدر الموسيقيين على وضع الالحان للاغاني والموشحات وله اسلوبه الخاص بغناء المقام والادوار المصرية وهو فضلاً عن ذلك قارئ ومقرئ للقرآن الكريم ويجيد القراآت السبع والعشر وغيرها.
وهو متصوف على الطريقة القادريه ثم الرفاعية. وكان استاذا في الطريقة المولوية ومعلما لها.
وعمل الموصلي في الصحافة في مصر فاصدر مجلة (المعارف) في القاهرة اثناء سفره اليها عام 1313هـ (1895م) وبقائه فيها خمس سنوات .
ٍوهو كاتب واديب له اسلوبه الادبي المتميز. وهو سياسي مرموق في دولة الخلافة العثمانية, وكان يرسله الخليفة العثماني الى البلاد الاسلامية في مهمات خاصة.
وهو ثائر من ثوار ثورة العشرين في العراق ومحرض لها.. هذه كلها هي نصف الاعجوبة لهذا الرجل.. اما النصف الثاني فهو كونه كفيف فاقد البصريتحسس طريقه بعصاه الغليظة.ومع ذلك فقد اعطي موهبة اخرى وهي انه يستطيع التعرف على الناس بمجرد لمس اياديهم فيقول لاحدهم وقد غادره لسنين طويلة: انت فلان!
لم يعرف بين العرب من وصل الى ما وصل اليه عثمان الموصلي من ذكاء وسعة المعرفة مع فقدانه للبصر منذ طفولته سوى ابو العلاء المعري. والشبه بينهما كبير: فكل منهما كان قد فقد بصره لمرض الجدري الذي اصابه في طفولته الاولى وهو غض العود رخص البنان لينشأ مجدوراً ضعيفاً كفيفاً في عالم رهيب من الظلام الذي يحيطه من كل جانب يعاني الفقر والجوع، ولكنه لم يستسلم لعاهته بل تعهد نفسه بالتعلم والتأدب ودرج على مدرج اللغة والادب والشعر فكل منهما شاعر واديب مرهف الحس، وكل منهما شديد الحفظ قوي الذاكرة. فأبو العلاء يسمع كلاماً اعجمياً من رجل غريب ولا يفهم منه كلمة واحدة فيعيده على جار له اعجمي كما سمعه من ارجل الغريب واذا به رسالة باللغة الفارسية الى الجار تخبره ان اباه واخوته قد ماتو فصار يلطم ويبكي لأن الرسالة موجهة اليه.
وذا عثمان الموصلي تتلى عليه الدروس والقصائد الطويلة فيحفظها بمجرد سماعها من دون ان ينقص منها حرفاً او يزيد.
وكان كل منهما طالباً للعلم في عاصمة الخلافة في زمانه، فأبو العلاء يدفعه طموحه فيسافر الى عاصمة الخلافة العباسية، وعثمان كذلك يسافر الى عاصمة الخلافة العثمانية وكل منهما يريد الاستزاده من العلم والالتقاء بالعلماء حاملاً معه عاهة العمى مستهيناً بها ومتكبراً وعناء الطريق.
اما ادب النثر عندهما فهو ابلغ الصور. فهذه قطعة من رسالة كتبها ابو العلاء المعري الى داعي الدعاة بمصر يقول فيها: "قد حضرتني فيما نطق به دقائق، هن لدى الكشف حقائق. ومن انا حتى يكتب الي؟ ومثله في ذلك مثل الثريا الطالعة كتبت الى الثرى وهو لايسمع ولا يرى. وقد علم الله ان سمعي ثقيل، وبصري عن الابصار كليل.. ثم توالت محني حتى اشبه شخصي العود النحيل. ومنيت في آخر العمر بالاقعاد وعداني عن النهضة عاد".
وقال عثمان الموصلي مايشبه ذلك في رساله كتبها الى احمد عزة الاعظمي الاديب المعروف قال فيها: "كحلت بصيرتي لا بصري واجلت نظر فكري لا نظري بلطائف صدرت عن عربي النزعة والمجار، وطرائف برزت من اعظمي الاقدام والاستبصار... جوالة في بحار الفلسفة، لاوية العنان عن كل سفَه، حريّة ان سترشد بها من استرشد، أتْهَمَ فيها او أنجد، فحينئذ طَفِقت اسأله عن هويته وكشف القناع عن ماهيته".
ومن اوجه التشابه بينهما ان كلا منهما يلعب الشطرنج وهو الشيء الذي يتطلب من اللاعب الضرير ان يحفظ في ذاكرته مواضع احجاره فضلاً عن احجار خصمه ويحفظ نقلات كل قطعة منها لتبقى صورة حشد القطع على الرقعة مرتسمة في ذهنه مهما تغيرت مواضعها واختلفت حركاتها.
هذه كلها اوجه التشابه بين الاثنين. اما مواضع الاختلاف فنذكر منها ان شعر ابي العلاء يزخر بالبلاغة والمعاني الجزلة وشعر اللزوميات ويتناول جميع اغراض الشعر ويتفوق بذلك على الموصلي فهو شاعر اصيل متفرغ للشعر بينما لم يتفرغ الموصلي للشعر فهو له نشاطات اخرى ولكنه يتفوق على المعري بضرب آخر من ضروب الشعر وهو نظم التاريخ الشعري أي وضع تاريخ احدى المناسبات في الشعر حسب الحروف والكلمات وهو من اصعب فنون الشعر ولا يقدر أحد من الشعراء ان يبلغ ما بلغه الموصلي في هذا المجال.
ويتفوق المعري على الموصلي بشيء آخر وهو فلسفة العقل بينما يتفوق الموصلي على المعري بالموسيقى والالحان.
وان تفضيل العقل ينسجم مع فلسفة ارسطو حتى قيل انه درس الفلسفة اليونانية وهو يؤيد حشر الاجساد ولا يؤيد قدم العالم.
اما الموصلي فترجح كفته في هذه المقارنة في مقابل فلسفة المعري وذلك بتفوقه بالموسيقى والالحان كما ذكرنا فهو يعزف على العود والقانون فيخرج النغمات الشجية ويضرب على الطبلة بسرعة هائلة تدعو الى الاعجاب ويضع الحان الاغاني والموشحات ويغنيها. ومن تلاميذه في الموسيقى الموسيقار المصري المعروف سيد درويش.
واظن ان المقارنة انتهيت الى هنا بالتكافؤ والتعادل بين الاثنين بأنواع المواهب وجوانب النبوغ، فكل منهما له نبوغه في جوانب تقابل مايتميز به الآخر.
ولكن انصافاً للحقيقة، وليس من قبيل التعصب لعثمان الموصلي فإن له جوانب اخرى من النبوغ والتفوق لاتتوفر عند المعري كالطرق الصوفية ومن اهمها المولوية التي هي ابتهال الى الله عن طريق الرقص والدوران على انغام الكمنجة والناي والطبلة. وكم يكون غريباً لو سمعنا ان بالعلاء المعري كان يدور على كعب قدمه ويرقص المولوية او يضرب على الطبلة ويعزف الانغام ولكن ذلك لم يحصل على الاطلاق.
وكان الموصلي قارئاً للقرآن ومقرئاً على القراآت السبع والعشر وغيرها ومن اشهر تلاميذه شيخ قراء مصر الخالد الذكر الشيخ محمد رفعت، بنما كان ابو العلاء لا يقرأ القرآن ولا يعرف ماهي القراآت القرآنية بل فوق ذلك كان متهما بدينه. وكان الموصلي صحفياً واصدر مجلة بإسمه ولم يكن المعري صحفياً.
وكان الموصلي سياسياً يفاوض الحكومات والدول بإسم الخليفة العثماني ولم يكن المعري سياسياً، وماكان أبعده عن السياسة.
وكان الموصلي ثائراً ضد الانكليز يحرض الناس على الثورة حتى هاجمه القائد البريطاني (ساندرز) ببيان اصدره ضده بينما لا يعرف المعري ماهي الثورات.
وكان الموصلي محباً للحياة تزوج مرتين وانجب اولاداً واحفاداً اعانوه في شيخوخته بينما كان المعري يكره الزواج وانجاب الاولاد واوصى ان يكتب على قبره:
هذا جناه ابي علي وماجنيت على احد
والجناية هي وجوده في الحياة وانجب الاولاد.
وكان الموصلي متفائلاً يحب المجتمع ويحب الناس ويحب النكته حتى قيل انه يضحك الثكلى. بينما كان المعري متشائماً انعزالياً حبس نفسه في بيته سمى نفسه (رهين المحبسين) أي العمى والبيت.
ومع ذلك فقد تهيأ للمعري من يكتب عنه الكتب ويخلد اسمه في الموسوعات الاجنبية حتى ان احد المؤلفين الاجانب وهو (لويس يونغ) قال في كتابه: (العرب اوربا) الصادر في بيروت سنة 1979 أن المعري اعظم مفكر عند العرب وان تأملاته الفلسفسة تتجلى في مواقفه التقدمية والعقلانية. بينما لم يكتب عثمان الموصلي كتاب واحد خلال اكثر من مائة عام بعد ولادته حتى تهيأ لي ان اكتب اول كتاب عنه صدر عام 1966 بعنوان (عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف). ثم اتبعته بكتابين آخرين واعتمدت في انجاز هذه الكتب على اكثر من خمسين مصدراً كتابياً ولقاءً مع المعمرين واشرفت على اقامة تمثال له في الموصل فعرفه الناس وكتبو عنه وسميت بإسمه قاعات ومحلات واقسام في معهد الفنون الجميلة ببغداد، والحمدلله رب العالمين.