
24/05/2012, 02h13
|
 |
رحـمة الله عليه
رقم العضوية:58261
|
|
تاريخ التسجيل: August 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 2,220
|
|
|
رد: بشير عياد مصري / عروبي حتي النخاع
عبد الله المصري الغلبان مُندهشًا .. يقفُ أمامَ لجنةِ الانتخابِ غارقًا في زحامِ الأسئلةِ يرفعُ عينيه فوق مستوى رأسه ، ثم يعيدُهما إلى مكانهما بحزنٍ وانكسار ، يتصبَّبُ حيرةً واستغرابًا وتعجّبًا إذ أصبحَ ـ فجأةً ـ غاليًا ومهمًّا ومثارَ عنايةِ السادةِ المرشّحينَ والذينَ معهم من المطبّلينَ والمزمّرينَ وحاملي توكيلاتِ الابتساماتِ الصفراءِ الباهتة ، وكلّما دارَ في مكانِهِ تساقطَ منه العرقُ ممزوجًا بالغبارِ وعلاماتِ الاستفهام !
في يدِهِ مجموعةٌ من البوستراتِ المهترئةِ والأوراقِ الممزّقةِ .. تزاحِمُ شيكارةَ أرزٍ بيضاءَ عليها شعارُ حزبِ الأغلبيّةِ كهديةٍ متواضعةٍ من أجلِ دعمِ مرشّحِهم للرئاسة ، عبد الله الغلبان يتردّدُ ويرتجفُ من أعماقهِ تعتصرُه الظنونُ ، مثلَ كلّ مرّةٍ ، خوفًا من أن تكونَ هذه الهديّةُ المتواضعةُ بمثابةِ الرشوةِ المقنّعةِ والعياذُ بالله .. لكنّه يطردُ الوساوسَ والظنونَ من خيالِهِ عندما يتذكّرُ أنّ الحزبَ حزبٌ دينيٌّ لا يتكلّمُ أعضاؤُهُ إلا مُستشهِدينَ بآياتٍ من الذكرِ الحكيمِ وأحاديثِ رسولنا الكريمِ عليه الصلاةُ والسلام ، كما أنّه لم ينسَ السكّرَ والزيتَ والأرزَ وكلّ الهدايا الكريمة التي نالها مع الحملةِ الانتخابيّةِ الأولى على مصر ، والرجلُ ـ ككثيرٍ منَ الغلابةِ في برّ المحروسة ـ لا ينسى ما قامَ به حزبُ الحريّةِ والعدالةِ من أجلِ توفيرِ أنابيبِ البوتاجازِ ـ في عزّ الأزمة ـ فكان الحزبُ ، بمنتهى الحريّةِ ، يأخذُ الأنابيبَ المدعومةَ من المستودعاتِ ويحملُها رجالُه إلى الغلابة ويوزّعونها ـ بمنتهى اللاعدالة ـ التي تحرمُ الآلافَ من الحصولِ على نصيبهم من الغاز ، وكانَ المجلسُ العسكريّ ، والحقُّ يقالُ ، متعاونًا مع الحزبِ كأحسنِ ما يكونُ ، من أجلِ توفير أنابيبِ الحريّةِ لبعضِ المواطنين بما " لا " يكفل العدالةَ لملايين غيرهم ، فلم نسمعْ للمجلس صوتًا ، ولم نسمع بتحقيقٍ يكشفُ عن اللهو الخفيّ الذي أباحَ لفصيلٍ من الناسِ الحصولَ على الأنبوبة بسعرٍ رمزي ، بينما الملايين يعودون إلى الكانون ووابور الجاز وأشياءِ العصور الوسطى.
كانَ من حُسْن حظّ عبدالله ، وسوء حظّ الملايين ، أن يكونَ قريبًا من مرمى الحريّة والعدالة ، فناله الخيرُ الكثير من هداياهم .. الأرز والزيت ، والأنابيب لطهي الأرز بالزيت ، والسكر والشاي لكي يحبس بعد كلّ أكلةٍ شرعيّة ، وفي كلّ مرّةٍ تحاصرُهُ الوساوسُ بِحُرمانية هذه الرشوة .. يطردها بعصا اليقينِ حتى لا ترتجفَ الملعقةُ في يدهِ أو يتجمّدَ الأرزُ في حلقه !!
بينَ الحينِ والحينِ تباغتُهُ ابتسامةٌ طائشةٌ من أحد الهتّيفةِ مصحوبةً بورقةٍ أو بوستر أو بنكنوت عندما يقولُ له المواطنُ الذي خلفه : " اتحرّك " ، عبد الله الذي بُحَّ صوتُهُ من الشكاوَى أصبحَ لصوتِهِ وزن !! يغمضُ عينيهِ ويسرحُ بعيدًا عن الطابور ... وفي لمحِ البصر تدورُ في رأسِهِ طواحينُ الكلامِ .. يبتسمُ بمرارةٍ إذ يمرُّ في خياله طيفُ مقدّمة البرامجِ التي تشبهُ فرخةَ الغيط ، تلك الفرخة التي باضت ورقدت على البيض في أذن عبد الله ( وأمثاله ) ، وكلّ ساعتين تنتقلُ إلى الأذنِ الأخرى كاك كاك كاك كاك ... حتى فقسَ صوتها الملايين من ديوكِ الكلام ، وعلى أحبالِ صوتها الباردِ تتدلّى صورُ المرشحينَ .. هذا ثوريٌّ .. وذاكَ فلول ... وهذا ذيول .. وذاكَ لا محلَّ له من الإعراب !! وفي دوّاماتِ التصفيقِ الحادِ المُفتَعَلِ يسقطُ رأي عبد الله ويتآكلُ ويذوبُ بفعلِ أحماضِ النصبِ والتدليسِ والألعابِ القذرةِ في مزادِ بيعِ الوطن ! وما بينَ صراخ فراخ الغيط في الفضائيات وبين العناوين التي يختلسها عبد الله من عناوين الصحفِ الـ ... سيّارة .. يهتزّ كلّ شيءٍ ويسقطُ تاركًا فجوةً في الروح قاطعًا الطريقَ أمامَ كلِّ أمل .. المنافقونَ لا يتغيّرون .. فقط يغيّرونَ الملابسَ ويسارعونَ لأخذِ أماكنهم في مواكبِ التملّقِ والرياء ، الأصواتُ والأقلامُ تمارسُ عادتها القديمةَ في مسحِ الجوخِ ولحسِ الأعتابِ ، وبإصرار عجيبٍ تستميتُ في مواقعِها ومرابِضها لتظلَّ ككلابِ الحراسة .. والشعاراتُ التي أورثتنا الهزائم والديونَ والإحباطَ والخرابَ النفسيَّ يُعادُ صكّها وترويجُها في طبعاتٍ جديدةٍ غيرِ منقّحةٍ وإطلاقها ـ ببجاحة ـ في فضاءِ الإعلامِ المشمومِ وبراحِ الصحفِ المُباعةِ وخراباتِ الإنترنت ! كلّ الذينَ خرجوا من الجحورِ والسراديبِ إلى النور والهواءِ الطلقِ على جثثِ الشهداءِ ورائحةِ دمائهم الزّكيةِ لم يعودوا يتذكّرونَ الشهداءَ ولا الثأرَ والقصاصَ لهم ! كلّ الذينَ عاشوا دهرًا محرومين من أبسطِ حقوقهم في الحريّةِ والعدالةِ يقاتلونَ الآنَ من أجلِ حرمانِ الأمّةِ منها !
ما هذا يا عبد الله ؟ يتحرّكُ الرجلُ ببطءٍ شديدٍ في طابورِ الأسئلة ، وكلّما زغدهُ أحدهم أفاقَ ليجمعَ الابتسامات الصفراءَ ويلصقها بكيسِ الأرز ، في يدهِ الصورُ التي يكرهها ، والشعاراتُ التي لا يطيقُ لها سمعًا ولا ترديدًا ، وأكياسٌ لا حصرَ لها من الوعودِ البرّاقةِ التي تلمعُ كطحالبِ المستنقعاتِ الراكدة ، ظهرهُ يكادُ ينثني من حِملِ الهمومِ الذي على كتفيه ، وخيالُه مثل عشّةِ الفراخِ التي داهمها ثعلبٌ فراحَ كلّ ما فيها يتقافزُ بلا وعيٍّ لينجو ، فوضى وضجيجٌ وصراخٌ وغبارٌ ودُخانٌ ووو... والحصيلةُ : صِـفـْر !! يفتحُ عينيهِ ببطءٍ وضعفٍ وذلٍّ فتنفرجانِ بصعوبةٍ كستارةٍ باليةٍ على نافذةِ قطارٍ متهالك ، وبصعوبةٍ شديدةٍ يتقدّمُ ويوقّعُ أمامَ اسمِهِ في كشوفِ اللجنة ، ثمّ يلملمُ أشياءهُ وما تبقّى منه ، وبنصفِ عينٍ ينظرُ إلى السيّد رئيس اللجنةِ ويجرُّ قدميهِ باتجاهِ الصندوق .. يغلقُ الستارةَ بما تبقّى في حوزتِهِ من قوّة ، وبيدٍ مُرتعشَةٍ يتناولُ القلمُ ويطالعُ الأسماء ، يسقطُ من يدهِ كيسُ الأرزِ ، والأوراقُ ، والبوستراتُ ، تتساقطُ من أذنيهِ بقايا الشعاراتِ والوعودِ الكاذبةِ فتلوّثُ ملابسه ، وتتلاشى صورُ المخادعين والمنافقينَ وسماسرةِ القيم ...،، ... يستجمعُ عبد الله الغلبان كلَّ قواهُ ويقذفُ القلمَ في فراغِ اللجنةِ وينهارُ باكيًا .
***************

(( بقلم بشير عيّاد ، جريدة " فيتــــــــو " ، الثلاثاء 22 مايو 2012م ))
|