انطباعات شخصية
عن غناء يوسف عمر
بمناسبة الاحتفالية الكبري للفنان يوسف عمر في منتدانا، ارجو ان انتهز هذه الفرصة للتعبير عن انطباعاتي الشخصية عن هذا العملاق الذي عشت مع تسجيلاته الصوتية والمرئية عشرات السنين، عشقت غناءه، طربت حين اطرب وبكيت معه حين انّ وناح.
تعرفت على يوسف عمر وبدأت بمتابعة غنائه بعد حادثة آلمتني وكانت سببا في انجذابي اليه. لم اكن في طفولتي وصباي اعير الغناء اهتماما خاصا. كنت استمع عن بعد الى الاسطوانات التي كان ابي واخي الاكبر مولعين بالاستماع اليها. وحدث مرة ان اخي جلب اسطوانة جديدة. كنت ساعتها منهمكة في تحضير واجباتي المدرسية، ومع ذلك جذب انتباهي صوت ذو نبرة قوية ينشد شعرا فصيحا يقول:
واخرج من بين البيوت لعلني احدث عنك النفس والليل خاليا
وتذكرت حالا انها ابيات مختارة من قصيدة "المؤنسة" لقيس بن الملوح (مجنون ليلى) التي يستهلها بقوله
تذكرت ليلى والسنين الخواليا وايام لانخشى على اللهو ناهيا
ولكن البيت الذي استهل به يوسف عمر غناءه جعلني في شبه ثورة نفسية. فكيف امكن لهذا المطرب ان يعتدي بهذا الشكل على شاعر كبير وعلي قواعد اللغة العربية. كيف سمح هذا المطرب لنفسه ان يقع في خطأ وان يسجل خطأه على اسطوانة ويطلع بها على الجمهور. الا يكفيه انه اخذ الشعر من قيس بن الملوّح بل تجرأ على تغيير ما فيه ويقول "والليلُ خاليا" بدلا من "بالليل خاليا"، كما هو في الاصل، مما جعله يقع في خطأ نحوي مريع. والله لو كان قيس حيا لجن على ما فعلوا بشعره فوق جنونه على ليلى. تركت دروسي وقلت لاخي انه من الظلم للشعر واللغة والصرف والنحو ان نحتفظ بهذه الاسطوانة في بيتنا. وهنا حاول اخي تهدئتي وقال انك محقة، ولكن لنستمع معا الى هذا الصوت الرائع وما يحتويه من نبرة اخاذة وبحة تمس شغاف القلب. انه اخطأ. ولكنه قليلا ما يخطئ وليس كغيره ممن لهم اخطاء لا تعد ولا تحصى. وبدأت استمع مرة ومرات الى الصوت الشجي واغض الطرف عن الخطأ النحوي. ومنذ ذلك الحين بدأت اتعقب اعمال يوسف عمر، يشدني اليها صوته بنبرته البغدادية الاصيلة وبحته الحزينة، وذوقه الرفيع في اختيار الشعر لمقاماته واغانيه.
****************.
بلغ يوسف عمر القمة في فن الغناء واداء المقام، ولكن حياته لم تكن سهلة، بل يمكن القول ان حياته كانت صعبة وقاسية. تيتم وهو طفل. تربى مع اخوته في كنف ابن عم والده. وقبل ان يبلغ سن الرشد قبض عليه بتهمة يقال انها الصقت به زورا وبهتانا، ولم يكن هناك من يحميه ويدافع عنه، فامضى خمسة عشر عاما في غياهب السجون (ويا ما في السجن من مظاليم). بيد ان القسوة في الطفولة واليتم في النشأة والعزلة في السجن صاحبتها جميعا موهبة حباه الله بها وامدته بحب الحياة، وهي ولعه الشديد بالغناء العربي الاصيل. هذه الموهبة جعلته يتغلب علي قسوة الحياة في طفولته ونشأته وفي مظلوميته في سجنه. وهكذا كانت سنوات السجن الخمس عشرة بمثابة فترة دراسة تفرغ خلالها لممارسة واستيعاب فن اداء المقام واتقان اصوله وتفرعاته. ويجوز ايضا انه بسبب معاناته امتزج صوته بتلك البحة الحزينة التي اصبحت سر دخول غنائه قلوب السامعين. فالمرء حين يصغي الى يوسف عمرلابد من ان ينسجم معه ومع صوته وبحته مهما كان نوع المقام الذي يؤديه او الاغنية التي يترنم بها. ان البحة الحزينة في صوت يوسف عمر لا تشملها الاصول او القواعد التي تفترض ان يكون الصوت صافيا ومصقولا، فهذه البحة الجريحة هي التي تجعل يوسف عمر يستدر دموع سامعه ويشعره كانه يعيش ماساته معه.
واذا كان يوسف عمر قد عانى من قسوة الحياة وشظف العيش الى ان خرج من السجن وقد تجاوز سن الثلاثين، فانه ظل يعاني حتى حين خرج بفنه الى الجمهور واشتهر وحظي بحب وتقدير اهل الخبرة والذوق السليم. كانت معاناته هذه المرة خفية مكبوتة. صحيح ان يوسف عمر كان موهوبا بحب الغناء والموسيقى منذ نعومة اظفاره، ولكنه تعلم اصول الاداء بالاستماع. استمع الى غناء كبار المطربين المصريين، وتابع تراتيل القرآن والمناقب النبوية والتهاليل، وانصت بل امتزج بروحه مع كبار قراء المقام العراقي حتى صار يقلدهم بدقة واتقان يثيران الاعجاب. تأثر يوسف عمر اكثر ما تأثر بكبير قراء المقام محمد القبنجي، ولكن روعة ادائه لا تعود الى ضوابط المقام التي يتمسك بها القبنجي، بل الى تلك الروح المغامرة التي لا تخضع لمنهج محدد. وعلى الرغم من ان يوسف عمرابدع واجاد واتقن وكان له في الاداء "لون" خاص يتميز به، فانه بقي يعاني من صعوبة بناء شخصية مستقلة شامخة في ظل استاذه الكبير محمد القبنجي. كان يوسف عمر يشعر دون شك بانه يستحق لقب استاذ، ولكنه كان يرفض ويرد على من يناديه باستاذ بانه لا احد يستطيع ان يحمل لقب استاذ غير الاستاذ القبنجي. صحيح ان يوسف عمر كان يكن كل تقدير واحترام لاستاذه القبنجي، ولكنه في نفس الوقت كان يدرك مدى حساسية القبنجي لاستاذيته. فمثلا حين سئل القبنجي مرة من من بين قراء المقام يمكن ان يكون مرشحه لكي يكون خليفته من بعده، قال انه يرشح يوسف عمر. ومع كل ما في هذا القول من تقدير ليوسف عمر، الا انه ينطوي في نفس الوقت على اشارة كان يوسف عمر يدركها ويقدرها ويكتم معاناته منها. هذه هي حالة نفسية صعبة يعاني منها كل موهوب تحتم عليه ظروف الحياة ان تكون منزلته ثانوية في ظل من سبقه في الاولوية. اني بهذا اعبر عن رأي شخصي استنتنجته من استماعي ومتابعتي ليوسف عمرخلال سنوات عديدة، وقد اكون غير مصيبة في ذلك.
ثم ان يوسف عمر عانى في سنواته الاخيرة من مرض الم به، ولكنه ابى ان يستسلم له. ظهر امام الجمهور وغنى، واطرب سامعيه. لم تثنه معاناته هذه او تلك عن ان يسمو بفنه، تحيط به قلوب محبيه وعشاق غنائه الذي ينساب الى اعماق النفوس ويرتفع بها الى قمم البهجة والطرب.
واذا كانت معاناة يوسف عمر قد رافقته طيلة حياته، فان معاناته هذه كانت بطبيعة الحال تشكل عاملا هاما في غنائه. ويمكن القول ان غناءه كان مطبوعا بما عاناه في حياته. ويجوز انه لم يكن من باب الصدف ان يوسف عمر كان يختار لمقاماته الشعر الذي يجد فيه تعبيرا عن شعوره هو، وتصويرا لما الم به من مصاعب ومصائب. فهو لا يكتفي بان يكون دقيقا في تلاوة الشعر بل يحاول في اغلب الاحيان ان يتقمص شخصية الشاعر، بل ويتصرف وكانه يعبر عن شعوره هو ولا يرتل شعرا لغيره، وهذه ميزة لانجدها دائما حتى لدى كبار قراء المقام.
ونحن حين نصغي الى يوسف عمر وهو يؤدي،مثلا، مقام الاوج "ان عيني ودمعها نضاح" بابيات لشاعر العراق الكبير معروف الرصافي، وحين نشاهده بشريط الفيديو (المشاركة 369 في مثبت يوسف عمر) لابد ان نلاحظ في نبرات صوته وفي ملامح وجهه ذاك الالم الدفين والمعاناة المكتومة. وهل يمكن للمرء الا يشاركه المه وحزنه، وهل يستطيع المرء ان يحبس دموعه حين يسمعه يقول:
كيف لا اذرف الدموع وعزي بيد الذل هالك مجتاح
قد رمتني يد الزمان بخطب جلل ما لليله اصباح
نحت حتى رثى العدو لحالي واعتراني من العويل بحاح
وهناك معنى خاص وشعور خاص يعبر عنه بكل احساسه حين يقول:
انا باق على الوفاء وان كانت بقلبي ممن احب جراح
نعم انه شعر للرصافي، ولكن يوسف عمر استعاره لكي يبكي وينوح حتى اعتراه من النواح بحاح، وهذا البحاح الذي يعبر عن الحزن والالم هو الطابع المميز ليوسف عمر.
ذهب يوسف عمر ، وترك لنا بانينه ونواحه وشكواه ثروة فنية خالدة لاتقدر بثمن.
فشكرا لمنتدى سماعي وللمشرفين على قسم العراق الاستاذ وسام الشالجي والاستاذ اسامة عبد الحميد على هذه المبادرة الكريمة لتخليد ذكرى هذا الفنان العملاق.