رد: الوظائف الروحية لفن السماع في المجتمع المغربي
2 ـ المديح النبوي وبعض أدواره الروحية :
يقول الشيخ الدلائي : " لما كانت محبة هذا النبي الكريم فرضا على الأعيان ، والصلاة والسلام عليه من أجل ما تلفظ به الإنسان ، وأمداحه وذكر أوصافه الجليلة من أفضل ما اعتنى به الإنسان ، لأن ذلك ذريعة ووسيلة إلى محبة الرحيم الرحمان ، هاجت أفئدة أقوام جذبتهم أيدي السعادة ، وأكرمهم الكريم بالحسنى وزيادة ، فاقتطفوا من رياض محاسنه بديع الأزهار، وقلدوا بها جيود الموشحات والأشعار ( ... ) واتخذوا لذلك طبوعا وألحانا ، ونغمات وأوزانا ، رغبة فيما يقوي محبة هذا النبي الكريم وتلذذا بذكر أوصاف حسنه الوسيم ، أذ الحب أصل المدح ، والمدح أصل الربح ، فلقد فاز المحبون ، واغتنم المادحون ، وخسر هنالك المبطلون " .
يفصح هذا النص بوضوح عن حقيقة ثابتة مفادها أن الحافز إلى الاعتناء بالمديح النبوي الشريف نظما وتنغيما ، هو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتعلق بجنابه ، ذلك أن مدح الرسول هو عنوان محبته ، وهذه المحبة شرط من شروط الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" ، وفي رواية أخرى : " حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين " ومن علامات هذه المحبة الاقتداء بالمحبوب ، لأن المحب لمن يحب مطيع ، يقول سيدي فتح الله بناني ، ولمحبته صلى الله عليه وسلم علامات ، ودلائل واضحات ، منها ، وهو أعظمها ، الاقتداء به ، واستعمال سنته وسلوك طريقته ، والاهتداء بهديه وسيرته ، و الوقوف على على ما حده من شريعته . قال تعالى : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعني يحببكم الله" ، وقال عليه الصلاة والسلام : من أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة " ، وهو ما يعني أن محبة الرسول تقتضي التخلق بأخلاقه ، واتباعه في أقواله وأفعاله وتقريراته ، والعمل بسنته ، والتمسك بهديه ، وتعظيم آل بيته ، وصحابته وورثته من علماء الظاهر ، حملة لواء الشريعة ، وعلماء الباطن ، حملة لواء الولاية . الأمر الذي يجعل من فن مديحه عليه السلام ، بوصفه عنوانا لمحبته ومحفزا على التحقق بمقتضياتها ، أداة من أدوات ترسيخ القيم الإسلامية الحنفية التي تجسدها أكمل تجسيد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ،وسيرته المطهرة : يظهر هذا جليا فيما تتضمنه نصوص المديح من معان ودلالات وقيم ، فهذه النصوص ، كما سبق التفصيل ، إما تصليات على الرسول الأكرم ، والصلاة عليه فرض على الأعيان كما تدل على ذلك مجموعة من الآيات والأحاديث ، وإما استحضار لشمائله الخلقية وكمالاته الحسية ، وهي مدعاة لتشخيصه وحبه والتعلق به ، وإما استحضار لأخلاقه الكريمة ، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه فقال في حقه : "وإنك لعلى خلق عظيم" وإما استشفاع به وتوسل بجاهه ، وهو الذي أرضاه ربه بعطية الشفاعة في الخلق يوم العرض ، وإما تعبير عن محبة آل بيته والتعلق بهم لقوله صلى الله عليه وسلم : " أحبوا أهل بيتي لحبي " . وخلال جميع النصوص المديحية التي تسبح في هذا الفلك الدلالي ، يتم استدعاء سيرة الرسول المطهرة للوقوف على خواص الذات النبوية الشريفة ، وسجاياها في الدين والحياة ، ومسارها النموذجي في نشر الرسالة وإحقاق الحق والدعوة إلى التوحيد وتحقيق المثل الإسلامية العليا ، ويكفي التأمل في قصيدتي "البردة" و "الهمزية" البوصيريتين لنكتشف أننا إزاء سيرة نبوية منظومة في أبهى حبك وأزهى سبك .
أضف إلى ذلك أن ارتباط ظهور فن المديح النبوي وازدهاره ببداية الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب خلال القرن السابع الهجري ، مع ما يرمز إليه سياق هذا الاحتفال من رغبة في الحفاظ هوية الشخصية المسلمة والحيلولة دون تقليد النصارى في احتفالاتهم بأعيادهم المسيحية ، كل ذلك يجعل من فن المديح النبوي ـ بالإضافة بعده الديني المرتبط بترسيخ محبة الرسول الأكرم وتثبيت مختلف القيم الإسلامية الحنيفة المتصلة بسيرته ورسالته ـ أداة من أدوات حماية الهوية الإسلامية من الاختراق الثقافي ، وهو ما جعل فن المديح ، أمام تطور العناية به سواء من خلال الاحتفالات الرسمية بعيد المولد أو من خلال احتضان هذا الاحتفال أيضا من قبل الزوايا الصوفية في المغرب أو من خلال مختلف الطقوس الشعبية لهذا الاحتفال ، يصبح مظهرا من مظاهر الثقافة المغربية الأصيلة ، لا سيما وأن المغاربة قد أغنوا هذا الفن بالأشعار المختلفة وضمنوه ملحوناتهم المعروفة بالبراول ، كما أثروه بالتلاحين والأنغام والإيقاعات و تنويع أساليب الأداء ، وبيأوه في سياقهم المغربي المتعددة مشاربه الثقافية ، إذ يكفي أن نلتفت إلى ازدهار المديح النبوي في مختلف المغرب ، وكذا ازدهار تلحين نصوص المديح أيضا وفق أنغام ذات أصول أندلسية وأخرى إفريقية وثالثة أمازيغية وغيرها ، لتأكيد ما نقول ، بل إن أنغام فن المديح النبوي وأشعاره أصبحت مظاهر ثقافية عامة في المجتمع المغربي ، تحضر آثارها إما نظما أو نغما في مختلف التجليات ، الاجتماعية والدينية ، سواء في هدهدات الأمهات لأطفالهن وتسكينهن لصغارهن بالأذكار والصلوات ، أو على الصوامع والمآذن من خلال تتويب المهللين وأذان المؤذنين ، أو في تكبيرات وتسبيحات الناس في صلاة العيدين ، أو في صيغ دعواتهم عقب الصلوات الخمس في المساجد ، أو من خلال أذكارهم التي يشيعون بها أحبتهم إلى مراقدهم الأخيرة ، أو من خلال ترتيلهم الفردي والجماعي للقرآن الكريم ، أو من خلال رواية حديث الإنصات في صلاة الجمعة ، وكذا في تصادح النساء ، في الأفراح العامة والخاصة ، بالصلاة على النبي الكريم وفق صيغة مغربية سائرة تعقبها زغاريد بهية ، ناهيك عن مظهر ساطع لحضور فن المديح والسماع في الحياة الاجتماعية المغربية يتجلى في استحضار واستدعاء المادحين في مختلف الأفراح والأتراح إلى البيوتات الخاصة للتغني بسيرة الرسول وأمداحه والصلاة عليه .
إن هذه المظاهر جميعها تبرز مدى الأثر العميق الذي يضطلع به فن المديح النبوي في التعبير عن الوجدان الديني المغربي ، بل ومساهمته في دعم " التلحيم الروحي " للمجتمع المغربي وتغذية وتقوية هويته الإسلامية ، إذ يعيش المسلم المغربي دينه من خلال مختلف الشعائر التعبدية ، مثلما يعيش حياته الإسلامية من خلال مختلف تلك المظاهر الثقافية والتقاليد الاجتماعية المغربية
|