رد: الخصائص الفنية للأغنية الصوفية
· الفئة الثانية : تعتمد في مصاحبة إنشادها على آلات النفخ والنقر، مثل التهاميين والغازيين والعيساويين واحمادشة وجيلالة، وينتمي أغلب هذه الطرق إلى أوساط الحرفيين وعامة الشعب، على أن آلات النقر تحتل الدرجة الأولى في الاستعمال بالنسبة للأسرة الهوائية التي تحتضن النفير الغيطة والليرة والعوادة (وهو مزمار من قصب سميك).
· الفئة الثالثة: تكاد لا تستعمل سوى آلات النقر كطائفة هداوة، وإلى ذلك أشار إبراهيم التادلي إذ قال: إن الهداويين يستعملون الإيقاع الثلاثي، فإن دقهم في أكوال ثلاث مرات يشطحون ويضربون عليه (10). وتندرج تحت هذه الفئة الزاوية الحسونية بسلا، غير أنها تستخدم من بين آلات النقر ما هو ألصق بألوان الموسيقى الشعبية كالطاسة والطبلة والطبل الكبير والطارة التي يراد بها البندير.
ويلاحظ أن الفئتين الأخيرتين لا تستعملان آلات الوتر في غالب الأحيان، فإن هما استخدمتاها كان ذلك على سبيل نقرها بالأصابع لا غير، كما هو الشأن في استعمال احمادشة للكمبري وكناوة للهجهوج.
ولقد وقفت بعض الطوائف الصوفية من الآلات الموسيقية موقفا سلبيا، فاستنكفت عن استخدامها في أذكارها، في حين رحبت بها طرق أخرى ولم تر في استعمالها ما ينقص من قيمة أذكراها. وقد ذهب أصحاب الفئة الثانية في تبرير هذا الاستعمال مذهب التأويل الصوفي، ومن ذلك ما رواه الشيخ الحسن اليوسي في محاضراته على لسان محمد بن أبي بكر الدلائي إذ رأى ابن حسون في سلا وقد كان يستقبل بزاويته كل صباح أصحاب الآلات الموسيقية: " وأما أمر الآلات فإما أنه كان يستفيد من تلك الأصوات أسرارا ومعاني... وإما أن ذلك يوافق حالة جمالية تحضر في الوقت، ومن هذا المنبع يقع الطرب وما يشاهد من حالات أهل الوجد..."(11)
ويزيد في فهم هذا التأويل قول الشيخ إسماعيل الأنقوري في كتابه "رسالة في دوران الصوفية ورقصهم": إن أصحاب الباطن ينظرون إلى حقيقة كل شيء، فيسمعون من كل شيء تسبيح الله وتنزيهه كما قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). فالدف والمزامير والقضيب والطبل وأمثالها داخل في الشيئية، فهم يسبحون الله ويقدسونه، فكيف ينكر أهل الظاهر على أرباب الطريق الذين يسمعون تسبيح الأشياء؟(12).
وإذن فاستعمال "الملاهي" ليس من الهزل في شيء، ولكنه الجد كله عند المتصوفة، كما قال أبو الفارض:
ولاتك باللاهي عن اللهو جملة *** فلهو الملاهي جد نفس مجدةِ (13)
وعلى النقيض من موقف التأييد، فقد وقف بعض فقهاء المغرب من ظاهرة العزف الآلي لدى أصحاب الطرق موقف المعارضة والتنديد. ولعل أشد هؤلاء الفقهاء على رجال التصوف العلامة محمد بن المدني كنون المتوفى عام 1302 هـ في كتابه "الزجر والإقماع في النهي عن آلات اللهو والسماع". فقد أفتى بتحريم العزف على آلات الموسيقى، محتجا بأقوال فقهاء الإسلام كقول صاحب عوارف المعارف: "خلاف في حرمة الأوتار والمزامير وسائر الآلات" ولم يفرق فيما استعمل للعزف المجرد أو المصحوب بالغناء (14). وشبيه بموقف كنون إنكار الزياني المتوفى عام 1249 م في "الترجمانة الكبرى" عمل بعض الفقراء الصوفية الذين كانوا يجتمعون بضريح المولى إدريس فيستعلمون بعض الآلات في أذكارهم كالعود والبندير والطر والبوق والمزامير (15).
وقبلهما أنكر الونشريسي في "المعيار المعرب" على أصحاب الطرق استعمالهم للآلات عند الاجتماع في ليلة المولد النبوي (16).
ومثل العلامة كنون اتخذ بعض شعراء مطلع القرن الثالث عشر للهجرة بالمغرب موقف المعارضة من ظاهره العزف الآلي لدى أصحاب الطرق. ومن هؤلاء الشاعر محمد المهدي الحجوي الذي يقول من قصيدة "وقفة على الأطلال":
ولذا زاويـــة يدعــو لـــهـــا *** ولهذا نغمـــات وطبـــــــــول(17)
ومنهم الشاعر محمد الجزولي من قصيدته "الرباط وختمة شيخ الإسلام"
وإن الذكر ليس بقــرع طبـل *** ومزمار علا ذقنــا لعينـــــــا
وإن الديــن من هــذا بـــراء *** وإن الله يخزي المدعينـــــــا (18)
ومنهم أيضا محمد الناصري من قصيدته "جيل التصوف":
أفي القرآن قال اللــــه فيكـــم *** تغنوا راقصين على الطبول؟ (19)
الهوامش:
(1) - محمد المختار السوسي: الترياق المداوى في أخبار الشيخ سيدي الحاج السوسي الدرقاوي، ص: 206.
(2) - محمد المنوني/ مج البحث العلمي، ع 14 و 15، س6، س 1969، ص: 168.
(3) - مطبعة دار المغرب، سنة 1396 /1976، ص: 117.
(4) - الدكتور الجراري: القصيدة، ص: 20.
(5) - المقدمة، الفصل الحادي عشر في عام التصوف، ص: 469.
(6) - انظر كتاب السعادة الأبدية لابن الموقت، ج 1، ص: 53، ونشر المثاني لمحمد بن الطيب القادري، ج 2، ص: 72-75.
(7) - صالح الشرقي: أضواء على الموسيقى المغربية، ص: 40.
(8) - الإعلام ج 4، ص: 93.
(9) - أغاني السيقا، ص: 100.
(10) - أغاني السيقا، من الفصل الثالث.
(11) - محمد بن الطيب القادري: نشر المثاني، ج1، ص: 84 ـ 88. المحاضرات تحقيق محمد حجي، ص: 78.
(12) - حاجي خليفة: كشف الظنون، ص: 864 ـ 865.
(13) - الديوان، التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك.
(14) - مطبوع حجري، الجامع الكبير بمكناس رقم 774 ـ الملزمة الثامنة.
(15) - مطبعة فضالة المحمدية، ص: 462.
(16) - المعيار، ج11، ص: 211.
(17) - محمد بن العباس القباج: الأدب العربي في المغرب الأقصى، ج1 و2، ص: 17.
(18) - نفس المرجع، ص: 93.
(19) - نفس المرجع، ص: 123.
|