عرض مشاركة واحدة
  #132  
قديم 05/08/2009, 19h23
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي


الشافعـى يتحـدث ويتحدث

@ مضت سنوات والشافعى متصدر مجلسه العامر فى فناء الكعبة قبالة الميزاب حيث تنزل الرحمات والبركات كسيل العرم . وحلقته تتسع يوما عن يوم ويزداد روادها من داخل الحجاز ومن خارجها بعد أن ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق . صارت تضرب الإبل أكبادها إليه من كل فج عميق سعيا وراءه وطلبا لعلومه وآدابه ..
فى مجلسه ترى مئات من البشر يجلسون فى أدب وخشوع منهم من يكتب ومنهم من يرهف سمعه إلى كلامه الذى ينبع من عين علوم القرآن والسنه . تلك العين الجاريه التى تفيض على الحاضرين بأعذب الكلام فيروى ظمأهم ويطفئ غلتهم هذا المنهل العذب الصافى ..
إعتاد الذهاب كل يوم إلى ساحة الحرم مبكرا لا يتخلف عنها إلا لضرورة أو عذر . بيده ولده محمد وقد بلغ عامه السادس حيث يتركه بين يدى شيخه معلم القرآن ,فى نفس المكان الذى كان يختلف فيه قبل نيف وثلاثين عاما إلى شيخه الراحل إسماعيل بن قسطنطين ..
أحدهم يسأله .........
ــ يا ابن إدريس ما معنى الأمه فى قوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمه" ؟.
ــ إعلموا أيها القوم أن الأمه جاءت فى القرآن على ثلاثة وجوه . أما قوله تعالى فى سـورة الزخرف [ إنا وجدنا آباءنا على أمه ] أى على دين . وقوله تعالى فى سورة يوسف [ وادكر بعد أمه ] أى بعد حين أما قوله تعالى فى سورة النحل [ إن إبراهيم كان أمه ] أى كان معلما ..
فى تلك الأثناء كان رجال ثلاثة يتحركون على مقربة من مجلس الشافعى يتداولون فيما بينهم ,أحدهم يقول لصاحبيه ............
ــ هيا يا إخوان تعالوا بنا إلى حلقة هذا الحجازى المطلبى ..
أشار بيمناه ناحية الشافعى الذى بدا صوته بعيدا عنهم ,عاجله آخر وكان فارسيا بقوله .........
ــ ماذا تقول يا ابن حنبل . تقيمنا من عند شيخ يقول حدثنا الزهرى عن عبد الرزاق ويملى علينا أحاديث عمرو بن دينار لتأتى بنا إلى هذا الشاب المغمور ؟.
رد مبتسما فى مودة وثقه ........
ــ يا أبا يعقوب يا ابن راهويه . إن فاتك عقل هذا الرجل فإنى أخاف عليك ألا تجده إلى يوم القيامه . إقتبس أنت وصاحبك يحى بن معين من هذا المطلبى فلن تر عيناكما مثله . إنه رجل آتاه الله فصاحة اللسان وبلاغة البيان وقوة الجنان . إذا أخذ فى التفسير فكأنما شاهد التنزيل ..
رد فى ضيق........
ــ أنت يا ابن حنبل , تقول مثل هذا ؟.
ــ بل وأمسك بركاب بغلته إن أمككنى وأقودها له راضيا ..
ــ ماذا تقول يا ابن حنبل . أنت تفعل ذلك ؟.
ــ أجل وأكثر منه . لقد لازمته طويلا وقت أن كان يقيم فى العراق وأخذت عنه الكثير . كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بهذا الشافعى . إنه خطيب العلماء وسيدهم ..
سكت برهة ثم أردف متمما لصاحبه .........
ــ سمعته ذات يوم يقول مقالة فى حديث لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما سمعتها من أحد قبله ولا حتى من شيخ المحدثين سفيان بن عيينه ..
ــ عن أى حديث تتكلم ,وماذا قال فيه هذا الشافعى ؟.
ــ قوله "صلى الله عليه وسلم" ... [ أمكنوا الطير فى أوكاها وبكروا على إسم الله ] . هل لك أن تخبرنى بمعنى هذا الحديث ماذا فهمت منه ؟.
رد فى استخفاف .............
ــ هذا حديث مفسر ,وهو نهى عن صيد الليل أى دعوا الطير فى ظلمة الليل فى أوكارها . هكذا سمعت تفسيره من شيخنا وكيع بن الجراح ..
ــ إسمع إذن ما قاله الشافعى فيه لما سألته عن معناه ذات مرة قـال لى ....……
ــ كان أهل الجاهلية إذا أرادوا سفرا عمدوا إلى الطير فسرحوها . فإن أخذت يمينا خرجوا فى ذلك الفأل وإن أخذت يسارا أو رجعت إلى خلفها تطيروا ورجعوا . فلما أن بعث النبى "صلى الله عليه وسلم" قدم مكة فنادى فى الناس .... “ أمكنوا الطير فى أوكارها وبكروا على إسم الله “………………
قال ابن حنبل ..............
ــ أسمعت بمثل هذا من أحد قبل ذلك يا ابن راهويه ؟.
سكت واجما ولم يعقب بينما رد ثالثهم يحى بن معين قائلا ...........
ــ والله لقد شوقتنا إلى سماعه هيا بنا إليه ..
إقترب الثلاثة من مجلس الشافعى ,جلسوا بالقرب منه ينصتون إليه بينما يقـول ..............……..
ــ وقول المؤذن حى على الصلاة حى على الفلاح دعاء منه إلى الصلاه . ثم دعاء منه يعلم فيه أن دعاءه إلى الصلاة دعاء إلى الفلاح . وينبغى لمن دعا إلى الفلاح بالصلاة وعلم أنه لا يأتى الفلاح بطاعة الله فى الصلاة أو غيرها إلا بعون من الله أن يقول ...... لا حول ولا قوة إلا بالله . لأنه لا حول له يصل إلى طاعة الله إلا بالله عز وجل ..
سأله أحمد بن حنبل .............
ــ هلا أوضحت لنا هذا الأمر يا إمام ولو بضرب مثال ؟.
ــ لبيان هذا الأمر وحقيقته لن أجد خيرا مما قاله ابن عمنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه لرجل سأله عن القدر ..
ــ بالله عليك ماذا قال ؟.
ــ حدثنى يحى بن سليم عن جعفر عن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر . أن على بن أبى طالب خطب الناس يوما فقال : “ وأعجب ما فى الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضداد من خلافها . فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص . وإن ملكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعد بالرضا نسى التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن . وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع وإن أفاد مالا أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أجهده الجوع قصد به الضعف . فكل نقص به مضر وكل إفراط به مفسد “ …….. فلما انتهى على بن أبى طالب من خطبته قام رجل ممن شهد معه موقعة الجمل وقال له ............... أخبرنا يا أمير المؤمنين عن القدر . قال له : بحرعميق فلا تلجه . أعاد السؤال فقال ............ بيت مظلم فلا تدخله . أعاد الثالثة فقال له .......... سر الله فلا تبحث عنه . وفى الرابعة قال له ............. أما إذ أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض . قال له الرجل : يا أمير المؤمنين إن فلانا هذا يقول بالإستطاعة للعبد فى فعله . فلما أقاموه بين يديه سل من سيفه قدر أربع أصابع وسأل الرجل ..... الإستطاعة يا هذا تملكها مع الله أو من دون الله ؟.
قاطعه ابن حنبل متسائلا ...............
ــ لقد أوقعه فى مأزق لا مخرج له منه . كيف أجابه إذن ؟.
ابتسم الشافعى قائلا .............
ــ لقنه الإمام الإجابه ..
ــ كيف ؟.
ــ قبل أن يفتح الرجل فمه ليجيبه بادره على بن أبى طالب ...... إياك أن تجيب بأحدهما فترتد فأضرب عنقك . إحتار الرجل وقال ..... ما أقول إذن يا أمير المؤمنين ؟. قال له ...... قل أملكها بالله الذى إن شاء ملكنيها ..
وبعد برهة صمت قال الشافعى .............
ــ أيها القوم .......
قدر الله واقع يقضى وروده
قد مضى فيك حكمه وانقضى ما يريده ..
فأرد ما يكون إن لـم يكن ما تـريده ..
فى تلك اللحظه مال إسحق بن راهويه الخرسانى على أحمد بن حنبل هامسا فى أذنه .............
ــ هل لى أن أسأله عن مسأله ؟.
ــ سل ما بدا لك ..
تنحنح وهو يشرع برأسه فى تحد وغرور ناحية الشافعى ثم سأله بصوت مرتفع يصل إلى أسماع الحاضرين ................
ــ يا مطلبى ,ما تقول فى كراء بيوت مكة للغير ؟.
ــ أقول بجواز ذلك ..
ــ كيف تقول بجواز ذلك وقد ورد عن السيدة عائشة وجمع من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما يفيد كراهة ذلك الأمر ؟.
ــ زدنى بيانا ..
ــ حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك ..
ــ يرحمك الله أما علمت أن النبى "صلى الله عليه وسلم" قال [ هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ؟. ] ..
بدا على السائل أنه لم يدرك ما يعنيه الشافعى ,فأخذ يرطن بالفارسية ويتمتم بشفتيه قائلا ............ “ مردك لا كمالا نيست “ يقصد بهذه العبارة أن الشافعى شأنه شأن أهل قرية عندهم بمرو يدعون العلم وهم ليسوا كذلك .
نظر إليه الشافعى فعلم أنه يقدح فيه وينسبه إلى الجهل فقال له .......
ــ من أنت أيها الرجل ؟.
ــ أنا إسحق بن إبراهيم بن راهويه الخراسانى ..
ــ آه أنت الذى يزعم أهل خراسان أنك فقيههم الأكبر أو كما يقولون عنك شاهنشاه الحديث ؟.
رد فى استخفاف هازئا ..................
ــ هكذا يزعمون . أم لك رأى آخر ؟.
ــ ما أحوجنى أن يكون غيرك فى موضعك هذا فكنت آمر بعرك أذنيه وتأديبه . أنا أقول لك قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأنت تقول قال طاوس ومنصور وإبراهيم . هل لأحد مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حجة يا رجل ؟.
نظر ابن حنبل إلى صاحبه معاتبا , ثم اتجه ناحية الشافعى قائلا فى حيـاء وأدب ......
ــ ليتك تزيدنا فهما فى هذه المسألة أيها الشيخ ؟.
ــ أخبرنا يا فقيه خراسان الأكبر . لما قال الله تعالى فى سورة الحشر [ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ] . هل نسب الدار إلى المالكين أو لغيرهم ؟.
ــ بل نسبها إلى المالكين ..
ــ وقول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ] . نسب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الدار إلى مالك أو غير مالك ؟.
ــ بل إلى مالك ..
ــ وتعلم أن عمر بن الخطاب اشترى دار الحجامين فأسكنها . وتعلم أن نفرا من الصحابة اشتروا دور مكه وأن آخرين باعوها ؟.
ــ أجل أعلم ذلك كله ..
ــ فما هى حجتك إذن بعد ما سمعت قول الله تعالى وقول رسوله "صلى الله عليه وسلم" وما كان عليه أصحابه ؟.
أطرق الخرسانى قليلا ثم رفع رأسه وهو يتصبب عرقا قائلا..........
ــ قال الله تعالـى [ سواء العاكف فيه والباد ] ..
إبتسم الشافعى وهز رأسه قائلا فى ثقه ..............
ــ هلا قرأت أول الآيه [ والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ] والعكوف لا يكون إلا فى المسجد . ألا ترى فى قوله تعالى عن هذا البيت [ للطائفين والعاكفين ] وقوله تعالى [ وأنتم عاكفون فى المساجد ] . فدل ذلك كله أن قوله تعالى [ سواء العاكف فيه والباد ] والذى تتخذه حجة لك مقصود به المساجد خاصة . أما من ملك شيئا فله أن يبيع وأن يكرى . لو كان الأمر كما تزعم يا فقيه خراسان لكان لا يجوز أن تنشد فيه ضاله ولا تنحر فيه البدن ولا تنثر فيه الأرواث . ولكن هذا فى المسجد خاصه . أفهمت أم لديك حجة أخرى ؟.
أطرق الخرسانى حياء بينما ابن حنبل يخاطبه خطابا صامتا بعينيه وكأنه يقول له ..... ألم أقل لك ؟. ثم قام يسلم على الشافعى وهو يقول له كالمعتذر ............
ــ الآن فحسب أدركت ما تعنيه يا إمام وفهمت قول النبى "صلى الله عليه وسلم" [ هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ] . لا تؤاخذنى أيها الفقيه المكى ..
وقبل أن ينصرف الثلاثة الأصحاب من ساحة البيت مال الشافعى على أحمد بن حنبل وسأله ............
ــ متى ترجع إلى العراق إن شاء الله ..
ــ سوف أشد الرحال إن شاء الله تعالى فى مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم ..
ــ لا تنسى أن تأتنينى فى دارى قبل رحيلك . لدى أمانة مهمة أريد أن أبعث بها إلى الشيخ المحدث عبد الرحمن بن مهدى ..

@ على هذا المنوال ظلت الأيام تمضى تترى بالشيخ فى مكه . يظل طوال النهار فى رحاب ساحة الحرم المكى بين تلاميذه وطلاب علومه . أما ليله يمضيه كله قابعا فى داره جاعلا ثلثه الأول لغذاء عقله فى القراءة والتدوين . والثلث الثانى لغذاء روحه فى عبادة وتهجد ومناجاة لربه والثلث الأخير لراحة بدنه الذى لم يكن يعرف فى الحقيقة للراحة طعما . إلا تلك السويعات القليلة التى يلقى فيها على الفراش جسدا مكدودا ألح عليه التعب وبلغ الجهد شأوه معه , بعد أن ينتهى من صلاة الفجر ويروح فى نوم عميق ..
وفى بيته لم يكن يحرم أولاده من علومه كلما دعت إلى ذلك حاجة أو كانت هناك مناسبة أو ضروره . من ذلك أنه وصل إلى سمعه ذات مساء وهو عاكف على أوراقه أصواتا متداخلة من داخل الدار تنبئ أن شجارا وقع بين ولده محمد الذى بلغ عامه الثانى عشر وابنته زينب التى أكملت عشر سنوات من عمرها . ترك ما فى يده ونادى عليهما وبعد أن أوقفهما أمامه . سألهما عن الأمر الذى دعاهما للشجار ,بدأ محمد الكلام قائلا .............
ــ الحكاية يا أبى أنى كنت أخفيت النبال التى أدرب نفسى على الرماية بها فى مكان لا يعلم به أحد مخافة الضياع . ولما ذهبت اليوم أبحث عنها لم أجدها فى مكانها . سألت زينب فادعت أنها لا تعرف عنها شيئا . أعدت عليها السؤال مرة أخرى فحلفت لى مؤكدة كلامها ..
عاد الشافعى يسأله ............
ــ ما السبب الذى من أجله إذن علت أصواتكما إلى حد أن وصلت إلى مسامعى ؟.
أجابت زينب ..........
ــ لا شئ يا أبت غير أنى لما حلفت له قلت ....... وحياة أبى وأمى لا أعلم شيئا عن تلك النبال التى تبحث عنها . أخذ يعنفنى ويغلظ على القول ..
لاحت ابتسامة على وجه الأب وهو يسأل ولده بعد أن أدرك سبب ثورته على شقيقته ..........
ــ لم عنفتها يا محمد وأغلظت عليها القول ؟.
ــ لأنى سمعتك ذات مرة تقول أن كل يمين بغير الله فهى مكروهة بل ومنهى عنها ..
ــ آه .. نعم , صدقت يا أبا عثمان . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم . فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت ] . أختك أخطأت لما حلفت بغير الله , لكنك أخطأت أنت الآخر ..
ــ أنا يا أبت أنا , أخطأت ؟.
ــ أجل أخطأت , وأخطأت مرتين لا مرة واحده ..
ــ مرتين ؟. أنا أخطأت مرتين ؟.
ــ أخطأت لما لم تصدقها أول مرة وألححت عليها حتى ألجأتها لأن تحلف ومن المروءة ألا يحلف المرء أبدا . ثم أخطأت ثانيا لما أغلظت عليها القول وأنت تحاول أن تنبهها لما وقعت فيه من إثم . والله تعالى أمرنا فى كتابه الكريم أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنه . أتذكر الآية الدالة على ذلك ؟.
ــ أجل يا أبت قوله تعالى فى سورة النحل [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعـلم بالمهتديـن ] ..
ــ صدق الله العظيم . بارك الله فيك يا ولدى على غيرتك للحق ونصحك لشقيقتك ولا تعد لما نهيتك عنه مرة أخرى ..
أطرق الإبن حياء وأدبا دون أن يعقب بينما قالت زينب ...........
ــ وأنا يا أبت لن أحلف بعد اليوم أبدا ………………

@ فى خلال تلك السنوات التى أمضاها فى ساحة الكعبة بين الحجر والمقام كثر تلاميذه وأتباعه من شتى بقاع الأرض حيث يأتى المسلمون لزيارة البيت العتيق . من بين هؤلاء التلاميذ كان هناك ثلاثة لا يتخلفون عن مجلسه . أحدهم يدعى أبو بكر الحميدى والآخر أبو إسحق إبراهيم وهو من أبناء عمومته يلتقى معه فى جده شافع والثالث أبو الوليد موسى بن أبى الجارود ..
كان هؤلاء الثلاثة يقدمون الحلقة معا ويتخذون مكانهم أمام الشافعى فى مقدمة جموع الحاضرين وفى آخر اليوم يلتقون ليتدارسوا فيما بينهم ما استمعوا إليه من أستاذهم . يقول أحدهم للآخر ............
ــ أرأيت ياحميدى كيف بين لنا الشيخ فى هذا اليوم بعض ما فى الكتاب من أحكام وكذلك مقام السنة منه ؟.
ــ أجل لقد علمنا يا ابن أبى الجارود أن الأحكام فى القرآن على أنواع . منها المفصل الذى لا يحتاج إلى مزيد بيان والمجمل الذى بينته السنه ؟.
قال زميلهم الثالث أبو إسحق إبراهيم الشافعى ...............
ــ لقد أعطانا قاعدة هامة تتعلق بالنص المجمل والمفصل فى القرآن والتى بها نعرف كيف نستنبط الأحكام من القرآن والسنه . وضرب لنا بعض الأمثال لكل نوع منها ..
ــ أجل مثال ذلك بيان الشهر الذى فرض الحق تعالى على المسلمين صومه . وكذلك عدد الأيام ورد فى القرآن نصا فى قوله تعالى : [ شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ... ] ..
ــ ثم قال الشيخ ........ وما علمت أحدا من أهل العلم بالحديث قبلنا تكلف أن يروى عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أن الشهر المفروض صومه شهر رمضان الذى بين شعبان وشوال لمعرفتهم بشهر رمضان من الشهور . إكتفاء منهم بأن الله فرضه ولا هل هو واجب أم لا ..
ــ أما ما ورد مجملا فى القرآن وفصلت أحكامه السنه فقد بينه الشيخ لنا وبين أنواعه وضرب لها أمثلة أوضحت لنا جلية الأمر ..
ــ مثل الصلاه فى قوله تعالى : [ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ] . بين رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عدد الصلوات وأحكامها وكيف تكون فى السفر والحضر ..
ــ والزكاه فى قوله تعالى : [ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ] . فصل لنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاديرها الواجبة فى كل نوع من أنواع الأموال وعلى من تجب وكيفيتها إلى غير ذلك ..
ــ وكذلك بينت السنة مناسك الحج ومواقيته وأنواعه وأحكامه . ما أعظمه من إمام وفقيه جازاه الله عنا خير الجزاء ………………

@ وذات يوم دخلت عليه امرأته حميده تذكره بميعاد الدواء حيث بدأ شكواه تكثر فى الأيام الأخيرة من علة البواسير وما تسببه من نزف وآلام تعوقه أحيانا عن الدرس والكتابه . كان لا يرى غالبا إلا متكأ على إحدى جانبيه يحاول جاهدا أن يدون فى أوراقه ما يتوصل إلى معرفته من علم . وكان يحتال بالدواء الذى أعده بنفسه يشربه على مضض منه ليخفف تلك الآلام القاسيه
, حتى يتمكن من مواصلة العمل الذى وهب نفسه له . كان شرابا يحتوى على خلاصة مجموعة من الأعشاب القابضة والملينة والهاضمه ..

نظرت إليه وهى لا زالت واقفة لدى الباب . رأته متكأ على جانبه الأيمن ورأسه ناحية الباب وهو مكب على أوراق كثيرة والمحبرة من أمامه والريشة فى يمناه . يدون بها فى همة ودأب ما يرد على خاطره من مسائل وأحكام ..
آثرت ألا تقطع عليه حبل أفكاره فتوقفت مكانها وفى يدها قارورة الدواء دون أن تنبس ببنت شفه . إنتظرت أن يرفع رأسه أو تتوقف يمناه عن الكتابه , لكن وقتا طويلا مضى وهو على حاله . لم يراها أو يشعر بوجودها ولا بأنفاسها اللاهثة وهى تتابع على مقربة منه فى تلك الغرفة الرطبة الضيقة التى اتخذها للقراءة والتدوين ..
لم تجد مناصا بعد أن طال انتظارها وكلت قدماها من الوقوف أن تتسلل فى هدوء خارج الغرفه . تاركة زوجها سابحا فى أفكاره وخواطره بعد أن وضعت قارورة الدواء على مقربة منه دون أن تشعره بوجودها ..
لم يمض غير قليل حتى رفع الشافعى رأسه ليغمس الريشة فى المحبره فوقعت عيناه على قارورة الدواء . ما إن رآها حتى هز رأسه سرورا وهو يبتسم ابتسامة الرضا والعرفان من مسلك امرأته العثمانيه . أدرك أنها دخلت عليه وخرجت دون أن تسمح لنفسها أن تقطع عليه حبل أفكاره . نادى عليها بعد أن وضع ريشته جانبا ...........
ــ يا عثمانيه . يا عثمانيه . تعالى إلى هنا ..
جاءه صوتها من داخل الدار ملبية قبل أن تدخل عليه . ولجت من الباب وهى تضع يدها على رأسها . قال لها مازحا ..........
ــ ماذا أقول لك يا عثمانيه ؟. ومن البلية أن تحب … ولا يحبك من تحبه ..
ردت فى الحال تشاركه مزاحه ودعابته وإن كانت تبدو مرهقة متعبه ...........
ــ ويصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه ..
ضحك الشافعى ثم عاد ينظر إليها متسائلا عما بها وهو يشير بيده إلى رأسها . ردت قائلة ............
ــ لا شئ يا أبا عبد الله لا شئ . أشعر ببعض الألم فى مقدمة رأسى ..
ــ كيف تقولين ذلك يا عثمانيه . أنا ألاحظ منذ أيام أنك تضعين يدك على رأسك كثيرا كما أنى رأيتك غير مرة تتعثرين فى مشيتك ؟. صارحينى بما عندك وحدثينى عن كل ما تشعرين به ..
ــ ليس هناك ما يدعو لكل هذا الخوف والإنزعاج . قلت لك لا شئ إنما هو ألم طفيف فى رأسى يراودنى من حين لآخر ..
أشار إليها أن تقترب منه قائلا لها ..............
ــ إجلسى هنا إلى جوارى يا عثمانيه وأشيرى بإصبعك على موضع الألم ..
أخذ يطيل النظر فى حدقتى عينيها وأخيرا هز رأسه وهو يرسم شبح ابتسامة مصطنعة على شفتيه قائلا لها بغير اكتراث ............
ــ لا . لا شئ . حقا ما تقولين إنها آلام الرأس العاديه . أعتقد أنك لا تنامين جيدا فى الليل ..
إبتسمت قائلة ..............
ــ صدقت يا أبا عبد الله . ألم أقل لك فى بداية الأمر إنه ألم طفيف . أزعجت نفسك وكدت أن تزعجنى أنا الأخرى دون داع ؟.
ــ لقد أخذتنى الظنون بعيدا فى بداية الأمر لكن الحمد لله ..
قال ذلك وهو يحدث نفسه فى أسى ومراره ........... لك الله يا أطيب النساء . لم أكن أظن أن الأمر خطير هكذا . لا حول ولا قوة إلا بالله لقد أصابها المرض اللعين . اللهم أفرغ علينا صبرا والطف بها وبنا فيما قضيت وقدرت يا أرحم الراحمين ..
لم يخرجه من هواجسه إلا صوتها الدافئ الحانى وهى تقول له ..............
ــ وأنت يا أبا عبد الله أما آن لك أن ترفق بنفسك وتعطى لبدنك حقه . لك أيام وأنت على هذا الحال مكبا على تلك الأوراق . إنك لا تكاد تعرف للنوم طعما ولا للراحة سبيلا ..
ــ آه تقصدين هذه الأوراق التى أدونها . لا ياعثمانيه لن أدعها من يدى حتى أنتهى منها تماما . لقد عقدت العزم على ذلك ..
نظرت إليه مستفسرة فقال لها موضحا ..........
ــ تعالى هنا إلى جوارى . سأشرح لك المسأله . لما ذهبت إلى العراق وجبت بلدانها شرقا وغربا وتحاورت مع شيوخها فى الكوفه والبصره والموصل وفى بغداد عروس المدائن . لاحظت أن القوم يعتمدون على مجرد الإجتهاد فى استنباط الأحكام . وتوسعوا فى مسائل القياس والإستحسان مرتكزين على فهمهم المجرد لمعانى الشريعه وأحكامها وغاياتها وما تومئ إليه نصوصها ..
ــ هيه وماذا بعد يا أبا عبد الله ؟.
ــ رأيت بعد تفكير وبحث طويل أن أضع قانونا كليا وثابتا يرجع إليه فى معرفة دلائل الشريعه وحدودا مدونة مرسومة للإستنباط والقياس . وأن أضبط الموازين حتى لا تكون المسألة راجعة للرأى المجرد الذى يجعل صاحبه متعصبا له لا يكاد يرى غيره . إن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلى قلما أفلح ..
ــ وما الذى جعلك إذن ترجئ البدأ فيه كل هذا الوقت . ها أنت قد مضى عليك أكثر من ثلاثة أعوام منذ عودتك من العراق سالما بعد المحنه ؟.
ــ الحقيقة يا عثمانيه أنى ما نسيت هذا الأمر يوما . لقد شرعت فعلا لدى عودتى فى كتابة صفحاته الأولى . لكن كما ترين لا أكاد أجد وقتا أخلو فيه لنفسى . لهذا قررت أن أرجئ هذا الأمر إلى أن يأذن الله تعالى ..
ــ وما الذى جد فى الأمر إذن ؟.
ــ صديق تعرفت عليه فى العراق إسمه عبد الرحمن بن مهدى بن حسان . جمعنا معا فكر ونهج واحد فهو شيخ المحدثين فى العراق يحفظ عشرين ألف حديث بإسنادها . كذلك له مواقف مع القائلين بالرأى من أتباع أبى حنيفه ..
ــ هيه وماذا بعد ؟.
ــ أرسل إلى منذ أيام رسالة يطلب إلى فيها أن أضع كتابا فيه معانى القرآن وأجمع فيه فنون الأخبار وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنه . قال لى فى رسالته ضمن ما قال .......... إن أهل العلم فى هذا الزمان وفيما سبق كانت عنايتهم إلى جمع المسائل والفروع وبيان حكم كل منها من أدلة الشرع المعروفه . وهى فروع لا تكاد تتناهى بل إنها متجددة على مر الأيام ..
سكت الشافعى برهة تناول خلالها رشفة من قارورة الدواء بينما امرأته تنظر إليه فى فضول لمعرفة المزيد . قال لها بعد أن طوى رسالة صديقه العراقى وأعادها مكانها ......
ــ رسالة هذا الصديق جددت الآمال عندى مرة أخرى فعزمت على أن أكتب هذا الكتاب . لأبين فيه الأصول والقواعد العامه مع بيان مآخذها وما يتفرع عنها ويستنبط منها من أحكام المسائل والفروع التى تجد كل يوم حسب الزمان والمكان . ومتى عرفت هذه الأصول والقواعد الكلية العامه كان الإستنباط منها سهلا على صاحب العلم ..
ــ ما اسم هذا الكتاب ؟.
ــ سأسميه إن شاء الله “ الرساله “ ..
ــ ولماذا هذا الإسم ؟.
ــ لأنه فعلا رسالة منى أرد فيها على رسالة صديقنا عبد الرحمن بن مهدى كما أخبرتك ..
ــ وهل سيأتى إليك هنا لاستلامه منك ؟.
ــ لا أظن ذلك يا حميده . لا أظن ..
ــ كيف ترسله إليه إذن ؟.
ــ لقد أشرفت على الإنتهاء منه ولسوف أسلمه بعد أيام إلى أحد العراقيين من طلاب العلم هنا فى مكه ..
ــ من يكون ؟. هل أعرفه ؟.
ــ لا . إنك لم ترينه من قبل . شاب يدعى أحمد بن حنبل . سوف يأتى هنا إلى دارى بعد أيام قليلة قبل أن يبدأ رحلة عودته إلى بلده العراق ..
ــ أعانك الله يا أبا محمد . هل تريد أن أعد لك شيئا قبل أن أنام ؟.
ــ بارك الله فيك يا عثمانيه إذهبى أنت إلى فراشك فإنى أرى آثار النوم فى عينيك . ستقوم الجارية على خدمتى ..
ــ من . دنانير ؟. يا أبا عبد الله ألم أقل لك مرات من قبل أن هذه الجارية فى جهد منك ؟.
إبتسم دون أن يعقب بعد فهم ما ترمى إليه . ذلك أنه اعتاد وهو يدون مسائله فى الليل أن يوقد المصباح حتى إذا انتهى من كتابتها أمر الجارية أن تطفئه . ثم لا يلبث أن يستلقى على ظهره فى الظلام ويروح فى تفكير عميق وفجأة ينادى على الجارية وهى نائمة لتسرجه له مرة ثانيه . يظل على هذا الحال طوال الليل . لاحظت امرأته ذلك فقالت له معاتبة ............
ــ الجارية لا تنام الليل يا أبا محمد وتظل طوال النهار تتثائب وتتكاسل . سألتها عن ذلك أخبرتنى أنها تقوم فى الليل أكثر من عشر مرات , عاودت سؤالها عن السبب قالت لى : ………………
ــ لأسرج المصباح للشيخ وأطفئه . إنه ما إن يكتب المسألة ويفرغ منها حتى ينادى على .......... يا جاريه أطفئي المصباح . فأقوم من نومى لأطفئه ولا تكاد عينى تغفل قليلا حتى يأتينى صوته مرة أخرى ........ يا جاريه أسرجى المصباح . ثم يعكف بعدها على الكتابه وهكذا أظل طوال الليل لا شغل لى إلا أمر المصباح أسرجه وأطفئه ………………
أردفت حميده ........
ــ فهلا رفقت بها ؟.
ــ صدقت والله فإنها حقا فى جهد منى . لكن الظلمة يا عثمانيه أنفع للفكر وأجلى للقلب . والسراج يشغل قلبى ويشتت فكرى وأنا أحتاج لأن أتأمل فى هدأة الليل كى أستطيع أن أجمع شتات فكرى فى المسألة التى أبحثها . فإذا انجلت لى المسألة واهتديت إلى الصواب فيها أسرعت بتدوينها على ضوء المصباح . على كل حال , من الليلة سأتولى أمر المصباح بنفسى ..

@ إقترب موسم الحج للسنة الرابعة والتسعين بعد المائة الأولى للهجره , فى تلك الأيام من كل عام تأتى الوفود إلى مكة من كل بلاد الدنيا قاصدين زيارة البيت العتيق للحج والعمره ..
وذات يوم بينما الشافعى جالس وحده فى هدأة الليل عاكفا على كتبه فى ضوء سراج خافت , وكل من فى الدار يغطون فى نوم عميق إلا الجارية دنانير التى وهبت نفسها للعكوف على خدمته وتلبية حاجاته . إذا بطرقات شديدة على الباب تشق سكون الليل . ترك ما فى يده ونادى على الجارية . قامت فزعة إلى الباب وهى تقاوم النعاس . بعد قليل عادت لتخبره أن رجلا غريبا لدى الباب , سألها عن هويته فأجابت ......
ــ الحق يا سيدى لا أعرفه , لكنه يصطحب معه غلاما فى حوالى العاشرة من عمره . تلك أول مرة تقع عينى عليه , لكن يظهر من هيئته وملامحه أنه غريب عن البلاد ..
قام متثاقلا يتحامل على نفسه فى صعوبة مستندا على راحتيه مما يجده من ألم أسفل ظهره . مضى إلى الباب ليجد أمامه رجلا ينظر إليه مبتسما . أخذ يتفرس فى ملامح وجهه لحظات غير مصدق ما تراه عيناه . إنه صاحبه الذى لم يره منذ أعوام طويله . كانت آخر مرة لقيه منذ سبع سنوات عقيب نجاته من محنته ورجوعه من العراق . كان لقاء عابرا لم يتمكن خلاله أن يشبع رواءه منه أو أن يضيفه غير ساعات قليلة , ما لبث حتى فارقه بعدها عائدا إلى مصر وهو فى عجلة من أمره . وها هى المرة الثانية التى يلقاه فيها بعد طول غياب . هتف وهو يعانقه فى حرارة وموده ......
ــ أحلم ما تراه عينى أم حقيقه . لا أكاد أصدق . من . صديقى وحبيبى المصرى عبد الله بن عبد الحكم بشحمه ولحمه هنا فى مكه ؟. أهلا بك وسهلا فى دارك ..
وفى داخل الدار أمر جاريته أن توقظ سيدتها ليعدان طعاما للضيف , غير أنه قفل راجعا خلفها مسرعا وهو يقول لها هامسا ............
ــ إنتظرى يا دنانير , دعيها لى , سأوقظها بنفسى واذهبى أنت لإعداد الطعام ..
على باب الغرفة وجد امرأته تواجهه متثائبة تسأل فى دهشة وهى تحاول أن تمسح آثار النوم عن عينيها ..............
ــ ما الأمر يا أبا محمد ؟. ما سبب كل هذه الضجه . هل جاءنا أحد ؟.
رد هامسا والفرحة تطل من عينيه ...........
ــ إنه ضيف . أجل يا عثمانيه جاءنا الليلة ضيف عزيز ..
ــ فى هذا الوقت المتأخر من الليل . من يكون ؟.
ــ إنه قريبك المصرى , إبن عمتك الذى أهدانى أعظم وأتقى زوجه ..
ردت متهللة وقد انفرجت أساريرها .............
ــ من ؟. عبد الله بن عبد الحكم جاء من مصر , أهلا به وسهلا . حسبته واحدا آخر لا نعرفه ..
ــ أسرعى إذن يا حميده بإعداد الطعام للضيف ومن معه , إنه قادم من سفر طويل ..
ــ هل جاء معه أحد ؟.
ــ معه غلام صغير لم أسأله عنه بعد . لكن يبدو أنه أحد أولاده فهو يحمل كثيرا من ملامحه ..
رجع إلى ضيفه معتذرا له أن تركه وحده ثم جلسا يتحدثان وكل منهما لديه الكثير مما يقوله لصاحبه . سأله الشافعى وهو يشير للغلام ...........
ــ ولدك هذا أليس كذلك ؟.
ــ بلى ولدى عبد الرحمن أصغر أبنائى . ما إن علم بقدومى إلى هنا حتى تعلق بأذيال ردائى وأصر أن يأت معى رغم مشقة الرحلة وطولها على صبى مثله من مصر إلى هنا ..
نظر إليه الشافعى مستفهما فأردف ضاحكا ..............
ــ إنه يا صديقـى أصغـر أخواته "عبد الحكم وسعد ومحمد" . كلهم يتعلمون علوم الفقه والحديث ويثابرون عليها , لكنه انتهج وحده نهجا مغايرا لهم ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ له غرام بالتاريخ يا سيدى وولع بمعرفة أحوال البلدان وبالذات تاريخ مصر . يعكف يومه على سماع الحكايات والأساطير من القصاص فى سائر مساجد الفسطاط , مثل عثمان بن صالح وعبد الله بن أبى سرح . كما أنه مولع بقراءة ما يقع فى يده من كتب الرواة والمحدثين مثل يزيد بن أبى حبيب وعبد الله بن لهيعه ويحى بن بكير . ما إن تصادف عيناه شيئا من تلك البنايات القديمة أو البرابى التى بناها المصريون فى الزمان القديم حتى تتسمر قدماه مكانهما ولا يكف لسانه عن السؤال عنها وعمن شيدها وكم مضى عليها من الزمان . وعن تلك الكتابات الكلدانية والقبطية المنحوتة عليها إلى آخر تلك الأسئلة التى لا تنتهى ..
إبتسم الشافعى قائلا وهو يربت على كتفى الغلام ...............
ــ بارك الله فيك يا ابن عبد الحكم , لله درك يا ولدى . إعلم أنه ليس بعد آداء الفرائض شئ أفضل من طلب العلم . من أراد الدنيا فعليه بالعلم , ومن أراد الآخرة فعليه أيضا بالعلم ..
قال ذلك ثم التفت إلى ضيفه قائلا .........
ــ لم تخبرنى بعد متى وصلتما إلى مكه ؟.
ــ دخلنا مكة مع آخر ضوء فى النهار . توجهنا أولا إلى البيت العتيق نطوف طواف القدوم , وقمنا بتأدية مناسك العمرة ثم صلينا ركعات فى الحجر والمقام بعد أن تحللنا من ملابس الإحرام . مكثت فى ساحة الحرم بعضا من الوقت مع ولدى عبد الرحمن للدعاء ولأملأ عيناى من روعة وجلال المكان وترتوى روحى من بهائه وحسن منظره . بعد ذلك أخذت أسأل عنك وعن مكان دارك , فقام معى أحد الفتيان ولم يفارقنا إلا بعد أن فتحت جاريتك الباب ..
ــ أهلا بك وسهلا من بلد الله الأمين فى بلد الله الأمين . إيه , كيف تركت مصر يا أبا محمد ؟.
ــ تسأل عن مصر العلماء , أليس كذلك ؟.
ــ بلى . ليتك تحدثنى عن جانب من أحوال أهل العلم فيها ؟.
ــ تركت أهلها على ضربين فى العلم ..
ــ هما جماعتان إذن ؟.
ــ أجل , جماعة منهم وهى الأقوى والأكثر عددا مالت إلى قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس وأخذت به واعتمدت عليه وناضلت عنه ..
ــ ومن يقوم على أمرها ؟.
ــ أنا وأشهب بن عبد العزيز بعد وفاة عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب ..
ــ والأخرى ؟.
ــ الجماعة الأخرى مالت إلى قول أبى حنيفه فأخذت به وناضلت عنه . والجميع أخذوا عن إمام مصر الليث بن سعد وتفقهوا جميعا على يديه ..
ــ إعلم يا صاحبى أنالعلم يدور على ثلاثة , مالك والليث وسفيان بن عيينه . وإمام مصر الليث بن سعد يرحمه الله كان أفقه من مالك , إلا أنكم أيها المصريون لم تقوموا به ..
ــ كيف تعرفت على آرائه وعلومه وأنت لم تلتق به من قبل ؟.
ــ أخذت جانبا من علومه وتعرفت على آرائه وفقهه أثناء إقامتى باليمن على يد صاحبه يحي بن حسان . كما أخذت فقه الأوزاعى إمام الشام على يد صاحبه عمرو بن سلمه ..
ــ أجل أجل , أئمة عظام حملوا علوما جمه ..
صمت برهة ثم نظر إلى صاحبه قائلا وقد علت شفتيه ابتسامة ...............
ــ سأقص عليك واقعة طريفة حدثت منذ أكثر من عشرين عاما بين إمامنا الليث بن سعد وأمير المؤمنين هارون الرشيد . تدلك على مدى علمه ونباهته وظلت لطرافتها حديث الناس لسنوات يتناقلونها فى مجالسهم ..
أعطاه الشافعى سمعه فاستمر يقول .....................
ــ حدث أن جرى حوار بين الرشيد وامرأته زبيده , وجرى كلاما حول قضية تتعلق بالقدر والحساب يوم القيامه . وصل النقاش بهما إلى أن احتد عليها قائلا لها فى نهاية كلامه .............
ــ أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنه ..
ــ هيه وماذا بعد ؟.
ــ ندم على هذا اليمين , وأصابهما الغم والحزن كأنما نزلت بهما مصيبة كبرى لموقع ابنة عمه منه . جمع الفقهاء وسألهم عن هذا اليمين فلم يجد مخرجا . كتب إلى عماله فى البلدان أن يبعثوا إليه بفقهائهم فأشخصوا إليه وجاءه منهم كثير وجلسوا بين يديه . ظل يسألهم واحدا بعد الآخر عن أى مخرج له من هذا اليمين وكل واحد منهم يجيبه بجواب . بينما إمامنا الليث بن سعد جالس فى آخر المجلس لا يتكلم حتى إذا انتهى إليه أمير المؤمنين قال له : ………………
ــ لم يبق إلا أنت أيها المصرى لم نسمع رأيك بعد ؟.
ــ قد سمعت يا أمير المؤمنين ما قال الفقهاء وفيه مقنع وكفايه ..
ــ لكنى أريد أن أسمعك أنت أيضا , وإلا ما أشخصناكم من بلدانكم ولاكتفينا بما قال لنا فقهاؤنا فى العراق ..
ــ إذن ليأمر مولاى بإخلاء المجلس وليدنينى منه , وأن أتكلم على الأمان وطرح التعمل والهيبة ..
ــ لك هذا ..
ــ وأن تطيعنى فى كل ما آمر به إن أردت أن تسمع كلامى ..
ــ لك هذا كله ..
قال ذلك وهو يصفق بيديه تصفيقتين لإخلاء المكان ثم نظر للشيخ مشيرا إليه أن يقول ما عنده فقال ............
ــ هات يا أمير المؤمنين المصحف الجامع وتصفحه حتى تصل إلى سورة الرحمن ثم ابدأ فى قراءتها ..
أمسك بالمصحف وأخذ فى القراءة وامرأته زبيده جالسة وراء حجاب تستمع لهذا الحوار , حتى إذا بلغ قوله تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان", قال له الإمام الليث ............
قف ههنا يا أمير المؤمنين وقل ..........
ــ والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ..
رد الرشيد وجلا وقد اشتد عليه حلف اليمين .........
ــ ما هذا ؟.
ــ يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط أولا , أن تطيعنى فى كـل أمر ..
نكس الرشيد رأسه برهة ثم رفعها وأخذ يحلف اليمين بصوت واجف مرتعش , ثم نظر إلى الإمام الليث الذى قال له بعد أن أتم اليمين ............
ــ قل يا أمير المؤمنين "والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم , إنى أخاف مقام ربى" ..
ــ "والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إنى أخاف مقام ربى" ..
ــ يا أمير المؤمنين , فهى جنتان وليست جنة واحدة كما جاء فـى يمينك ..
ــ أحسنت والله , بارك الله فيك ………………
أخذ عبد الله بن عبد الحكم يقول للشافعى ..........
ــ ما أتم الإمام فتواه حتى سمع التصفيق والفرح من وراء الستار الذى كان تتخذه زبيده ووصيفاتها . وأقطع له الرشيد ضياعا كثيرة كانت له بمصر أخذها وظل يصرف منها على فقراء المسلمين , كذلك أعطته زبيده ضعف ما أعطاه الرشيد ..
ــ يرحمه الله , ألم أقل لك إنه أتبع للأثر من علماء عصره كلهم وأفقههم ..
ــ المهم , لم تخبرنى بعد متى تزور بلادنا ؟.
ــ أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله فى القريب وآتى أهلها بنهج وسط أشغلهم به عن القولين جميعا , قول مالك وأبى حنيفه ..
ــ نحن على أية حال فى شوق إلى قدومك لبلدنا كما سبق ووعدتنى ..
ــ يعلم الله أتى أشد شوقا إليها ..
سكت قليلا وأردف قائلا :
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر .. ومن دونها قطع المهامه والقفر ..
فوالله ما أدرى أللفـوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر ..
ــ الله الله يا ابن إدريس لا تزال فيك روح الشاعر المبدع . المهم أنك لا زلت تذكر وعدك لى عندما تقابلنا فى الحرم منذ سبع سنوات ؟.
ــ كيف لى أن أنسى . أجل ما زلت عند وعدى لك بالمجئ إلى مصر بعد أن أفرغ من هذه المهمه ..
ــ أية مهمة تلك ؟. خيرا إن شاء الله ..
ــ رحلة إلى العراق سوف أقوم بها بعد نهاية موسم الحج قد تستمر عاما أو أكثر وعندما أفرغ من مهمتى هناك إن شاء الله سوف أشد الرحال إلى بلادكم ومعى أسرتى كلها . لقد كتبت على الأقدار أن أحيا بقية عمرى فى أرض الكنانه وعلى ضفاف نيلكم العظيم ..
ــ وستجد مصر كلها إن شاء الله فاتحة لك ذراعيها . إن المصريين يعشقون اثنين أكثر من سواهما , آل بيت النبى "صلى الله عليه وسلم" وحملة العلم . أما سمعت مقالة عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله تعالى عنه عن أقباط مصر ومحبتهم للعرب عامة وقريش منهم خاصه ؟.
ــ ماذا قال ؟.
ــ قال ...."قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسمحهم يدا وأفضلهم عنصرا كما أنهم أقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصه . من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها فى الدنيا , فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها وتنور ثمارها" ..
سكت برهة رشف خلالها رشفة من شراب النعناع الدافئ من كوب فى يده ثم أردف قائلا ............

ــ ألم يأتك نبأ ما فعله أهل مصر مع سيدتنا نفيسه حفيدة زيد بن على حينما وفدت إليهم ؟.
ــ أوقدمت إلى مصر ؟.
ــ أجل وفدت على بلادنا العام قبل الماضى ..
ــ وماذا فعلتم لها أيها المصريون ؟.
ــ لن أنس أبدا ذلك اليوم المجيد . خرج الناس من شدة فرحتهم خارج حدود البلاد فى العريش ليكونوا فى شرف استقبالها والترحيب بها ضيفا عزيزا كريما بيننا ..
ــ عجيب والله أمركم يا أهل مصر ..
ــ والأعجب من هذا ما حدث منا نحن المصريون عندما عزمت على مغادرة البلاد راجعة إلى المدينه . لما تكاثر الناس على بابها وتزاحموا لديها التماسا لبركتها . كانت الدار التى نزلت فيها دارا ضيقة فأعاقها ذلك عن التفرغ للعبادة ومناجاة ربها ..
ــ وهل رجعت بالفعل إلى المدينه ؟.
ــ كيف ندعها تغادر مصر بعد ما لمسناه من بركتها وفضـلها وتقـواها ؟.
ــ ما الذى فعلتموه إذن ؟.
ــ شق علينا أن تفارق بلادنا فذهبنا إليها ورجوناها والتمسنا منها العدول عن قرارها فأبت . فزعنا إلى والى مصر فى ذلك الحين السرى بن الحكم طالبين منه أن يتوسط لديها . أرسل لها كتابا يرجوها فيه أن ترضى غير أنها أبت أيضا وأصرت على الرحيل , جاء إليها بنفسه يتوسل إليها ويلح عليها فى الرجاء فقالت له : ………
ــ يا والى مصر , إنى كنت عازمة على البقاء فى بلدكم . غير أنى امرأة ضعيفة وقد تكاثر الناس حولى وأكثروا من زيارتى فشغلونى عن أورادى وجمع زادى لمعادى . ومنزلى هذا يضيق بهذه الجموع الكثيفة من الناس , وأيضا زاد بى الحنين إلى روضة جدى المصطفى "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ يا بنت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كل ما تشتكين منه أنا كفيل بإزالته , وعلى أن أمهد لك السبيل وأعد لك ما فيه رضاك وراحتك . أما عن ضيق المنزل فإن لى دارا رحبة واسعة فى درب السباع . أشهد الله تعالى أنى قد وهبتها لك . أرجو أن تقبليها منى ولا تخجلينى بردها على ..
ــ أما عن الدار فإنى قبلتها منك . لكن ماذا أصنع بالجموع الغفيرة من الناس الذين يفدون على فى كل وقت ؟.
ــ سنجعل لك يومين فى الأسبوع تلتقين فيهما بالناس وليكونا يومى السبت والأربعاء والأيام الباقية تتفرغين فيهما لربك ………………
سأله الشافعى ...........
ــ وهل قبلت ؟.
ــ لم يسعها غير القبول ووافقت أخيرا على البقاء بيننا فى دارها الجديده وطاب لها المقام بيننا تنثر علومها على طالبيها حتى أننا لقبناها “ نفيسة المصريه “ ..
أخذهما الحديث ساعات قبل أن يفترقا للنوم وعلم من صاحبه أنه يشغل منصب صاحب المسائل . أخذ يشرح له طبيعة هذه الوظيفة لما سأله عنها .......
ــ إنها وظيفة لا تسند إلا للعلماء الأمناء المشهود لهم بالصدق . حيث يتولى القائم بها مهمة التحرى عن الشهود الذين يترددون على مجالس القضاء والتأكد من نزاهتهم وصدقهم ضمانا لسير العدالة ..
إبتسم الشافعى وهو يقول له ...........
ــ أتعلم أنى ابتدعت وظيفة كهذه وأنا قاض فى نجران ..
أخذ يشرح له ما فعله آنذاك وهو قاض فى نجران وجرهما الحديث إلى ذكر ما كان من أمره فى اليمن . إلى أن سيق مكبلا بالأغلال إلى بلاط الرشيد وما جرى له فى تلك المحاكمة وما أعقبها من أحداث ..
صبيحة اليوم التالى نادى الشافعى على أولاده محمد الذى بلغ الخامسة عشر من عمره وزينب التى أتمت عامها الثالث عشر وفاطمه أصغر بناته فى العاشرة من عمرها ..
ــ هيا تعالوا يا أولاد سلموا على خالكم ..
أخذ يقدمهم إليه قائلا وهم يسلمون عليه واحدا بعد الآخر ............
ــ هـذا ولـدى محمد “ أبو عثمان “ أكبر أبنائى حفظ القرآن ووعاه صغيرا وهو الآن مواظب على دروس أئمة الحرم للتفقه فى علوم القرآن والحديث ..
سأله بعد أن أجلسه إلى جواره .........
ــ ماذا تريد أن تعمل يا أبا عثمان بعد أن تكمل رحلة العلم ..
رد فى الحال ..........
ــ أحب أن أكون قاضيا أحكم بين الناس بشرع الله عز وجل ..
ضحك وهو يمسح على كتفيه فى أبوة ثم مد يده ليسلم على ابنتى الشافعى الذى أخذ يقدمهما له واحدة بعد الأخرى...........
ــ هاتان ابنتاى زينب وفاطمه أتمتا حفظ القرآن أيضا وأخذتا نصيبا من علومه وعلوم الحديث والعربية..


تم بحمد الله
الفصل الرابع

يتبع ....
الفصل الخامس والأخير ......
إن شاء الله............................

__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 18h49
رد مع اقتباس