ــ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ..
رد الرشيد ..............
ــ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها , وزدنا فريضة قامت بذاتها , ومن أعجب العجب أنك تكلمت فى مجلسى بغير أمرى ..
ــ يا أمير المؤمنين , إن الله عز وجل وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . وهو سبحانه وتعالى إذا وعد وفى , وهو الذى مكننى فى أرضه وأمننى بعد خوفى يا أمير المؤمنين ..
ــ قد أمنك الله إذ أمنتك أنا !.
ــ وأنا علمت أنك لا تقتل قومك صبرا ولا تزدريهم بغدرتك هجرا ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذرا ..
ــ أجل هو ذلك , فما عذرك يا قاضى نجران مع ما أرى من حالك وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التى فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك الطالبى ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم . فما ينفع لك القول مع إقامة الحجه , ألست أنت الداعى والمحرض إلى الفتنة والعصيان ؟!.
ــ مولاى أمير المؤمنين . بسم الله الرحمن الرحيم .....يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ..
ــ صدق الله العظيم . أوليس الأمر كما قيل فيك ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين , إن رأيت فاسمع كلامى أولا واجعل عقوبتك من وراء لسانى , فلسنا نتكلم إلا على العدل والنصفه . ثم ضمنى بعد ذلك إلى ما يليق لى من الشدة أو الرخاء ..
ــ إذن تكلم قل الحقيقه !.
ــ والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لى الكلام على ما بى لما شكوت لكن لى مطلب واحد قبل أن أسوق دفاعى ؟!.
ــ ما هو ؟!.
ــ إن الكلام مع ثقل الحديد يعور فإن جدت على بفكه تركت كسره إياى وأفصحت عن نفسى وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدى السفلى والله غنى حميد ..
نظر الرشيد لغلامه سراج وقال له آمرا .............
ــ يا سراج حل عنه هذه السلاسل والأغلال من قدميه ويديه ..
إمتثل الغلام ثم بادره الرشيد بعد فك قيده قائلا .............
ــ بلغنى أنك تقول إنك للخلافة أهل ؟!.
ــ حاشا لله أفك المبلغ وفسق إن لى يا أمير المؤمنين حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة وأحق من أخذ بآداب الله تعالى نحن أبناء عمومة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ فما قولك عما بلغنى عن زعمك أنى لا أصلح للخلافه وأنك شققت عصا الطاعة وخرجت مع العلوية علينا ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين لست بطالبى ولا علوى وإنما أدخلت فى هؤلاء القوم بغيا على وافتراء ..
ــ ألست من أولئك الرافضه ؟!.
ــ قالوا ترفضـت قلت كلا .. ما الرفض دينى ولا اعتقادى ..
لكن توليت غيـر شـك .. خيـر إمـام وخيـر هـادى ..
إن كان حب الولى رفضا .. فـإن رفضى إلـى العبـاد ..
ــ فمن تكون ؟!.
ــ أنا رجل من بنى المطلب بن عبد مناف بن قصى ..
ــ ما اسمك يا رجل ؟!.
ــ إسمى محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف . ولى مع ذلك النسب حظ من العلم ..
ثم التفت إلى محمد بن الحسن الشيبانى واستطرد قائلا وهو يشير إليه ..............
ــ والقاضى بن الحسن يعرف ذلك ..
كان الشافعى فى تلك اللحظة وقبل أن تشير يده على القاضى , قد وردت على مخيلته كالبرق العارض حكاية حكاها له الأصمعى عالم اللغة العربية وراويتها الأكبر قبل حوالى عشرين عاما , عندما التقى به فى ساحة الكعبة وهو يقرأ عليه أشعار هذيل ..
كان الأصمعى يحكى له محنة كهذه تعرض لها فى العام الذى لقيه فيه وحوكم فيها أمام الخليفة المهدى والد الرشيد , بتهمة الدعوه لبنى أمية والميل لهم وكان حاضرا هذه المحاكمه إلى جوار المهدى شيخ المحدثين سفيان بن عيينه أستاذه وأستاذ الشافعى ..
حكى له كيف أن الأقدار على غير تقدير منه فى ذلك اليوم ساقت إلى مجلس الخليفة المهدى أستاذهما سفيان بن عيينه ليكون شفيعا له وشاهدا معه فى هذا الموقف العصيب . هذه الواقعة التى اختزنها الشافعى فى أعماق ذاكرته ووردت علي خاطره فى لحظة خاطفة فتحت له بابا من أبواب الأمل والرجاء فى النجاه عندما وقعت عيناه على محمد بن الحسن وهو متربع إلى جوار الرشيد , وإن كانت تهمته أشنع من تهمة الأصمعى وأدعى للفزع ..
إلتفت الرشيد عن يمينه إلى القاضى كأنه يسأله فأجاب قائلا ...........
ــ أجل يا أمير المؤمنين أعرفه وله من العلم محل كبير . لقد تزاملنا سنوات فى حلقة إمام دار الهجره , والأمر الذى رفع عليه ليس من شأنه ولا يجوز أن يكون مثله ضمن هؤلاء أبدا ..
أطرق الرشيد قليلا ثم نظر إلى الشافعى كأنه يطلب مزيدا من البيان . فهم الشافعى مراده فقال على الفور .............
ــ يا أمير المؤمنين كأنك اتهمتنى بالميل عنك والإنحراف إلى هؤلاء . أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده !. كيف أغدر بسادات بنى عبد مناف وأنا منهم وهم منى ؟!.
هكذا قلب الشافعى الموقف لصالحه بعد أن كان مسؤولا صار سائلا . كأنما قد دار حوار صامت بينهما بعد هذه الرمية الصائبة التى سددها بإحكام , وهو الذى يجيد فن الرماية ودقة التصويب على الهدف بالرمح وبالكلمة على حد سواء ..
تغيرت مجريات الأمور وسكت الغضب عن الخليفة الذى ظل صامتا برهة من الزمن كان يستعيد خلالها تاريخ الأجداد . ذلك التاريخ الذى لخصه الشافعى فى كلمات قلائل والرشيد يقلب عبارته فى رأسه ....... “ أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده “ ؟!………………
أخيرا رفع رأسه قائلا .............
ــ أجل أجل الأمر كما تقول يا رجل . ما فى الأرض علوى إلا وهو يظن أن الناس كلهم وبالأخص قريشا عبيدا له ..
كان الشافعى رابط الجأش لم يفقد اتزانه فرقا أو يأسا حتى وهو يرى رؤوس القوم تتهاوى أمامه . موقنا أن العبرة لن تتم إلا بأن تلحق رأسه برؤوسهم . وكان من نعم الله عليه ذلك اللسان الذلق والبلاغة النادره , وقدرته على التصويب على الهدف فى ثبات وسرعة بديهة وهدوء نفس غير هياب ولا مرتاع ولا متردد .. وكأنما هيأه الله له لهذا اليوم العصيب .
فى دفاعه ارتكن على حقائق تاريخية يعلمها الرشيد تماما , وهى أن المطلب جد الشافعى وهاشم جد الرشيد كانا أخوين متناصرين قبل الإسلام كما كان أخواهما الآخران أخوين متناصرين قبل الإسلام وهما نوفل وعبد شمس جد بنى أميه أعداء بنى العباس . وتكفل المطلب بابن أخيه عبد المطلب بعد موت أبيه هاشم ..
والرشيد يعلم تماما أن جدود الشافعى وهم بنو المطلب كانوا دوما أنصار جدوده بنو هاشم وأنهم كانوا معهم حزبا واحدا على جدود بنى أميه . كان يعلم أيضا أنه لما كتبت الصحيفة بينهم وبين بنى هاشم دخل بنو المطلب مع بنى هاشم ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل . وكان يقال للمطلب وهاشم البدران بينما يقال لنوفل وعبد شمس الأبهـران ..
وهكذا تكلم الشافعى لغة التاريخ التى يعلمها الرشيد جيدا ولجأ إلى صفحاته واستطاع بعلمه وفطنته أن يدفع عن نفسه تلك التهمة الشنيعة التى لا جزاء عليها إلا الموت ..
@ إستمر الشافعى يحكى لأهله قصة محنته الكبرى كانوا يستمعون إليه وهم متحلقون من حوله وقد أخذهم الدهش والرهب من هول ما يسمعون وهو يقول لهم مستأنفا حديثه .............
ــ إستمع أمير المؤمنين إلى دفاعى وبدا عليه وكأنه فى سبيله إلى أن يقنع بما سقته إليه من حجج وأسانيد , إلا أنه لم يشأ أن يعلن عن عفوه عنى بعد .. ذلك ما بدا لى منه .....
سألت أم حبيبه .............
ــ وما الذى فعله إذن ياقرة العين ومهجة الفؤاد ؟!.
ــ ردد النظر بين قائد الشرطة وبين حراسه ثم قال آمرا ............
ــ إحبسوه فى دار العامه وبعد الغد يأتى إلينا ..
ــ وماذا بعد يا ولدى ؟!.
ــ أخذونى إلى هذه الدار وهو مكان نظيف رحب وفيها من كل شئ ولى أن أفعل فى داخلها ما أشاء , لكنه غير مسموح لى بمغادرتها أو التحرك خارج جدرانها . وفى المساء جاءنى القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن يتحدث معى ويستعيد ما كان بيننا من حكايات وذكريات ونوادر فى المدينه قبل سنوات . كنت فى حقيقة الأمر أميل إلى هذا الرجل لسعة علمه وفقهه رغم اختلافنا كثيرا فى الرأى لتباين منابع الفكر عند كل واحد منا . كنت آمل فى ذات الوقت أن يشفع لى عند الرشيد , لكنى فوجئت به يهجو أهل المدينة ويخفض من قدرهم ويضع من علومهم ..
سأله عبد العزيز مستنكرا ..............
ــ يهجو أهل المدينه ؟!. كيف يفعل ذلك من هو مثله من أهل العلم ؟!.
ــ ليس هذا فحسب بل إنه فى المقابل يذكر أصحابه العراقيين ويرفع من أقدارهم . ثم قال لى وهو يخرج كتابا ضخما من بين طيات ردائه , أمسك به فى يده قائلا ...…
ــ لقد وضعت على أهل المدينة هذا الكتاب أفند فيه أقوالهم وأفعالهم . إعلم أنى لو وجدت أحدا ينقض منه حرفا لضربت إليه أكباد الإبل لأسمع منه ..
ــ ليتك تدع لى هذا الكتاب سأعكف عليه هذه الليله وفى الغد نلتقى إن شاء الله ..
ــ وأنا ما جئتك إلا من أجل هذا , وأعلم أنك ستكون صادقا معى ..
ــ فى الغد إن شاء الله أخبرك برأيى فى مسائله كلها ..
تعجب القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن قائلا .............
ــ تنتهى وأنت على هذه الحال من قراءة سفر كبير كهذا فى ليلة واحده , وترد أيضا على جميع مسائله , غير معقول والله ؟!………………
@ إستطرد الشافعى قائلا .............
ــ مضى القاضى لحاله وتركنى وحدى ..
سأله سليم ............
ــ وماذا فعلت , أظنك لم تنم تلك الليله ؟!.
ــ تماما هذا هو ما حدث يا خال , لم أنم ليلتى هذه رغم ما كنت أعانيه من جهد . ظللت عاكفا على صفحات الكتاب طوال الليل إلى أن طرق سمعى صوت المؤذن مناديا .... الصلاة خير من النوم . لم أتركه من يدى إلا وقد انتهيت من قراءة آخر سطر فيه وفى عشية اليوم التالى جاءنى ابن الحسن كما وعدنى , لكنه لم يأت وحده . كان بصحبته القائد الكبير هرثمه بن أعين ..
ــ بالطبع سألك عن رأيك فيما أورده فى كتابه ؟!.
ــ قبل أن أفاتحه برأيى فيما جاء فى كتابه هذا من أقوال وآراء تمثلت بين أمرين . أن أرجئ مصارحته بالحقيقة إلى حين , حتى لا أغضبه فى ذلك الوقت العصيب رجاء أن يشفع لى عند الرشيد . أو أصارحه برأيى الذى قد يغضبه لكنه يرضى ربى ويبيض وجـوه المهاجريـن والأنصار ..
سألته أم حبيبه فى وجل وترقب ...........
ــ وأيهما اخترت يا ولدى ؟!.
ــ أفى ذلك شك يا أماه , إخترت رضا الله عز وجل وتوكلت عليه وقلت له …
يتبع.. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها