@ فى اليوم التالى جاءه صلاح الدين مصطحبا معه شيخا طاعنا فى السن , تمتد لحيته البيضاء الكثيفة إلى مقدمة صدره وخصلات من شعر رأسه الأبيض الناعم تنسدل خارج عمامته فوق ظهره ساترة أذنيه . تقدم من الشافعى بعد أن فتح باب الزنزانة قائلا فى لهجة مرحة بعد أن ألقى عليه السلام .........
ــ أبشر أيها الشيخ المكى , هذا هو الشيخ أبا جعد نجم الدين الزهراوى , أتاك بنفسه ..
مد الشيخ يده مسلما على الشافعى قائلا له وهو يملأ عيناه منه مدققا فى ملامحه .........
ــ أهلا بك يا ولدى , كنت أود أن ألقاك فى مكان آخر غير هذا المكان الكئيب الموحش . لكن الحمد لله الذى أطال فى عمرى حتى أتى يوم ألقى فيه مثلك ..
ــ شكرا لك يا سيدى الشيخ على حسن ظنك ..
ثم أردف معاتبا حارسه صلاح الدين .......
ــ لقد شققت على الشيخ يا أبا الصلح وأتعبته . كان يكفى أن تبلغنى بما قاله لك دون أن تكلفه مشقة الحضور إلى هذا المكان ..
ــ والله لا ذنب لى فى ذلك , سله أنت بنفسك . حاولت أن أثنيه عن الحضور والله يا شيخ لكنه هو الذى أصر . ما إن قصصت عليه رؤياك بالأمس حتى تهلل وجهه وأصر رغم مرضه واعتلال بدنه على أن يأتى معى ليراك ويبشرك بنفسه بتأويلها ..
رد الشيخ قائلا ..........
ــ إسمع يا ولدى تأويل رؤياك , وهى كلها خير وبركة إن شاء الله ..
ــ تفضل أيها الشيخ ..
ــ معانقتك لعلى بن أبى طالب تعنى النجاة من النار فى الدار الآخرة بإذن الله , أما مصافحته لك فهى الأمان يوم الحساب ..
ــ والخاتم الذى جعله فى إصبعى ؟.
ــ آه ... الخاتم الذى جعله فى إصبعك وكذلك رؤيتك لنفسك مصلوبا على قناة مع على كرم الله وجهه , هما بمعنى واحد وإن اختلفت المشاهد ..
سأله الشافعى فى وجل متلهفا ..........
ــ ماذا تعنى سيـدى الشيـخ يرحمك الله ؟.
ــ لا تخف يا ولدى لا تخف , إن صحت رؤياك فسيبلغ إسمك كل موضع بلغ إسم على بن أبى طالب . لن تبقى كورة من الكور ولا مدينة من المدن ولا مصر من أمصار الإسلام إلا علا فيها اسمك ودخل فيه ذكرك وانتشر بين أهله أمرك ..
عقب الحارس مبتهجا ...........
ــ الله الله , ألم أقل لك يا ابن إدريس إنها رؤيا خير وبركه إن شاء الله ..
@ مرت أيام قلائل وبينما الشافعى متربع فى محبسه يقرأ آيات من القرآن بعد أن انتهى من صلاة ركعتى الفجر , إذا به يسمع على البعد جلبة شديدة وأصوات أقدام تدب فى قوة على الأرض . إلتفت بصره بين القضبان وهو لا يزال فى مكانه يتلمس الخبر فإذا هو بحارسه صلاح الدين يقترب من باب الزنزانة وعلى مسافة قريبة منه وقف بعض الحراس ورجال الشرطه ..
كان يبدو حزينا على غير عادته وكيف لا يحزن وقد حانت لحظة الفراق . لم يدر إن كان سيراه مرة أخرى أم أنه الوداع الأخير , الجناية المتهم فيها صاحبه لا جزاء لها إلا سيف الجلاد ..
حاول أن يخفى مشاعره فلم يجد إلى ذلك سبيلا , سبقته دموعه رغما عنه حتى أنه تمنى بينه وبين نفسه لو لم يره أو يتعرف عليه قبل اليوم . أيام قلائل قضاها معه الشافعى وراء أسوار السجن . إلا أنها كانت فرصة فريدة له تعرف خلالها على شخصية فذة مثله , تعلم منه خلالها كثيرا من أمور دينه لم يكن يعلم شيئا عنها..
كان ينصت إليه باكيا وهو يقرأ القرآن بصوته الرخيم فينتظر حتى ينتهى من قراءته ليسأله عن معانى بعض الكلمات والآيات التى كان يستمع إليها منه . من ذلك أنه سأله ذات مرة عن معنى الشطر فى قوله تعالى : [ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ] أجابه الشافعى ............
ــ شطره أى جهته فى كلام العرب , فإذا قلت أقصد شطر كذا معناه أقصد عين كذا . قال خفاف إبن عم الخنساء ... ألا من مبلغ عمرا رسولا .. وما تغنى الرسالة شطر عمرو ..... أى قصد جهته ..
وكم من مرة صحح له الشافعى كثيرا من مفاهيمه الخاطئه حول بعض أحكام الشرع وأفتاه الفتوى الصحيحه . سأله مرة وهو يرقبه بعد فراغه من صلاة العشاء ...........
ــ هل تسمح لى أن أسألك أيها الشيخ عن شئ لاحظته فى صلاتك الآن ؟.
إبتسم الشافعى ............
ــ سل ما بدا لك يا أبا الصلح ..
ــ لاحظت أنك كنت تدعو فى صلاتك بأدعية كتلك التى يدعو بها المرء فى غير الصلاه ..
ــ آه , تقصد أنى كنت أدعو بغير ما فى القرآن , أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها الشيخ . على قدر ما أعلم فإن الأمر بخلاف ذلك ؟.
ــ كيف ؟.
ــ سمعت القاضى محمد بن الحسن يقول فى مسجد بغداد ذات مرة ........ من دعا فى الصلاة بغير ما فى القرآن تفسد صلاته وإن دعا بما فى القرآن لا تفسد ..
ــ الأمر ليس كذلك يا أبا الصلح , أرأيت إن دعا المصلى ربه قائلا ..... أطعمنا بقلا وقثاء وفوما وعدسا وبصلا ؟.
ــ من دعا بذلك تفسد صلاته ..
ــ ما قولك فى أن هذا الذى دعا به جاء فى القرآن أتفسد صلاته أيـضا ؟.
ــ فما هو الحكم الصحيح إذن ؟.
ــ الحكم هو أن ما يجوز أن يدعو به المرء فى غير الصلاه جاز أن يدعو به فى الصلاه لأن المخاطبة فى ذلك ليست إلى الآدميين . وقد دعا النبى "صلى الله عليه وسلم" لقوم وسماهم بأسمائهم ونسبهم إلى قبائلهم . ولا أعلم أحدا من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" اختلف فيه ..
ــ هل هناك دليل آخر من السنة على ذلك ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ … وإنى نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم ] فالنبى "صلى الله عليه وسلم" لم يخص فى هذا الحديث دعاء من دعـاء ..
ــ فما هو المحرم من الكلام فى الصلاه ؟.
ــ المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضا فى حوائجهم . فى هذا يقول الصحابى معاويه بن الحكم السلمى ............. بينا أنا أصلى مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمى ما شأنكم تنظرون إلى ؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوننى سكت . فلما صلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : [ إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ] ..
وذات مرة سأله .............
ــ يا شيخ , ما تقول فى من أفتى بأنه من أفطر يوما فى رمضان , قضى عنه إثنا عشر يوما ؟.
إبتسم الشافعى قائلا ..........
ــ ما دليله على قوله هذا يا أبا الصلح ؟.
ــ يقول إن الله عز وجل اختار شهرا للصيام من اثنى عشر شهرا ..
ضحك قائلا ...........
ــ فمن ترك الصلاة ليلة القدر وجب عليه أن يصلى ألف شهر على قياسه , فإن الله تعالى يقول “ ليلة القدر خير من ألف شهر “ ……………
مرت ذكرياته مع الشافعى سريعا على خاطره . حاول أن يكتم بكاءه ويحبس دموعه وعيناه تنظران إليه فى شفقة وخوف وقد طوفت على خاطره كلمحة بارق أحاديثه وذكرياته معه فى تلك الأيام القلائل . قبل أن تمتد يده بالمفتاح فى باب الزنزانة الحديدى ويدلف داخلها وحده سلم عليه وحياه قائلا لـه ..........
ــ هيا يا صديقى ..
ــ إلى أين أنت ذاهب بى يا أبا الصلح ؟.
ــ سترحل فى الحال مع باقى المقبوض عليهم للقاء الرشيد فى مدينة الرقه . ورد البريد من عنده اليوم آمرا أن يحمل السجناء كلهم إليه هناك ..
لم ينس صلاح الدين وهو يعانق الشافعى قبل أن يتركه لجند الخليفة أن يهمس فى أذنه قائلا ........... أخى سالم شد الرحال إلى مكة فجر اليوم كما سبق ووعدتك ليطمئن على وصول أهلك سالمين وهو يحمل معه كتابك الذى ائتمنته عليه , ووعدنى أن يوصله إلى خالك على فى دكان العطارة القريب من الحرم , هل تريد منى شيئا آخر ؟.
ــ بارك الله فيك يا أبا الصلح وأعاننى على رد جميلك هذا . أعدك إن كتبت لى النجاة فلسوف أزورك إن شاء الله فى دارك فى بغداد ..
فى هذا الكتاب أودع الشافعى وصيته لأهله إن أصابه مكروه وأعلم فيه خاله على بما هو عليه من حال , والظلم الذى وقع عليه على يد حماد البربرى وأنه برئ من تلك الفرية الدنيئه والوشاية الكاذبه . كان الشافعى غير واثق من نجاته من سيف الجلاد فخط هذه الرسالة على عجل إلى أهله , وكانت فرصة فريدة أن يجد فى هذا المكان الموحش من يغامر بنفسه ويقوم بهذه المهمة الشاقة العسيرة التى ربما تكلفه حياته لو وقع فى أيدى الشرطه , سيعد فى تلك الحالة شريكا متعاونا مع واحد من الخارجين المغضوب عليهم من قبل أمير المؤمنين ..
يتبع.. إن شاء الله...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h55
|