
30/03/2009, 08h31
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ هب الشافعى فزعا من رقدته الخاطفة وهو يفرك عينيه . إستطاعت عيناه أخيرا أن تغفل قليلا فى هذا المكان الكئيب . أخذ ينظر حواليه فى تكاسل لمعرفة ما مر عليه من زمن وهو نائم هكذا . كان لا يزال هناك خيط ضعيف خافت من ضوء النهار ينبئ أن شمس هذا اليوم فى طريقها للمغيب . رنا إليـه شعاعه وهو يتسلل على استحياء من كوة ضيقة فى تلك الزنزانة الرطبة اللعينة التى أودعوه فيها وحده . فى ذات الوقت كان حارسه صلاح الدين جالسا بالقرب من الباب يتابع بعينيه مجمرة أمامه فيها قطع من الفحم المتأجج وفى يده كوب من شراب الزنجبيل الدافئ يحتسيه فى ملل وفتور . بينما أصابع يده الأخرى تعبث فى حركة رتيبة بشعرات لحيته الخفيفه ..
بدا الشافعى منكمشا على نفسه من برودة المكان وسكونه وهو يشعر بالقشعريرة تدب فى أوصاله محاولا أن يمسح آثار النوم عن عينيه . إلتفت إلى سجانه من بين قضبان السجن وقد صار بينهما نوعا من الصداقة وشيئا من الألفة والموده فى تلك الأيام القلائل التى مضت عليه وهو فى هذا المكان لا يرى فيها سواه وزميله المناوب معه القائم على حراسته منذ أن ساقوه من اليمن إلى العراق ..
فلم يكد حماد البربرى يعود إلى أرض اليمن بعد لقائه بأمير المؤمنين وأخذ الإذن منه بإحضار السجناء إليه فى العراق , حتى أصدر أوامره بترحيلهم جميعا إلى هناك يتقدمهم الشافعى فى موكب مهين على أقتاب الإبل وأيديهم مغلولة فى الأثقال إلى أعناقهم تسبقهم تهم التشيع لآل البيت ورفض كل من تولى الخلافة قبل سيدنا على وبعده , والخروج والتمرد على أمير المؤمنين وعدم الإعتراف بخلافته ..
دل هذا الرجل وهو يسعى للبحث عن أفراد هذه الفئة الضالة على أنه شديد الخبث والدهاء لما وضع خطته وقرر أن يزج باسم الشافعى ضمن أسمائهم , ليس هذا فحسب بل ويجعله كبيرهم وزعيمهم . وفى بغداد مدينة السلام أودعوه هذه الزنزانة وحده باعتباره المتهم الأول وكبير المتمردين فى نظرهم . أما بقية السجناء أفردوا لهم حبسا جماعيا فى مكان قريب فى انتظار محاكمتهم بعد عودة أمير المؤمنين هارون الرشيد من مدينة الرقه . وهى المكان الذى كان يحلو للرشيد أحيانا أن يمضى بعض الوقت فى دار للملك أعدها فى تلك المدينة الصغيرة الوادعه التى تقع فى مكان هادئ على الضفة الشرقية للفرات شمال غربى الجزيره . إتخذ الرشيد هذه المدينة خصيصا لتكون قاعدة لهجومه على الفرنجه حيث ينطلق من أرضها ليغزوهم عبر البحر الأسود وبحر الروم ..
كان مسلك الشافعى فى زنزانته هو الذى أوجد تلك الألفة والمودة بينه وبين حارسيه حيث يقضى جل وقته ما بين الصلاة والدعاء أو قراءة القرآن بصوته الرخيم العذب . وأحيانا أخرى يدون فى أوراق معه على ضوء فتيل ضعيف بعض المسائل والأحكام التى يتوصل إليها مخافة الضياع أو النسيان . وفى بعض الأوقات يجلس إلى حراسه معلما ومفتيا إن تصادف وسأله أحدهم عن مسألة تتعلق بأمور الشرع أو تفسير آية من القرآن أو حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم" ..
كل هذا جعل حراس السجن جميعا بما فيهم حارسى زنزانته اللذان كانا يتبادلان الحراسة عليه يوقرونه ويحفظون له قدره ومنزلته . لم يخاطبوه مدة إقامته معهم إلا ولقب الشيخ يسبق إسمه . ومن ناحيته هو كان لا يخاطب حارسه صلاح الدين إلا باللقب المحبب لديه "أبا الصلح" والذى كان إخوانه يخاطبونه به أيضا . إلتفت إليه وناداه .............
ــ أبا الصلح , هل أذن لصلاة المغرب ؟.
إنفرجت عن شفتيه ابتسامة مقتضبة باردة برودة هذا المكان الكئيب وهو يلتفت ناحيته قائلا .............
ــ من ؟. شيخنا التقى الصابر . صح النوم أيها الشيخ , إيه ... كأنك لم تنم منذ أيام , ما خطبك اليوم ؟.
ــ الحمد لله أخيرا حصلت بعض النوم . صدق الإمام على بن أبى طالب لا يقهر ابن آدم حقا إلا النوم ولا يقهر النوم إلا الهم . لم أشعر بنفسى يا أبا الصلح إلا والفراش يبتلعنى كغريق فى بحر الظلمات بعد أن مرت على ثلاث ليال لم يغمض لى فيها جفن أو تقر عين ..
ــ صدقت أيها الشيخ فلا أشق على نفس الإنسان من مكابدة الهموم . إيـه , يبدو أنك تحمل الكثير منها فى نفسك . ما علينا , ليهنك النوم يا شيخنا الطيب ..
رد قائلا وهو يتنهد فى أسى ................
ــ إيه يا أبا الصلح كيف تنام لى عين أو يقر لى جفن وقد تركت المرأة وصغارها وحدهم فى ديار الغربه . حتى الغلام الذى يقوم على خدمتى , كان مصرا على مرافقتى , لم يكف أبدا عن البكاء والصراخ وهو متعلق بأذيال ردائى يناشد العسكر ويرجوهم أن يأخذوه معى . لم يتمكنوا من انتزاعه بعيدا عنى إلا بعد أن لطمه أحدهم بيده لطمة قوية أفقدته الوعى ..
ــ لا تيأس أيها الشيخ ولا تحزن . إن الله تعالى معهم لن يضيعهم أبدا ..
ــ أعلم أن الله تعالى لن يضيعهم ولن يتخلى عنهم , لكنها الشفقة والخوف الغريزى المودعان فى قلب ابن آدم . كيف أدفعهما عنى أو أمنع عنهما نفسى . نحن فى النهاية بشر ضعفاء أيها الحارس ..
ــ هل يعيشون وحدهم . أليس معهم أحد قط ؟.
ــ إنهم الآن فى طريقهم إلى مكه ..
ــ كيف علمت ؟.
ــ لقد أوصيتها فى عجالة والجند ينتزعوننى انتزاعا من بينهم أن تأخذ الولد والبنية وكذلك الغلام وأن ترحل بهم إلى ذى طوى بمكه حيث يقيم أخوالى الأزد لتكون بينهم وفى كنفهم فى انتظار ما تقضى بـه المقاديـر ..
مرت لحظات صمت كئيب قبل أن يفاجئ صلاح الدين سجينه قائلا ................
ــ إسمع يا أبا عبد الله , لقد طرأت على خاطرى الآن فكرة سأعرضها عليك أظن أنها سترضيك وتريح فؤادك وخاطرك ..
نظر إليه الشافعى متسائلا فأردف قائلا ................
ــ ما قولك فى أن تخط الآن رسالة لأهلك تطمئنهم فيها عليك ؟.
أطرق الشافعى برهة يتدبر الأمر , ثم رفع وجهه قائلا وقد انفرجت أساريره .....
ــ رأى سديد لا بأس به , لكن من ذا الذى سيقوم بتوصيلها إليهم ؟.
ــ لا تهتم لهذا , عندى من سوف يوصلها لهم فى أمان وفى ذات الوقت يأتيك بأخبارهم كى يطمئن قلبك وتقر عينك . هيه ما قولك ؟.
ــ من ذا الذى يرفض أمرا كهذا سأفعل إن شاء الله , لكنك لم تجبنى بعد , من هذا المغامر الذى يقوم بتلك المهمة الخطره معرضا نفسه للخطر الجسيم ؟.
ــ أى خطر هذا الذى تتحدث عنه أيها الشيخ الطيب ؟.
ــ كيف تسأل سؤالا كهذا يا أبا الصلح ؟. هل غاب عنك أن حامل رسالة كهذه يضع نفسه موضع الإتهام . أنسيت ما الذى يمكن أن يحدث له لا قدر الله إن أمسك به واحد من جنود الخليفه وفى جيبه رسالة كتبها من لا يزال حتى الآن فى نظرهم متمردا عاصيا ؟.
ــ دع عنك هذه الظنون أيها الشيخ إنما هى مهمة يسيرة بإذن الله وليست كما تظن بهذه الصعوبه . لقد اخترت لها واحدا أثق فيه وفى مقدرته على المراوغه كما أنه لن يشك أحد فيه ..
ــ من يكون ؟.
ــ سالم , شقيقى الأصغر , شاب فتى لبيب يشتغل بصناعة الخزف وله معمل لصناعة المواد الخزفية فى بغداد . إنه كثير الترحال دائم السفر لتوزيع بضاعته وبالطبع لن يشك فيه أحد . هيا يا شيخ لا تضيع الوقت أمامك المحبرة والريشه ما عليك إلا أن تكتب الرسالة الآن ودع الباقى على أخيك صلاح الدين . يعلم الله كم أحببتك أيها الشيخ الحجازى هيا لا تشغل بالك أنت ..
ــ حسن حسن سأخطها إن شاء الله . أخذنا الكلام بعيدا وشرد بنا الحديث ولم ترد على سؤالى بعد يا أبا الصلح ..
ــ عن أى شئ كنت تسألنى ؟. آه تذكرت كنت تسأل عن صلاة المغرب . لا لم يحن وقتها بعد . أظنك صليت صلاة العصر قبل أن ترقد تلك الرقده ؟.
ــ أجل صليتها فى وقتها لئلا تفوتنى ..
صمت برهة وأردف قائلا .............
ــ يا أبا الصلح كيف تفوتنى صلاة العصر فى وقتها وقد حدثنى إمام دار الهجره مالك بن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أنه قال : [ الذى تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] ..
ــ زادك الله علما وتقى أيها الشيخ ..
ثم أردف قائلا وهو يشير على قربة الماء فى ركن الزنزانه .............
ــ أرى الماء قد فرغ من عندك هات قربة الماء أملأها لك كى تتوضأ ..
ناوله القربة الفارغة وهو يدعو له شاكرا ثم جلس فى انتظاره مسندا ظهره على باب الزنزانة وراح فى تفكير عميق أخذه عما حوله حتى أنه لم يشعر به وهو يمد له يده بقربة الماء ضاحكا ..............
ــ إيـه أيها الشيخ المكى الطيب رجعنا للشرود مرة أخرى فيم كل هذا الشرود يا ترى ؟.
ثم أردف قائلا ...............
ــ بعد الضيق يأتى الفرج إن فرج الله قريب ألست أنت الذى علمتنا ذلك . إن لك بيتان من الشعر سمعتهما منك منذ أيام كنت تتكلم فيهما بكلام عن الضيق والفرج لكنى نسيتهما ليتك تعيدهما ؟.
ــ ولرب نازلة يضيق لها الفتى .. ذرعا وعند الله منها المخرج ..
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فرجت وكنت أظنها لا تفرج ..
ــ الله الله كلام مليح طيب . والله إنك لتنطق بالحكمة ومأثور القول . فيم الضيق إذن أيها الشيخ ؟.
ــ لا لا إنها مسألة أخرى لا علاقة لها بفراق الأهل ..
ــ هلا أخبرتنى عنها ؟.
ــ سأخبرك عنها بعد أن أتوضأ وأناجى ربى ..
ثم تمتم فى سره ............ أجل إن ما رأيته فى منامى قبل قليل لأمر عجيب ..
إنهمك الشافعى فى وضوئه ثم جلس فى مواجهة القبلة يدعو ربه , بينما أبو الصلح رابض فى مكانه ينتظر بفارغ الصبر أن يفرغ السجين من دعائه ومناجاته لربه كى يحدثه بما عنده بعد ان أثار فضوله . إنها فرصة كى يبدد هذا الملل اللعين فالوقت يمضى حثيثا متثاقلا فى تلك الأماكن المغلقة الكئيبه . فرغ الشافعى من مناجاته لربه فاتجه إليه أبا الصلح مسرعا فى لهفة وفضول بعد أن صب له قدحا من الإبريق الساخن ثم أعاده مكانه بين قطع الفحم المتأججة فى المجمرة أمامه قائلا ..............
ــ تقبل الله دعاءك أيها الشيخ , خذ إليك هذا الشراب الدافئ إنه شراب الزنجبيل الحار سيشيع الدفئ والحرارة فى جسدك . هيه أخبرنى الآن ما خطبك اليوم أيها الشيخ الصابر . وما هى تلك المسألة التى أهمتك كل هذا الهم التى وعدت قبل قليل أن تخبرنى عنها ؟.
تناول منه القدح شاكرا ثم رشف منه رشفة وقال ...............
ــ إسمع يا أبا الصلح سأحكى لك أمرا عجيبا رأيته فى منامى قبل قليل ..
ــ وأنا كلى آذان صاغيه خيرا إن شاء الله ..
ــ رأيت فيما يرى النائم كأنى قاعد وحدى فى سوق الطواف عند البيت الحرام فإذا أنا بعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه أقبل تجاه البيت . قمت إليه فعانقته وعانقنى وصافحته وصافحنى . ثم رأيته يخلع خاتمه من إصبعه ويجعله فى إصبعى وبعد ذلك رأيت شيئا عجيبا ..
سكت الشافعى برهة احتسى خلالها رشفة من الشراب فاستحثه الحارس فى لهفة وقد استولى عليه الدهش والذهول .................
ــ هيه وماذا بعد ما الذى رأيته ؟.
ــ رأيت بعد ذلك يا أبا الصلح ما هالنى وأفزعنى . رأيتنى وكأنى مصلوب على قناة وإلى جوارى على بن أبى طالب . نظرت إليه نظرة خاطفة ثم صحوت فزعا من نومى . ترى هل هذه هى النهاية يا أبا الصلح ؟. إنى لأظنها كذلك .
رد الحارس قائلا , بعد أن أطرق برهة يفكر باهتمام فيما سمعه فى التو .....
ـ خيرا إن شاء الله خيرا لا توجل يا صاحبى . أعرف رجلا فى بغداد إسمه أبو جعد الزهراوى يعبر المنامات والرؤى إنه حاذق فى هذا العلم متمكن فيه ..
ــ متى تلتقى به ؟.
ــ بعد أن أنتهى من ورديتى هذه الليلة قبل أن أرجع إلى دارى سأعرج عليه فى خلوته وأقص عليه رؤياك وفى الغد إن شاء الله سآتيك منه بتأويلها . هه دعنى الآن لأحضر لك طعامك ريثما تصلى أنت صلاة المغرب لقد حان وقتها الآن ..
أثناء تناوله طعامه إلتفت إلى حارسه متسائلا ............
ــ أبا الصلح هل تعرف رجلا من الكوفه إسمه محمد بن الحسن ؟.
ــ تقصد محمد بن الحسن الشيبانى ؟.
ــ أجل إنه هو هل تعرفه ؟.
ــ ومن ذا الذى لا يعرفه .
ــ كيف ذلك ؟.
ــ إنه فقيه البلاد وقاضى قضاة بغداد والكوفه ..
ــ منذ متى ؟.
ــ لقد تولى القضاء منذ عامين بعد وفاة قاضى البلاد أبى يوسف الأنصارى تلميذ أبى حنيفه . إن للقاضى محمد بن الحسن منزلة كبيرة عند أمير المؤمنين هارون الرشيد حتى إنه لا يفارقه أبدا فى أى مكان يذهب إليه . لكن ما الذى دعاك للسؤال عنه هل تعرفه ؟.
ــ أجل لقد تزاملنا زهاء تسع سنين بالمدينه فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس بعدها سافرت إلى اليمن للعمل بالقضاء ورجع محمد بن الحسن إلى العراق ومن أيامها إنقطعت عنى أخباره ولم أعد أعلم عنه شيئا . عموما هذه أخبار طيبة لا بأس بها . الحمد لله إنتهيت من طعامى هيا ارفع هذه الأوعيه ..
نظر إلى أطباق الطعام التى لم ينقص منها إلا القليل من الإدام والدهشة بادية على وجهه قائلا ..........
ــ معذرة أيها الشيخ أتسمح لى أن أسألك سؤالا ؟.
إبتسم الشافعى قائلا بعد أن فطن إلى سؤاله .............
ــ إسأل يا أبا الصلح ..
ــ ألاحظ أنك مقل فى طعامك راغب عنه هل هذا دأبك دائما أم أن طعامنا لا يروق لك . ما السبب يا ترى ؟.
إبتسم قائلا ..............
ــ يا أبا الصلح ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة طرحتها على الفور من جوفى ..
عقب على قوله باستغراب كأنه غير مصدق .................
ــ لم تشبع منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة . ولم تسمح لها بأن تبقى فى بطنك . لم أيها الشيخ ؟.
ــ الشبع يا صاحبى فيه خمس مضار ..
ــ الشبع فيه خمس مضار . ما هى عافاك الله ؟.
ــ يثقل البدن ويقسى القلب , ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العباده , أفهمت ؟.
أجابه مازحا ................
ــ فهمت , لكنى مع ذلك لن أعمل بما تقول. أمجنون أنا حتى أدع الأطعمة الشهية من أجل خمسة مضار كهذه ………………
يتبع.. إن شاء الله ............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h45
|