عرض مشاركة واحدة
  #78  
قديم 25/02/2009, 11h07
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

الفصـــل
الثالــث
قاضـى نجـران

@ ذاع صيت الشافعى حتى تعدى منطقة نجران وما حولها إلى سائر أقطار اليمن الأخرى
, تعطرت بسيرته الطيبة ومثاليته آفاق الجزيرة العربية طولا وعرضا . والناس فى نجران من أولئك الذين تغلب عليهم الطيبة والوداعه , لم يكن هناك حديثا لهم فى بيوتهم , متاجرهم , أسواقهم أو منتدياتهم وأينما جمع بعضهم مكان إذا ذكر اسمه أو جاءت مناسبته إلا عن عدالته وأحكامه القاطعة التى لا يجامل فيها أحدا . يتناقلون فيما بينهم حكايات كثيرة عن الدعاوى التى حكم فيها قاضيهم الجديد , كيف بهرهم بتوقد ذهنه وحضور بديهته وقدرته على المحاورة ومناقشة الشهود , عن تمكنه من الإحاطة بمصادر التشريع كلها واستخراج الأحكام العادلة النزيهة فى مهارة وحنكة من بطونها ..

لكم قاسى أهل نجران الطيبين البسطاء من عسف وجور القضاة والولاة السابقين وخضوعهم لذوى النفوذ وأصحاب الجاه والسلطان . إلا قاضيهم الشافعى رأوا فيه صورة أخرى من التقوى والورع والعدل والإنصاف , والتفانى فى آداء الواجب وإقامة ميزان العدل ..
كان الشافعى قد تسلم عمله من قاضى القضاه ورئيس جماعة القضاة باليمن مصعب بن عبد الله القرشى الذى اختار له ولاية نجران ليكون قاضيا عليها بعد أن استضافه فى داره التى تقع فى صنعاء بضعة أيام . ولأن غريزة حب العلم كانت مستحكمة فى نفسه تلازمه كظله لا تفارقه أينما حل وارتحل فقد وجدها الشافعى فرصة قبل أن يرحل شمالا إلى هذه الولاية الوادعة أن ينهل فيها ما تيسر له من علوم هذا الشيخ الجليل وهو أحد الفقهاء الأعلام . تعرف من خلاله على فقه أهل اليمن واستمع إليه وهو يوصيه قبل أن يودعه إلى مقر عمله قائلا له وهو يشد على يديه ...................
ــ أذكرك يا أبا عبد الله بكتاب الفاروق عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبى موسى الأشعرى حيث قال له : “ إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعه . فافهم إذا أدلى إليك وانفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له . وسوى بين الناس فى مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين الناس إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا . ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه رشدك أن تراجع الحق , إن الحق ومراجعته خير من الباطل والتمادى فيه . والفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما لا يبلغك فى الكتاب والسنه . وعليك بمعرفة الأمثال والأشكال ثم قس الأمور عند ذلك ثم اعمد لأحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى . إجعل للمدعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء . وإياك والقلق والضجر والتأذى بالخصوم فى مواطن الحق التى يوجب الله بها الأجر ويحسن الذكر . فإنه من صلحت سريرته فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس” .. هيا يا ولدى على بركة الله وأظنك ستفعل إن شاء الله , إنى أتوسم فيك التقى والصلاح والفهم ..

@ وفى أول يوم
له فى دار القضاء تعرف على جماعة العاملين معه بعد أن اجتمع بهم . بعدها انتحى جانبا بكاتب القضاء زيد بن عيسى الذى يعمل تحت إمرته ويعاونه فى عمله قائلا له ..............

ــ إسمع يا زيد , أنت أعرف الناس بأهل هذا البلد وأحوالهم ..
ــ أجل يا سيدى القاضى ..
ــ عظيم , أريد منك أن تجمع صفوة رؤوس العائلات وشيوخ القبائل فى نجران , أبلغهم جميعا دعوتى إلى لقاء هنا فى دار القضاء فى الغد .. لدى كلام مهم أود أن أقوله لهم ..
فى اليوم التالى جاءه زيد برفقته جمع من صفوة العائلات وشيوخ القبائل . وفى اجتماعه بهم فى دار القضاء قال لهم................
ــ تعلمون يا سادة نجران أنى حجازى من مكه .. لا أعرف الناس هنا فى بلادكم .. ولا علم عندى بأحوالهم . سيأتينى الشهود فى قضايا الناس ولا علم لى إن كانوا عدولا صادقين أم غير ذلك . المسلمون كلهم عدول إلا من كان مجلودا فى حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا فى ولاء أو قرابه ..
سأله أحدهم ...............
ــ ماذا علينا فعله يا قاضى نجران ؟!.
ــ أريد منكم أن تختاروا سبعة رجال من خيرة أهل هذا البلد , ممن تثقون فيهم ثقة كاملة .. يكونون عونا لى فى مجلس القضاء ..
سأله آخر ................
ــ ليتك تبين لنا كيف يكونون عونا لك فى مجلس القضاء ؟!.
ــ ستقع عليهم مهمة النظر فى أحوال الشهود , يزكونهم أو يشهدون عليهم .. فمن عدلوه منهم يكون عدلا , ومن جرحوه يكون مجروحا , كم من صاحب حق ضاع حقه بسبب شهادة الزور . عندما يستقر اختياركم على هؤلاء الرجال إئتونى بهم ..
@ وفى لقائه بهؤلاء السبعة الأعوان من صفوة الرجال إبتدرهم الشافعى ......
ــ أيها الرجال .. يقول الله جل ثناؤه "وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله" وقال تعالى "ممن ترضون من الشهداء" .... إعلموا أيها الرجال أنكم الآن أهل الصلاح فى الجماعه , كونوا عونا لنا فى إرساء قواعد العدل والإنصاف , ورد الحقوق السليبة إلى أصحابها , ورفع الظلم عن المظلومين ..
سأله واحد منهم .........
ــ نحن رهن إشارتك فى كل ما تأمرنا به , لكنا بين لنا حقيقة عملنا ؟!.
ــ سوف تقع عليكم أيها الرجال مهمة النظر فى أحوال الشهود إن كانوا عدولا أو زورا . إنها ليست مهمة هينة أبدا ..
ــ ليتك تزيدنا إيضاحا وبيانا ؟!.
ــ إعلموا أن الشاهد لا يكون عدلا , إلا إذا كان عاقلا وقت حدوث ما يشهد عليه . بالغا وقت الشهاده لا وقت حدوث ما يشهد عليه . وألا يكون فى شهادته طالبا لمغنم أو دافعا لمغرم . وألا يكون خصما أو ظنينا , وأن يكون مسلما إن كان المشهود عليه مسلما . وألا يكون فاسقا قد سبق حده فى قذف أو خلافه . ولا تجوز شهادة المملوك ولا شهادة الكافر أو الصبى ..
سأله آخر ................
ــ هل هؤلاء فحسب هم الذين ترد شهادتهم ؟!.
ــ الذين ذكرتهم سلفا ترد شهادتهم جميعا بإطلاق لا استثناء فيهم . لكن هناك آخرين يطول الكلام بنا الآن فى تفصيل أحوالهم , مثل الشعراء وأهل اللعب وأهل الأشربة وأهل الأهواء وأهل العصبية , ومتى تجوز شهادة من أقيم عليه الحد وغيرهم ..
ــ معذرة سيدى القاضى , أنت تعلم أن الشعر يجرى على ألسنة الناس هنا كالماء الجارى , وأنت ذكرت الآن ضمن ما ذكرت طائفة الشعراء . ليتك توضح لنا حالهم وهل ترد شهادتهم بإطلاق , أم يؤخذ بشهادة بعضـهم ؟!.
ــ الشعر أيها الإخوان كلام كأى كلام , حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .. غير أنه كلام باق سائر , فذلك فضله على سائر الكلام . فمن كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم , أو إذا مدح أكثر الكذب فمثل هذا لا ترد شهادته . هذا حكم عام ولسوف أشرح لكم أحوالهم تفصيلا فيما بعد..
ــ أكرمك الله أيها القاضى وزادك علما ومعرفة , والله ما أحوجنا لمعرفة مثل هذه الأمور والتفقه فيها ..
ــ لى مطلب أخير ..
ــ لك الأمر وعلينا الطاعة أيها القاضى القرشى ..
ــ عليكم أن تختاروا واحدا من بينكم , يتحدث باسمكم فى مجلس القضاء ………

@ أرسى الشافعى نظاما جديدا فى القضاء لم يعهده الناس من قبل , يجرى مجالس القضاء يومان كل أسبوع , فى موضع بارز علانية على أعين القوم لا يجعل دونه ودونهم حجابا أو ساترا . فى هذا المجلس الذى يتصدره الشافعى يجلس إلى جواره كاتبه زيد , أمامه سجل يدون فيه الدعاوى والأحكام , ويسجل فى صفحاته شهادة الشهود . وعلى بابه يقف قائد شرطة القضاء , الموكل بتنفيذ أحكامه , ومن حوله يتحلقه الرجال السبعه الذين هم أهل الصلاح فى الجماعه , حتى تكون صدق شهادة الشهود مسؤوليتهم وأمانتهم . أما جهة الأمام جعلها لأصحاب المظالم والشكايات , يعرض كل واحد مسألته فى مواجهة خصمه . وبعد أن ينتهى من سماع كل القضايا ويناقش الخصوم والشهود , يصدر أحكامه فى نهاية الجلسة مرة واحده ..
بهذا النظام العادل فى نظر القضايا , الذى ساوى فيه بين الناس جميعهم لا تميز عنده لأحد على أحد , صار للشافعى تلك الشعبية الكبيرة بين أهالى نجران , وتمكن من غرس محبته فى قلوبهم وأفئدتهم , فصار لا يلقى منهم جميعا إلا كل التوقير والإحترام . وضع نصب عينيه مقولة الفاروق عمر رضى الله عنـه : “ إن الضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ الحق له , والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه “ . كان يتذكر دائما ما سبق أن قاله الإمام على كرم الله وجهه فى وصيته لمن يتولى القضاء : “ إن على القاضى ألا يكتفى بأدنى فهم إلى أقصاه . وألا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا عرفه . وأن يكون صارما عند اتضاح الحكم , وألا يزدهيه الإطراء , أو يستميله الإغراء “ ..

@ كان أكثر القوم قربا من الشافعى وأدناهم منه مجلسا هو كاتبه زيد بن عيسى . لذلك كان أكثرهم غبطة وسعادة باعتلائه كرسى القضاء , فهو أعرفهم بأحواله وأكثرهم إدراكا لسعة علمه ودقة فهمه , من كثرة ما يرى ويدون من دعاوى وأحكام , مقارنا فى هذا بين نهجه وأسلوبه فى نظر الدعاوى , وبين من سبقوه من القضاة الذين عمل تحت إمرتهم ..
حدث ذات مرة أثناء تناوله عشاءه مع امرأته سعده , وبينهما ابنتهما بدر التى تبلغ من العمر ستة عشر عاما . إذ لمح امرأته بركن عينه وهى تختلس نظرة غامضة إليه تخفى وراءها تساؤلا . هز رأسه باسما ثم سألها دون أن ينظر إليها وهو يلوك لقمة الطعام فى فمه على مهل .......
ــ مالك اليوم يا سعده , ألمح فى عينيك كلاما , وعلى وجهك تساؤلا كأنك تريدين أن تقولى شيئا ؟!.
ردت قائلة وهى تحاول أن تتشاغل بالطعام كأن الأمر لا يعنيها ......
ــ أبدا يا زيد لا شئ , إنما يتهيأ لك ..
قال باسما فى سخرية .............
ــ يتهيأ لى !. ربما أنت أدرى بحالك !. نبرة صوتك تدل على غير ذلك ؟!.
ــ إيه , أوحى تدعيه , أم فراسه يا رجل ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك , إنما أنا أعرف الناس بأحوالك . من ذا الذى يعرف دخيلة نفسك مثلى يا أم بدر ؟!.
ــ قلت لك لا شئ .. غير أنى ...
قاطعها على عجل مشجعا ..............
ــ هيـه أرأيت !. غير أنك ماذا ؟!.
ــ غير أنى , فى عجب من أمرك أيها الرجل !.
ــ من أمرى أنا !. ألم أقل لك إن فى الأمر شئ !. هيه ما هو هذا الذى أنت فى عجب منه يا أم بدر , هلا أفصحت بالله عليك ؟!.
أجابت مترددة وهى تقدم كلمة وتؤخر أخرى .............
ــ ألاحظ هذه الأيام . يعنى .. تغيرا فى أحوالك .. لا أدرى له سببا ..
ــ ما زلت لا أفهم بعد . كيف ذلك يا امرأه ؟!.
ــ يعنى . أراك تدخل وتخرج علينا هذه الأيام , مبتهجا , مسرورا , سعيدا على غير عادتك ..
ــ هيه ثم ماذا ؟!.
ــهذا كل ما فى الأمر ..
ــ أى أمر تقصدين , لم أفهم بعد ؟!.
ــيعنى !. كنت أود معرفة سر هذه السعادة التى طرأت عليك مرة واحدة وملأت عليك حياتك ..
ثم أردفت فى لهجة ساخرة ........
ــ ليتنانسعد معك نحن كذلك ؟!.
أجابها وهو يضحك مازحا .............
ــ ومن قبل يا امرأه , كيف كنت أبدو لكما !. متجهما عابسا كئيبا مثلا ؟!.
قال ذلك وهو ينظر لابنته متمما ............
ــ أسمعت يا بدر . أسمعت يا ابنتى ما تقول أمك, أم أنك أنت الأخرى ترين مثلها تغيرا فى أحوال أبيك كاتب القضاء ؟!.
ــ معذرة يا أبى , إن أردت الصدق منى , أمى لم تقل إلا الحقيقه . أجل الحقيقة التى لا مراء فيها ..
ــ حتى أنت يا بدر , تأبين إلا أن تكونى فى صف أمك دائما ؟!.
إنبرت امرأته معقبة ..........
ــ لا تظلمها يا رجل , والله ما شهدت إلا بالحق , أجل إنك خالفت ما عودتنا عليها زمنا . كم من مرات كثيرة تدخل علينا عابسا مهموما كأنك تحمل على كتفيك هموم الدنيا بأسرها , أنسيت أم أنك بحاجة كى أذكرك ؟.
عاود سؤال امرأته دون أن يرد عليها وهو لا يزال يغالب الضحك ......
ــ وهل يا ترى أحزنك هذا التغير يا امرأه . أتحبين أن أعود لما كنت عليه عابسا متجهما كماتزعمين أنت وابنتك , أم ماذا تقصدين ؟.
سارعت بالرد معقبة .............
ــ لا والله يا زيد لا أقصد شيئا من هذا , أبدا ليتك تظل هكذا . إنما أردت أن أسأل عن شئ أثار انتباهى فى الآونة الأخيره ..
قال مداعبا ...........
ــ مالك تؤكدين على قولك .. فى الآونة الأخيره . إيه يا امرأه ماذا دهاك , أأكون قد تزوجت بأخرى مثلا ؟.
ــ يا رجل ألا تكف عن مزاحك هذا ؟. هلا أجبتنى حقيقة عن سبب هذا التغير فى أحوالك , وإقبالك على العمل فى همة ودأب هذه الأيام , الأمر الذى لم نعهده فيك من قبل ؟.
إكتسى وجهه ملامح الجد والإهتمام وهو يمسح فمه ويديه من بقايا الطعام قائـلا ...........
ــ أجل صدقت والله يا سعده , أنت وابنتك ما قلتما إلا الحقيقه . إنما كنت أمازحكما , لم لا أكون سعيدا بل أسعد الناس فى نجران , بعد أن هبطت علينا من السماء , وبعد طول صبر , نعمة عظيمة ودرة غاليه ..
تلفتت حواليها قائلة .............
ــ نعمه ؟!. أين هى هذه النعمة التى تزعم إنها هبطت علينا من السماء , إننى لا أرى شيئا ؟!.
ــ إنها النعمة التى بسببها إنزاحت عنى أخيرا هموم جمه . آه كم حملتها سنوات على كتفى هاتين ..
قاطعته امرأته قائلة ...........
ــ عن أية هموم تتحدث يا أبا بدر , أثرت مخاوفنا والله . أنت تتكلم اليوم بألغاز لا أفهمها ..
انبرت ابنته متسائلة فى لهفة هى الأخرى .......
ــنعم يا أبت ,أثرت فضولنا , ماذا تقصد بكلامك هذا ؟.
ــ سأشرح لكما الأمر . إننى أقصد بكلامى قاضى نجران , ذلك الرجل الورع التقى النقى الحليم الذى شرفت به بلادنا ..
ــ من !. محمد بن إدريس الشافعى ؟. حقا إن سيرته الطيبة على كل لسان , لا حديث للناس هذه الأيام إلا عن أحكامه العادله . إنه حقا كما قلت نعمة من نعم السماء على بلادنا كلها ..
ــ يا أم بدر , لقد عملت تحت إمرة قضاة ثلاثة قبله , لم أر من بينهم مثل هذا الرجل المكى فى تقواه وورعه . إنه ليس قاضيا حكيما مقسطا فحسب , بل إنه قوى فى الفضيلة والعفة أيضا ..
قالت بدر فى فضول ............
ــ شوقتنا يا أبت لسماع المزيد عنه ..
ــ أجل يا ابنتى إنه رجل متواضع فى غير ضعف , لا يستكبر عن مشاورة من يجدهم معه من أهل العلم , ولا يتعجل فى إصدار أحكامه بل يتأنى فيها . وغير هذا وذاك , وقور مهيب , لا يخشى فى الله لومة لائم ..
تساءلت سعده ...........
ــ وكيف حاله فى مجلس القضاء يا زيد ؟.
ــ آه .. إنه فى مجلس القضاء مثال الحسم والسكينة والوقار , حسن النطق والصمت . خير من سمعته يتكلم العربيه , كأنها لم تخلق إلا ليجرى بها لسانه . نظره فراسة وتوسم , وإطراقه تدبر وتفهم , حتى ضحكه لا يزيد فيه عن التبسم , أسوة بسيد ولد آدم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ هيه وماذا أيضا يا أبت ؟.
ــ لا يسمع شكاية من أحد إلا فى مواجهة خصمه , متيقظ تماما لحيل الخصوم وألاعيبهم . ومع شدة فراسته وطول باعه فى علوم الفراسه , إلا أنه لا يحكم بفراسته أبدا مع تيقنه من صدقها . لما سألته فى ذلك فى إحدى المرات رد على قائلا ...................................
ــ يا أبا بدر الله تعالى تولى السرائر وعاقب عليها , ولم يجعل لأحد من خلقه الحكم إلا على العلانيه . على هذا فلا يصح لقاض أن يحكم بالفراسة , مهما كان بارعا فيها ومتمكنا من علومها , حتى لا تتعطل الطرق الشرعية فى الإثبات من البينة والإيجاب ..
إستأنف زيد قائلا ..............
ــ إننى أنظر إليه يا أم بدر وهو فى مجلس القضاء , فأراه كأنه يعيد أمام ناظرى إلى بلادنا من جديد , أمجاد الصحابى الجليل معاذ بن جبل عندما تولى قضاء جند اليمن على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ; وكما تناقلها أجدادنا وحدثونا عنها ..
ــ رجل يحمل كل هذه الخصال , يجب أن يتولى قضاء صنعاء . ليس هذا فحسب بل يجب أن يكون قاضى قضاة بغداد ..
ــ صدقت والله يا سعده . هيه ألا زلت تعجبين بعد ذلك من مظاهر السعادة التى غمرتنى . إننى والله ما شعرت بسعادة ولا صفاء ذهن, كتلك التى أشعر بها هذه الأيام . قد تعجبين إذا قلت لك أننى أشعر أحيانا أنى أكثر سعادة من هؤلاء المظلومين , الذين ترد إليهم حقوقهم المسلوبة منهم لحظة سماعهم بحكم القاضى الشافعى . كم دوت من قبل صرخاتهم فى جنبات قاعة القضاء . نفس القاعة التى ردت إليهم حقوقهم فيها ولامن مجيب . لهذا السبب كنت تريننى من قبل كئيبا عابسا , مما أشاهده كل يوم من ظلم وعسف وجور ..
سكت برهة ثم أشار لامرأته قائلا ...........
ــ أتذكرين حكاية أم شريك الثقفيه ؟.

يتبع إن شاء الله .............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 12h11
رد مع اقتباس