@ بدا سعيدا وإلى جواره امرأته حميده وهما ينطلقان براحلتيهما جنوبا إلى أرض اليمن , فى الوقت الذى كان فكره منطلق فى رحلة موازية عبر التاريخ لتلك البلاد اصطلح القدماء على تسميتها البلاد العربية السعيده , عرفت تقدما حضاريا كبيرا قبل ألفى عام من ميلاد المسيح عليه السلام , يضعها فى مصاف الحضارات الأولى الضاربة جذورها فى أعماق التاريخ , ساعد على ذلك مناخها المعتدل وكثرة أمطارها وخصوبة وديانها وسهولها , مما دفع الى زيادة الهجرات إليها من الشمال والغرب وازدهار الزراعات في أراضيها .. واليمنيون القدامى كانوا يزرعون السفوح بعد تحويلها إلى مدرجات ويحفرون الآبار والصهاريجفى الصخر ويقيمون السدود على مجارى سيول الأمطار , وحتى اليوم لا تزال بقايا المئات من هذه السدود قائمة أشهرها سد مأرب العظيم .. إلى جانب ذلك كانت تلك البلاد سوقا تجارية كبيره وفيها صناعات كثيره ومنا ما اشتهرت به مثل السيوف اليمانيه والرماح الخطيه وصياغة الحلى مع الأحجار الكريمه والنسيج واستخراج الذهب وغيره من المعادن ..
تتابعت على مخيلته صورة هذه البلاد بما تحويه من معابد قديمه وقصور أثري ذات طوابق وقلاع وحصون وأسوار أقيمت حول المدن , كم سمع كثيرا من جده عبيد الله الأزدى وهو يحكى له تاريخ بلاد آبائه وأجداده الأزد وموطنهم الأول قبل أن يتفرقوا فى البلاد , عرف منه أن اليمنيين رغم عروبتهم إلا أن عاداتهم تختلف كثيرا عن تلك التى تربى الشافعى ونشأ عليها فى مكة والمدينه , ذلك لاختلاف المناخ والبيئة فضلا عن قرب اليمن من أرض الحبشه , لم ينس أبدا وهو فى سياحته الفكريه أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عن اليمن ومدحه لأهلها .... لم ينس أنه "صلى الله عليه وسلم" وصفهم بأنهم أرق أفئدة وأضعف قلوبا وأن الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانيه ..
أخيرا إنتبه بعد عودته من رحلة التاريخ التى مرت على خاطره مر السحاب فى لحظات قليلة خاطفه , وهو يتحسس فى جيبه الكتاب الذى أعطاه له صاحبه المصرى من أمير المدينه لنظيره فى اليمن , ها هى الفرصة قد جاءت إليه لللعمل بالقضاء بعد أن جمع ووعى علوما جمه من شيوخ الحرمين تؤهله لتولى مقاليد هذا العمل الجليل , صارت لديه مقدرة على استنباط الأحكام والفتاوى والفصل فى المظالم على قاعدة أصيلة من أحكام الكتاب والسنه , فرصة أخرى جاءته فى تلك الرحلة ليمارس هوايته المحببة إليه ويشبع نهمته فى البحث عن منابع العلم وينابيع المعرفه , ويتعرف على علمائهم وفقهائهم وينهل من علوم أخرى برعوا فيها بخلاف علوم الدين والشريعه , من ذلك علوم الطب والفراسة والفلك ........
يتبع.. إن شاء الله ............................
@ خرج من داره ميمما صوب قصر الخلد لمقابلة الرشيد , وهو يحلق مسرورا فى آفاق من السعادة وسموات النشوى فخورا بما يحمله فى حافظته من أنباء , أخيرا تمكن الفضل بن الربيع من التقاط الخيط الأول الذى يوصله لهدفه ومراده , كم كان يطمح أن يكون أقرب رجل إلى قلب الرشيد ومجلسه وصاحب الوزارة الأولى , لم يمنعه عن ذلك إلا عقبة كؤود حالت بينه وبين طموحاته وتحقيق آماله , البرامكه القادمين إلى بلاده من فارس وعلى رأسهم الأخوين الكبيرين الفضل وجعفر وهما أقرب المقربين منهم إلى قلب الرشيد وعقله , كان يكرههم كراهية التحريم بل أشد , وكان ثمة صراع خفى يدور بين الفريقين , كل واحد يتربص بالآخر منتظرا أن تواتيه الفرصة التى ينقض فيها بلا رحمة على غريمه انقضاض الصقر على فريسته حتى تخلو له الساحة فى بلاط الرشيد ..
وفى لقائه معه فى رحلة الحج قبل ثلاثة أعوام , روى الفضل لصديقه الشافعى قصته مع البرامكه وهو يبثه همومه ينفث عما يضيق به صدره ولا ينطلق لسانه , لم يكن له أن ينطق بمثل هذا الكلام أو يبث شكواه لأى مخلوق فى العراق مهما تكن ثقته فيه أو قرابته منه , ما أهون قطع الرقاب فى تلك البلاد لأدنى شبهة , وما أكثر الرؤوس التى أطاح بها سيف مسرور الفرغانى سياف الرشيد , قال للشافعى صديق الصبا فى ذلك اللقاء .............
ــ أنت لا تعلم يا صاحبى كم بلغت سيطرتهم على زمام الأمور فى البلاد وعلى رأسهم الفضل وجعفر ولدى يحي , أموال الجباية وخيراتها كلها صارت ملك أيديهم يتحكمون فيها وفق أهوائهم ومشيئتهم , الرشيد نفسه لا يستطيع أن يتوصل إلى اليسير منها إلا بإذنهم , وفى مرات كثيره لا يسمحون له حتى بهذا اليسير ..
تملكه العجب وهو يسأل صاحبه ........
ــ لهذه الدرجة وصل نفوذهم ؟. عجيب والله ..
ــ وأكثر من هذا , نفوذهم السياسى طغى على نفوذ الخليفه , مرات كثيره كنت أتصور وأنا فى حضرة الرشيد أنهم هم الحكام الحقيقيون والرشيد مجرد واجهة فحسب , لكنهم على كل حال يبدو أنهم لم يتعلموا من دروس من سبقوهم ولم يعوا أحداث الماضى القريب , غاب عنهم ما فعله أبو العباس السفاح الخليفة الأول مع الوزير الخلال ومن بعده الخليفة المنصور مع وزيره أبى أيوب الموريانى والمهدى مع يعقوب بن داود , حتما سيأتى دورهم ليذوقوا من كاس الصاب والردى .........................................
حث الخطى نحو قصر الخلد ومعه طرف الخيط الذى يحقق به بغيته , تمكن بفضل دأبه وجهود رجاله أن يتحصل على معلومات لها خطرها وأن يعلم أمورا خفيت على غريمه الفضل بن يحى , فى شأن يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثنا فى شأنه قبل ذلك وكيف أن الرشيد أمر له بقصر يعيش فيه وأهله معززا مكرما بعد أن وعد بالتخلى عن أطماعه فى الحكم , وأمر الفضل بن يحى البرمكى أن يقوم على شئونه وأن يضعه تحت رقابة دقيقة لا يغفل فيها عنه .. إلا أن غريمه الفضل بن الربيع تمكن دس بعض رجاله فى قصر الطالبى من العاملين فيه ليكونوا عيونا له , أملا فى أن يتحصل على أسرار تحقق له ما يريد .. ولدى دخوله على الرشيد قال بعد أن حيا وسلم .............
ــ مولاى أمير المؤمنين , أحمل معى انباء أعتقد أنها تهمكم ..
ــ تكلم يا أبا العباس , هات ما عندك ..
ــ تعلم يا مولاى أنى عينك الساهره التى لا تغفل ولا تنام و .....
قاطعه الرشيد وقد بدا ضجرا مهموما غير مكترث به أو بما سيقوله , كان يحمل من الهموم ما تنوء به الجبال .........
ــ مالك يا ابن الربيع , تكلم ولا داعى لأن تسترسل فى مقدمات أعرفها ..
ــ علمت يقينا من مصادرى معلومات مهمه عن يحي بن عبد الله الطالبى , وتأكدت بنفسى قبل أيام من صحتها ..
إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس, .....
ــ إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس .....
ــ تقول من ؟. الطالبى , ألم نفرغ منه ومن خصومته لنا بعد أن أعطيناه الأمان وأعلن ولاءه , ونسى حلم الخلافة والحكم ؟.
ــ ليس بعد يا أمير المؤمنين , ليس بعد , لا زال الحلم يراوده ولا زالت أطماعه فى الخلافة قائمه , إنه ابن آبائه وأجداده بنو طالب ..
ــ وماذا يملك من وسيلة أو حيلة لتحقيق ذلك وهو بين أيدينا وتحت عيوننا , إن رجالنا يرقبونه لا يغفلون عنه ساعة واحده , أليس كذلك ؟.
ــ معذرة يا يا مولاى , إضطررت لأن أكلف بعضا من أخلص رجالى يراقبون داره من الداخل والخارج لما علمت بتراخى أولئك الحراس الذين وضعهم البرمكى , وشددت عليهم أن يرقبوا منافذ داره طوال ساعات الليل والنهار لايغفلون عنها طرفة عين , إستمروا فى عملهم وظلوا على تلك الحال منذ كلفتهم إلى أن جاءونى بالنبأ اليقين ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ علمت أنه لا يكف عن عقد لقاءات فى داره فى جوف الليل مع كثير من أنصاره وشيعته , بعضهم غريب عن البلاد ..
ــ أواثق مما تقول ؟.
ــ كل الثقة يا أمير المؤمنين ..
ــ هل لديك دليل على ما تدعيه ؟.
إرتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة وهو يقول
ــ أجل يا مولاى , وهل كنت أجرؤ على أن آتيك بدونه , بالأمس فقط وقع فى يدى الدليل على صدق ما أقول , لقد دأب منذ بضعة أشهر على استقبال أشخاص ملثمين , علمت بعد متابعتهم وتعقبهم من عيوننا أنهم من البربر الذين يسكنون بلاد المغرب , يقدمون إليه برسائل من أمير بلادهم ..
ــ آه .. من أخيه إدريس بن عبد الله , الذى تمكن من الفرار منذ سنوات وأسس دولة هناك باسمه , لكن لم تقل لى عن الدليل الذى تزعم أنه معك ..
مد يده فى جيبه وأخرج رسالة مطويه
ــ تفضل يا مولاى ..
ــ ما هذا , إنها رساله ..
ــ أجل , بالأمس قام رجالى بترقب قدوم بعض أولئك الغرباء , وأمسكوا بهم قبل أن يدخلوا دار الطالبى , قاموا بتفتيش ملابسهم حتى عثروا أخيرا على هذه الرساله ..
أخذت عيناه تمر على سطورها وعلامات الغضب والحنق ترسم خطوطها شيئا فشيئا على وجهه , مزجت بقدر غير قليل من الألم والحزن , تأكد له صدق ما جاء به وزيره وأن غريمه ضالع فى التآمر عليه , أكثر حزنه وأسفه كان من وزيره الأول الفضل بن يحي البرمكى أكثر منه من خيانة يحي الطالبى ..
طوى الرسالة وأخذ يحدث نفسه والأسى يكسو وجهه ......... كان الأولى أن يأتينى البرمكى بهذ الرساله , وأن يعلمنى بكل ما يحاك من فتن ودسائس فى مهدها , أجل , هو الذى يتولى أمره ويقوم على خدمته ومراقبته , إنه كان أقرب رجالى المخلصين إليه , كيف سمحت له نفسه أن ينسى ما أمرته به وأكدت عليه , كيف حدثت كل هذه المؤامرات والفتن فى غفلة منه , ماذا كان ينتظر ؟......
أخذ الفضل يرمقه بعينه وملامح وجهه تكاد تفضح مشاعر السعادة والغبطة التى غمرت وجدانه , وقد أدرك بدهائه ما يدور فى رأس الرشيد وما يحدث به نفسه .. أخيرا تمكن من وضع بذرة الكراهيه فى قلبه على أحد أقطاب البرامكه وأن يدق أول مسمار فى نعوشهم , لم يبق إلا أن يقتفى أثر القطب الثانى , الفتى المدلل جعفر بن يحي وأن ينقب فى حياته عله يعثر على بغيته .. لقد تمكن من قلب "العباسه" أخت الرشيد وأحب أهله إليه , لم يجد الرشيد حيلة وهو لا يقدر على مفارقة الإثنين , إلا أن يزوجها له زواجا صوريا ليحل له النظر إلى وجهها فى مجلسه , كان شرفا كبيرا أن يظفر مولى من موالى الفرس مهما تكن منزلته أو مكانته , بالزواج من هاشمية من الأشراف ..
مرت لحظات ثقيلة من الصمت والترقب كان كل واحد منهما يحدث فيها نفسه بما تختلج به من هواجس وظنون , بعدها نظر الرشيد لوزيره فى وجوم متسائلا .....
ــ ماذا فعلت مع أولئك البربر ؟.
ــ تحفظت عليهم فى السجون فى انتظار ما تأمر به , إن شئت أجهزت عليهم فى التو ..
ــ لا , لا , ليس بعد ..
إستدرك متسائلا ..........
ــ هل علم الطالبى بما حدث ؟.
ــ أبدا , لم يعلم بشئ حتى اللحظه , أخفينا عنه خبر القبض عليهم وجعلناه يطمئن إلى أن كل شئ يجرى وفق هواه ..
ــ حسن , نعم ما فعلت , دعوا الأمور تمضى كأن شيئا لم يكن , لكن ضاعف الحراسة على قصره , ولا تسمحوا لأحد أن يقترب من أبوابه , حتى إذا أصبح الغد خذ معك قائد الشرطه واقبض عليه وعلى كل من فى الدار من أهله وأشياعه , ضعوهم جميعا فى السجون , أما الطالبى أحضره بنفسك إلى هنا .........
@ لم تكد تطلع شمس اليوم التالى , إلا وفرقة من الحراس على رأسهم قائد الشرطه , يحضرون يحي الطالبى مقبوضا عليه إلى حيث ديوان هارون الرشيد , وقف أمامه شامخا صلبا رغم القيود والأغلال التى أحاطت بمعصميه وقدميه , خاطبه فى كبرياء وأنفة ............
ــ لم أمرت بحبسى وتعذيبى يا أمير المؤمنين , أنسيت أننا أهل بيت واحد , بيننا قرابة ونسبا ولسنا بترك ولا ديلم , أذكرك الله وقرابتنا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
قاطعه شامتا ساخرا أمير المدينه بكار الزبيرى من ولد عبد الله بن الزبير , وهو الذى يكن كراهية شديدة لآل أبى طالب ...............
ــ دعك من هذا التخابث يا هذا ... لا يغرنك يا مولاى كلام هذا المتمرد الدعى بعد أن شق عصا الطاعة والولاء وأفسد علينا مدينتنا بعصيانه وتمرده ..
إحتد وهو يلوح فى وجهه بيمناه مبادلا سخريته بأكثر منها ونبرات صوته ترتفع شيئا فشيئا ..........
ــ يا هذا , تقول أفسدت عليكم مدينتكم !. من أنتم عافاك الله ؟. إنما بآبائى وآبائه (وأشار إلى الرشيد) هاجر جدك عبد الله بن الزبير إلى المدينه , الناس نحن وأنتم يا أمير المؤمنين , والله ما يسعى بنا إليك هذا المنافق نصيحة لك , والله ما أراد إلا مزيدا من الفرقة بيننا ..
كاد الرشيد يرق فلبه وتلين نفسه لكلماته وهو يرقبه صامتا , بينما فى داخله تدور رحى صراع بين معتقداته التى ورثها عن آبائه وأجداده بنو العباس وأنهم الأحق بالخلافه , وبين النخوة القرشية الهاشميه التى استطاع غريمه أن يحركها واحد من أبناء عمومته فى نفسه وقلبه , بكلماته التى كانت رمية رام كادت تصيب هدفها , لكنه سرعان ما ثاب إلى رشيده وحسم الأمر بوجه متجهم جامد القسمات , وعادت النظرة النارية الغاضبة إلى عينيه وهو يشير بيده إلى الفضل بن يحى البرمكى , أن يعيده حراسه إلى محبسه ولسان حاله يقول ..... يا ترى ما أنت فاعل هذه المرة يا ابن برمك , لم يشأ أن يعاتبه أو يلومه على تقصيره مؤجلا ذلك لحاجة أسرها فى نفسه ..
وعلى الجانب الآخر من القاعة وقف الفضل بن الربيع ينظر إليه من طرف خفى , مجاهدا فى إخفاء مشاعر السرور والنشوة التى ملكت جوانحه , كل الأمور تمضى وفق هواه وعلى مراد نفسه , أدرك هذا اللئيم الداهية ابن آبائه ما يرمى إليه الرشيد من تكليفه غريمه البرمكى أمر يحى الطالبى , كأنه يعطيه الطعم الذى سيوقعه فى الفخ الذي يصطاده به .........................
إنتهى الفصل الثانى من السيره ونبدأ بعد ذلك فى رواية أحداث الفصل الثالث
إن شاء الله
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h55
|