عرض مشاركة واحدة
  #47  
قديم 17/12/2008, 10h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ لم ينتظر الشافعى , قام يسابق الزمن قاصدا دار أمير مكه , وكان يمت له بصلة قرابة من جهة أبيه .. قص عليه حكايته ثم قال فى ختام كلامه ....
ــ وأخيرا فرغت فى الأيام الماضية من قراءة موطأ الإمام مالك ..
ــ عظيم .. وماذا أنت فاعل بعدما فرغت منه ؟..
ــ عقدت العزم إن شاء الله على السفر إلى المدينه , وألتقى بإمامها لأتزود من علومه وعلوم أهلها ..
ــ لكن !. رحلة كهذه يا ابن أخى فيها مشقة كبيرة عليك .. وأنت كما أراك لا زلت فى مقتبل العمر ..
ــ سيدى الأمير .. من فاته التعليم وقت شبابه .. فكبر عليه أربعا لوفاته ..
تبسم قائلا .....
ــ أصبت الرميه .. على كل حال .. هل بوسعى أن أقدم لك أى معونه ؟. مالا مثلا .. لا تستحى منى .. أطلب ما يكفيك .. إن لك حق القرابه والرحم .. وأنت طالب علم .. أحق الناس بالعون والتأييد ..
ــ أشكرك يا سيدى على هذا الكرم والفضل الكبير .. أنا لم آت إليك طالبا للمال .. ما أفلح فى العلم إلا من طلبه بالقله .. كنت أبحث عن القرطاس فيعز على امتلاكه . إنما سعيت إليك لأمر آخر ..
ــ مجاب إن شاء الله ..
ــ أريد منك كتابا لشيخ المدينه .. مالك بن أنس .. أتقوى به على لقائه ..
هز رأسه أسى وأسفا وقال .......
ــ إيه .. طلبت منى ما لا أستطيع فعله .. إنى أتهيب من الكتابة له ..
نظر إليه الشافعى متعجبا فعاجله بقوله .....
ــ يا ولدى أنت لم تر الشيخ .. لكنى سأفعل شيئا آخر .. سأعطيك كتابا لأمير المدينه .. إسحق بن سليمان الهاشمى .. أشرح له المسئله وأوصيه أن يصحبك بنفسه للقاء الشيخ ..
ــ ولم أشق عليه .. يكفى أن آخذ كتابا منه ..
ــ قلت لك يا ابن إدريس إنك لم تر إمام المدينه .. وعندما تراه بإذن الله .. ستفهم كل شئ وتعرف صدق كلامى ..
قال العبارة الأخيره وهو بمسك بريشته ويضعها فى المحبره مسطرا فى عناية كتابا لأمير المدينه .. طواه ووضع الخاتم عليه ثم أعطاه للشافعى قائلا له وهو يودعه .....
ــ فى سلام الله يا ابن أخى .. رحلة مباره ومقاما طيبا فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم " .. ليهنك العلم يا ولدى ..
@ خرج من دار الإمارة والرسالة لا تزال بيده .. راح يدب فى طرقات مكة لا يلوى على شئ .. بعد أن عاودته الهموم وألقت به فى دوامات الفكر .. ظل يحدث نفسه ... ما العمل وأنا لست صاحب حرفة أتكسب من ورائها أو أوفر المال .. ماذا عن رحلة المدينة وما يلزمها من نفقات لشراء دابتين وما أتزود به من قوت وملبس .. وما سوف أحتاجه فى المدينة لكراء دار أقيم فيها مع أمى ..
كانت نهمته وحرفته طلب العلم وتحصيله .. وهى مهنة لا تجلب درهما ولا دينارا .. ويدرك أكثر من غيره ما تعانيه أمه من عسر الحال وضيق المعيشة وإن تظاهرت بخلاف ذلك .. لم يشأ لأن يرهقها من أمرها عسرا أو يشق عليها أو يحملها ما لا تطيق .. لكنه لا يجد حيلة فى مقابل سلطان العلم الذى ملك عليه أمره واستولى على جماع فكره .. ولما انتهى فى المساء إلى داره .. دخل على أمه ومرآة وجهه انطبع عليها بغير حول منه ما كان يكابده فى باطنه من هموم ..
رمقته بعينها لحظة ولوجه من الباب وفى الحال أدركت بفراستها وقرأت مكنون فؤاده وما أهمه وفهمت سر معاناته , قبل أن يسارع بإخفائها وراء ابتسامة باهتة حاول أن يرسمها على شفتيه .. تشاغلت عنه متظاهرة أنها لم تره .. حتى إذا جلس والتقط أنفاسه عاقدا يديه من خلف رأسه .. نظرت إليه متسائلة .....
ــ إيه يا ولدى .. أين كنت .. لم تأخرت هكذا على غير عادتك ؟.
لم تنتظر إجابته وأشارت إلى يده قائلة ....
ــ آه .. يبدو أنك ظفرت ببغيتك ..
ــ تلك الرساله ؟.. إنها توصية من الأمير إلى أمير المدينه ..
ــ الحمد لله .. كل الأمور إذن تجرى وفق مرادك ..
وقبل أن يرد معفبا , إقتربت منه وعلى شفتيها بسمة حانية ودوده بينما تخرج من طيات ردائها صرة , ناولتها له قائلة ...
ــ أمسك هذه يا ولدى ..
تناولها متعجبا .....
ــ ماذا يا أماه , نقود ؟!..
ــ أجل يا ولدى .. عشرون دينارا كامله ..
ــ أجل يا أمى .. لكن كيف .. من أين ؟. أنا أكثر من يعلم أنه لا يتوفر لك درهم واحد تدخرينه ؟!..
حاولت تجاهل سؤاله وهى تبحث عن إجابات مبهمة دون جدوى .. لم يتمكن لها أن تمضى فى مراوغته .. وجدت منه إصرارا على معرفة الحقيقة ....
ــ إسمع يا ولدى .. سأخبرك بكل شئ ..
أرسل إليها نظرة استفسار ملؤها الشفقة , قالت على إثرها ....
ــ يا ولدى .. رحلة المدينه يعوزها دابتين وزادا للسفر .. لهذا رهنت الدار مقابل ستة عشر دينارا , وكان معى أربعه أتممت بها العشرين ..
هم بأن يعقب مستنكرا وفد تغير وجهه .. غير أنها أسكتته بإشارة قاطعة بيدها وهى تقول .....
ــ أصلحك الله يا ابن إدريس .. هذه الدار لا يقيم بها أحد سوانا .. ما الداعى لتركها مغلقة مدة غيابنا .. وفى المدينة سوف نحل فى دار عمك يعقوب , أنت لا تعرفه , آخر مرة زارنا كنت صغيرا فى المهد ..
ــ يا أم .. وبعد رجوعنا من المدينة عن شاء الله , كيف يكون الحال ونحن بلا دار نأوى إليها ..
ــ لا عليك أنت من ذلك .. دع هذا لحينه .. لعل الله يعوضنا دارا خيرا منها .. هيا يا ولدى خذ المال ودبر شئونك .. هيا .. لا تكن عنيدا صلب الرأس مثل أبيك ..
أكب على يد أمه يقبلها وعيناه ترتعشان بالدمع , بينما اخذت تمسح على رأسه بحنان الأم الطيبة الصامده , وهى تضمه باكية إلى صدرها .......

@ فى نفس العام الذى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى المدينه , إعتلى هارون الرشيد كرسى الخلافة بعد وفاة أخيه موسى الهادى وهو فى ريعان الشباب , فى ظروف غامضة تضاربت فيها الأقاويل واختلفت الآراء وتباينت الروايات .. كان الخليفة الراحل على وشك خلع أخيه هارون من ولاية العهد وأخذ البيعة لولده جعفر وليا للعهد وهو دون السابعه .. بينما كانت أمه الخيزران تتمنى تقديم أخيه هارون عليه فى الخلافة فى حياة أبيهما المهدى كما أسلفنا .. لكن جرت المقادير على غير ما أرادا , لتكون بداية الجفوة والخلاف بين الأم وولدها , والتى كانت تزداد يوما عن يوم , حتى انتهت إلى القطيعة الكامله بعدما وصل الجفاء إلى ذروته , وحدث ما كان متوقعا حدوثه بين يوم وآخر , وكانت المواجهه والصدام الأكبر بين الأم وولدها الخليفة موسى الهادى فى لقاء عاصف , حيث بلغ به الغضب مداه من تدخلها فى شئون الحكم , وجاءته الفرصة يوما ليصب عليها جام غضبه , وما كان يضمره من كراهية لها , لما جاءته لتكلمه فى حاجة ضمنتها لأحد أتباعها , إنفجر بركان عضبه وهو يقول لها .....
ــ ألم يأن لك أن تكفى عن هذه الأمور .. لقد صبرت عليك كثيرا .. إنتظرت أن تغيرى من مسلكك هذا .. لن أسمح لك بعد اليوم بالتدخل فى شئون الحكم .. وأن تفعلى ما كنت تفعلينه فى الماضى أيام أبى .. مالك أنت وأمور البلاد .. سبق وأرسلت لك رسالة أحذرك فيها .. أن تخرجى من خفر الكفاية إلى بذاءة التبذل .. ليس من قدر النساء الإعتراض فى أمور الملك ...
أخذ صوته يعلو ويزداد حدة وهو يصرخ فيها ....
ــ ما هذه المواكب التى أراها تغدو وتروح إلى بابك !. أليس لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك .. أحذرك من فتح بابك بعد اليوم لمسلم أو ذمى .. والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحدا من قوادى أو خاصة رجالى لأضربن عنقه ولأقبضن ماله .. متى أفلح خليفة له أم !!..
كان لقاء عنيفا فاصلا إستمعت فيه الخيزران الأم إلى ما لم يطرق سمعها من قبل .. وانتشر أمر هذا اللقاء بين الناس وكان قرينة كبرى ومدعاة لأن تشير أصابع الشك والإتهام إلى الأم لما مات ولدها الخليفة فجأة وهو فى السادسة والعشرين من عمره , قيل أنها دست له السم فى طعامه عن طريق واحدة من جواريه , لكن الحقيقة التى لم يكن على علم بها إلا القليل من خاصته لقلة شكايته , أنه كان يعانى قرحة فى معدته ..
وفى نفس الليلة التى مات فيها , تمت البيعة لأخيه هارون أميرا للمؤمنين .. ومن عجائب الأقدار أنه قبل وفاته بيت النية وعقد العزم على قتل أخيه الرشيد ويحي البرمكى الأب الروحى له وأقرب المقربين إليه .. لم ينس له أنه سافر إلى حيث يقيم فى جرجان ليخلعه من ولاية العهد , وألقاه فى السجن أسفل القصر ينتظر مصيره , لكن يد القدر سبقت إليه ..
لذلك لما تولى الرشيد وجلس على كرسى الخلافة , كان أول قرار له شفاهة إلى حاجبه الفضل بن الربيع .........
ــ إذهب فى التو إلى السجن أسفل القصر , وأخرج منه "أبى" يحي , وأحضره إلى هنا , لا تتأخر ..
إستدار الفضل خارجا على مضض منه , لما كان يحمله فى قلبه ميراثا أبويا من كراهية دفينة للبرامكة جميعا , ونفوذهم يزداد يوما عن يوم ..
وفى طريقه أخذ يحدث نفسه وعلامات الغضب والكراهية على وجهه .... تبا لهم أولئك الدخلاء الغرباء الذين أتوا ديارنا قادمين من بلخ , إن كان هذا حالهم ونفوذهم أيام الخليفة الراحل , فماذا هم صانعون بعد تولى الرشيد أمور الخلافه , وهو الذى شرب لبانهم وتربى فى أحضانهم وتعلم منهم أكثر من عشرين عاما , إنه لا يحاطب يحى إلا بيا "أبت" ..
أخيرا وصل إلى باب السجن وأخرج منه يحى متظاهرا بالفرحة مقدما له التهانى وظل يلاطفه حتى وصلا ديوان الرشيد .. ما إن لمحه قادما حتى نزل من على كرسيه مقبلا عليه مسلما مهنئا ثم قال له ....
ــ لا تحزن يا أبت على ما أصابك .. قلدتك منذ الساعة أمر الرعيه , تحكم فيهم بما ترى من صواب , إعزل من شئت واستعمل من تراه صالحا , وهذا خاتمى معك ..
قال ذلك وهو يلبسه خاتمه بنفسه , ثم نظر إلى يساره نظرة ذات مغزى حيث كان إبراهيم الموصلى جالسا وقال له مبتسما .....
ــ إيه يا موصلى .. ألن تطرب أسماعنا .. إنه يوم بهجة وسرور ..
إنحنى إبراهيم ممتثلا وهو يحتضن عوده الذى لا يفارقه واعتدل فى جلسته , وبدأت نغمات عوده الشجية تملأ أرجاء المكان على صوته الرخيم العذب وهو يقول ...
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة .. فلما تولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذى الندى .. فهارون واليها ويحي وزيرها

يتبع
إن شاء الله ................................



@ إتخذ الشافعى وأمه طريقهما قاصدين المدينه .. وعلى راحلتيهما مضيا يسلكان طريق الهجرة الذى مشى على حبات رماله قبل مائة وسبعين عاما , جده رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومعه صاحبه الصديق الأكبر فى رحلة المجد والخلود .. أشار لشافعى لأمه وهو يحدثها على غار ثور الذى اختبأ فيه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه عن عيون طالبيه من مشركى مكه .. أخذت تمر على خاطره فى تتابع سريع أحداث التاريخ القريب وذكرياته العطره التى رواها له الأجداد بلسان المقال وتحكيها فى صمت جليل بلسان الحال جبال مكة ووديانها , وسهولها وحبات الرمال المترامية أمام عينيه , التى ارتوت وتعطرت بدماء الشهداء الأبرار .. رأى من خلالها الفرسان الأوائل من جيل الصحابة العظام وهم قادمون صوب مكة يقودهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لنصر الله المبين وللفتح الأكبر .. رأى الناس وهم يدخلون فى دين الله أفواجا مرددا معهم ... لا إله إلا الله وحده .. صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
أفاق من من ذكريات رحلة عطرة بقيت آثارها تروى أحداثها وإن طواها الزمن .. إلتفت إلى أمه قائلا .....
ــ إذا أذنت لى يا أم ؟.
ــ نعم يا ولدى ..
ــ أن أمضى وقت السفر فى قراءة القرآن , كنت قد عقدت العزم على ذلك قبل أن نتهيأ للرحيل , أريد أن يكون زادنا فيها آيات الذكر الحكيم , وأن أتقوى بها على لقاء شيخ المدينة وإمامها الأعظم ..
ــ أنت وما عزمت يا أبا عبد الله ..
مرت أيام ثمان , ختم القرآن خلالها ست عشرة مره .. ختمة فى الليل ومثلها فى النهار .. إلى أن بدأت تلوح فى الأفق من بعيد شيئا فشيئا أشجار المدينة الوارفة الظلال وباسقات النخيل .. أخذت تداعب وجوههما نسماتها الرقيقة التى تعطرت بأنفاس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه الأعلام .. لبثا ساعة فى ضيافة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى روضته الشريفة .. مفتتحين بها قبل أن يتوجها إلى دار عمه يعقوب بن العباس الشقيق الأكبر لأبيه إدريس والذى استقر فى المدينة بعد زواجه من إحدى بناتها وله منها ولد وحيد اسمه يوسف , يقارب عمره ابن عمه الشافعى .. شاب عاقل رصين متدين .. تلقى هو الآخر نصيبا من العلم ويعمل مع أبيه فى تجارته ..

يتبع إن شاء الله ............

لامست نسمات الصباح الباردة فى رفق وجه الفتى المكى من نافذة إلى جواره .. نهض على إثرها من فراشه سعيدا متفائلا تنطق أساريره بالبشر والبهجة .. شاعرا بنشاط وحيوية تسرى فى جسده الضامر .. وأنه أصبح أكثر قوة مما كان عليه قبل أن يلقى جسده المنهك من طول الرحلة على الفراش .. لم يشعر إلا وفراشه يبتلع جسده المكدود مستغرقا ليلته فى نوم عميق .. كما يقول العرب فى أمثالهم ... "طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ" ..
أمضى طرفا من الليل قبل أن يروح فى سباته العميق , فى حديث هامس مع إبن عمه يوسف , شريكه فى الفراش .. كانت تلك أول مرة يلتقى فيها أبناء العم ويرى كل منهما الآخر .. سأله عن رحلته الشاقة المضنيه , وما لقيه خلالها عبر ممرات الصحراء الوعرة ودروبها الشائكه , ظل يحكى له
عما لقيه أثناءها من متاعب وعذابات , زاد منها أنه لم يضع جنبيه على فراش لين خلالها , لم يهنأ بدنه ولم تقر عينه برقدة تريحه من مشاق السفر ومعاناته .. روى لابن عمه كيف كان يختلس لحظات من الزمن اختلاسا كأنه يستعيرها , يغفو خلالها كالمغشى عليه لا يلبث بعدها حتى يهب مستيقظا , راجعا لما كان عليه من مواصلة الرحلة وقراءة القرآن .. حكى له عن سبب قدومه وأمه إلى المدينه , وأنه عزم على مواصلة رحلة العلم التى بدأها فى مكه , مرورا برحلته الى الباديه ثم جلوسه بعد ذلك إلى شيوخ الحرم .. أفصح له عن وجهته فى المدينه وعزمه على لقاء إمامها أولا واخذ العلم عنه قبل أن يختلف إلى علماء المدينة الآخرين والأخذ عنهم , والتعرف على أحوال أهلها وكيف علمهم وعملهم بالكتاب والسنه .. وأثناء حديثه الممتد الهامس لم يشعر بنفسه إلا وهو بتثائب رغما عنه وراح يغط فى نوم عميق , وابن عمه يرقبه بنظرة ملؤها الشفقة والإعجاب بأحوال هذا الفتى المثابر الدؤوب ..*

يتبع إن شاء الله ............
*
@ فرغ من صلاته وأخذ يرتدى ملابسه على عجل وعيناه على باب الدار لا تبرحان كأنه يتعجل الخروج إلى ما هو قادم إليه , بدا وكأنه عاشق متيم يتلهف لقاء الحبيبة بعد طول غياب ونوى .. أجل , ها هو يتقدم خطوة أخرى فى سبيل تحقيق حلمه وهدفه الأسمى , بعد أن أخذ على نفسه العهد ألا يذيقها طعم الراحة حتى تتحقق رغبة أمه وأمنية أبيه الراحل , كان ذلك بعد لقائه الروحى البرزخى فى مكه مع الشيخ العارف الفضيل بن عياض ..
إنتهى من ارتداء ملابسه وسوى هندامه وتطيب , بينما عينى أم حبيبه تتابعه فى صمت وهو يتحرك جيئة وذهابا فى الغرفه , وهى فى عجب من أمر هذا الفتى الذى يحاول أن يسابق الزمان ويطوى الأيام .. أخذت تضرب كفا بكف محدثة نفسها ....... ما بال الفتى فى عجلة من أمره هكذا , إنه لم ينفض عن جسده غبار السفر بعد , لم تمض عليه فى المدينة إلا ساعات معدودات , وها هو يستعد للخروج ومواصلة الجهد والعمل , أى فتى هذا ..
تركت حديث النفس جانبا وارتفع صوتها بالسؤال مبدية عجبها ودهشتها , بينما يداها مشغولتان فى إعداد طعام الإفطار وهى تساعد زوجة عمه التى جلست قبالتها ......
ــ إيه .. أراك وقد تهيأت للخروج ؟..
ــ أجل يا أماه ..
ــ هكذا مبكرا . إلى أين ؟..
إلتفت إليها باسما بينما يداه تبحثان فى طيات ثيابه عن المكان الذى دس فيه كتاب التوصيه .......
ــ أنسيت يا أم الشافعى , أخرج لما جئنا من أجله ..
ــ ماذا تقول يا ولدى . تخرج الآن . فى هذه الساعة المبكرة تذهب لشيخ المدينة مالك ؟..
ــ لا يا أم , لم يحن بعد ميعاد اللقاء ..
عاودت سؤالها وقد توقفت يدها عن تقليب العصيدة على النار ....
ــ مادام الأمر هكذا, فيم العجلة إذن يا ولدى؟..
ــ أماه , على أولا أن أتوجه إلى دار أمير المدينه محمد بن إسحق الهاشمى ..
ــ أمير المدينه . لم ؟..
ــ كى أسلمه هذا الكتاب , كتاب التوصية الذى تحصلت عليه من أمير مكه ..
ــ آه , وبعد أن تسلمه كتاب التوصيه , ماذا أنت فاعل ؟..
ــ والله لا أدرى يا أماه , هذا يتوقف على ما يقرره الأمير , قد أذهب وحدى للقاء الشيخ , وقد نذهب سويا , لا أدرى .. إيه , كم انا فى شوق للقاء شيخ المدينة ونجمها الثاقب مالك بن أنس ..
ردت وهى تعاود تقليب العصيدة على النار فى حركات متتابعه ....
ـــ هكذا أنت يا ولدى , تستبق الزمان ..
رد فى الحال مرتجلا ......
ومن رام العلا من غير كد .. أضاع العمر فى طلب المحال
أروم العز ثم أنام ليلا .. يغوص البحر من طلب اللآلى .....
ــ أعلم مدى لهفتك وحرصك يا ولدى على لقاء الشيخ , لكن لن يضيرك أن تنتظر قليلا , نحن لا نزال فى أول النهار , اليوم كله بطوله أمامك تفعل فيه ما تشاء على راحتك ..
قاطعها فى الحال قائلا .....
ــ لم أنتظر يا أعظم الأمهات ؟..
ــ كى تتناول طعام إفطارك , او بعضا منه , إنك لم تذق للزاد طعما منذ البارحه , وأعلم أنك بت الليل على الطوى , تمهل يا ولدى , لحظات قليله وأرفع العصيدة من على النار , ألست تحبها وتشتهيها ؟..
رفع رأسه ناظرا لأمه وقد فرغ من تسوية هندامه , ثم انطلق قائلا بعد لحظات صمت وتأمل ....
العلم يا أماه ليس يناله .. من همه فى مطعم أو ملبس
إلا أخو العلم الذى يعنى به .. فى حالتيه .. عاريا أو مكتسى
فلعل يوما إن حضرت بمجلس .. كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
إلتفت إليها عمه يعقوب قائلا وهو فى مكانه حيث كان ينتقى وغلامه بعض أثواب القماش والعباءات ويرتبها ويحصى عددها قبل نقلها لمتجره .....
ــ أم حبيبه , أريحى نفسك , الولد سر أبيه , دعى الفتى وما يهوى , يبدو عنيدا صلب الرأس مثل أخى إدريس , كان رحمه الله إذا عقد العزم على أمر , لا يهدأ ولا يستريح حتى ينتهى منه .. تلك كانت خصلة فيه , ويبدو أن ولدك ورثها عنه ..
شاركته ابتسامته قائلة ......
صدقت والله يا أبا يوسف , كان أبو كما قلت , لكن ما حيلتى أمام فتى كهذا , لسان ينطق بالحكمة وعزيمة أمضى من الحسام المهند , على كل حال أنت وشأنك يا ولدى , على بركة الله , أنار الله لك طريقك ..
إستدار ناحية باب الدار وقبل أن يبلغه إستوقفه صوت ابن عمه يوسف من داخل غرقته مناديا عليه بصوت عال .......
ــ مهلا يا ابن العم , مهلا , إنتظر لحظة واحده , بالله عليك لا تخرج حتى أفرغ من ملابسى أنا الآخر , كى آتى معك , لأدلك على دار الأمير قبل أن أذهب للسوق ..

يتبع إن شاء الله ............
*
@ مكثا يقطعان الطريق إلى دار الإمارة فى حديث متواصل , وفى منتصف الطريق ساد الصمت بينهما , بدا الشافعى ساهما شاردا كعادته عندما يكون مقدما على أمر مهم , أخذ يرتب أفكاره ويهئ نفسه لهذا اللقاء المرتقب مع الأمير وهو لم يره من قبل , أخيرا وصلا دار الإماره وأمكنه بعد جهد جهيد أن يدخل عليه مجلسه رغم كثرة مشاغله .. لم يبد حارس الباب فى البداية أى استجابة لتوسلات ابن عمه أن يسمح لهما بمقابلة الأمير , كان الحارس فظا متعنتا معهما بحجة انشغال الأمير , ولم يسمح لهما إلا بعد أن لوح له الشافعى غاضبا برسالة أمير مكة وعليها خاتمه قائلا له .......
ــ إسمع أيها الحارس , كف عن الجدال , لابد لى من لقاء الأمير اليوم , إن معى رسالة مهمة له من أمير مكة واليمن ..
تراجع الحارس عن عناده وتغيرت لهجته فبدا أكثر تأدبا وهو يرد قائلا ....
ــ لم تخبرنى أن معك رسالة من مولاى أمير مكه .. حسنا .. على أية حال , إنتظر هنا ريثما يفرغ الأمير من لقائه مع رجال الدواوين وشيوخ القبائل ..
ثم استدرك قائلا وهو يراه يستعد للجلوس مكانه .....
ــ لكن اعلم أنه ربما يطول انتظارك ..
ــ لا بأس .. سأنتظر ..
إقترح عليه ابن عمه أن يذهب معه حيث دكان تجارته فى السوق يتبادلان أطراف الحديث , حتى لا يتسرب الملل إليه من طول الإنتظار وحيدا , لكنه شكره قائلا ........
ــ أفضل انتظاره هنا , حتى لا تفوتنى فرصة لقائه اليوم .. إذهب أنت على بركة الله إلى تجارتك ودعنى , وعندما أنتهى من المقابلة سأمر عليك فى السوق ..
شد على يديه مودعا وهو يقول له .....
ــ كما تحب .. سأذهب الآن إلى أبى فى سوق الثياب .. إنه قريب من هنا , سل أى إنسان على دكان يعقوب وسيدلك على مكانه فى التو ..
@ فرغ الأمير من قراءة الرسالة على مهل وهو يمر بعينيه على سطورها , طواها والتفت ناحية الشافعى قائلا وهو يحدق فيه بعين فاحصة مدققة يحاول سبر أغواره ومعرفة دخيلة نفسه .....
ــ نعم .. تريد إذن مقابلة الشيخ فى لقاء خاص ؟..
ــ أجل سيدى الأمير ..
ــ لكى تقرأ عليه الموطأ وتتعلم منه ؟..
ــ أجل .. ما رحلت من مكة إلى هنا إلا من أجل تحقيق تلك الغايه ..
ــ لكن .. لكن يا ولدى هذا كثير على فتى غض مثلك .. ألا تعلم أنه لا يختلف إلى إمام دار الهجره ولا يجالسه إلا من هم أكبر منك كثيرا ..
سكت برهة ثم واصل تساؤلاته .....
ــ وتريد منى أن أصحبك إلى داره ؟..
ــ تفضلا وتكرما منك ..
ــ إسمع إلى أيها الفتى المكى وافهم ما أقول .. هذا الأمر ليس هينا كما تظن .. إنه لأمر عسير بلوغه حتى على أمثالنا من رجال الحكم والأمر والنهى .. إيه يا ولدى ماذا أقول لك .. هل لك مطلب آخر ؟.
فغر فاه دهشة وقد تبدل حاله وبدا مهموما وهو يجيب ....
ــ أبدا يا سيدى .. لآ أبغى إلا ما جئت من أجله .. تلك هى أمنيتى الوحيده التى قدمت لأجلها ..
ــ هون عليك يا ولدى .. هل لك دار بالمدينه ؟..
ــ أقيم فى دار عمى يعقوب بن العباس الشافعى ..
رجع برأسه إلى الوراء , وأخذ يردد إسمه هامسا كمن يحاول أن يتذكره ثم قال ......
ــ آه تذكرته .. أليس هو تاجر الثياب والأردية الموشاه ؟..
ــ بلى هو يا سيدى ..
ــ أجل أجل .. وهل تحترف حرفة أو تجيد صنعة تتكسب منها ؟.
ــ حرفتى وصنعتى ونهمتى يا سيدى هى طلب العلم والتفقه فى الدين .. لقد تعلمت على يدى شيوخ مكه ونهلت الكثير من علومهم .. وكل ما أتمناه أن آخذ العلم على يدى شيوخ المدينه وأهلها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ــ تريد إذن جمع علوم أهل الحجاز جميعا .. لا بأس ..
أطرق برهة , ثم رفع رأسه لتلمع فى عينيه نظرة إعجاب بالفتى وهو يقول له ......
ــ يا لك من فتى مثابر دؤوب , أدركت من فحوى كلامك مدى قوة إرادتك وعزيمتك , وشدة ولعك بالمعرفة وتحصيل العلوم , لكن يا ولد شافع , أهون على أن أمشى على قدمى حافيا من جوف المدينة إلى جوف مكه , من المشى إلى باب شيخنا مالك .. ليتنا إذا رحنا إليه وأصابنا تراب العقيق ثم وقفنا على بابه يفتح لنا , لا تعجب , يا بنى أنت لم تره ولم تقف على بابه من قبل ..
صمت بهة ثم قال فى نبرة أسى .....
ــ هيهات هيهات , أتعلم أنه لم يغادر داره مذ أعوام طويله بعد أن اجترأ عليه أحد ولاة الخليفة المنصور بالضرب الموجع , ثم أمر رجاله أن يدوروا به فى الأسواق , لما أحل القوم من بيعتهم له قاشلا حديثه المعروف ..... ليس على مستكره يمين وليس على مستكره بيعه , فما وهنت عزيمته ولا لانت له قناه , بل أخذ ينادى بأعلى صوته وهم يدورون به فى الأسواق ..............
.... ألا من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا مالك بن أنس الأصبحى , أول لكم طلاق المكره ليس بشئ وليس على مستكره يمين ولا بيعه .....
ــ فلما علم المنصور بما جرى له صرخ فى رجاله ............. أدركوه وعودوا به إلى داره , وبعد سنوات جاءه فى موسم الحج وألح فى الإعتذار له بعد أن شعر بالذنب تجاهه من جراء تلك الفعلة الشنعاء .. إيه كانت أياما عصيبة قاسيه ..
ــ أجل يا سيدى .. أمير مكة قال لى شيئا كهذا , حتى أنه تهيب أن يخط رسالة توصية إليه , ولما سألته فى ذلك قال لى مثلما قلت ..
ــ على أية حال يا بنى لن أخذلك , إذهب الآن لشئونك وارجع إلى بعد صلاة العصر , سوف أكون بانتظارك هنا إن شاء الله , لكى نذهب سويا إلى دار الشيخ ..

راح الشافعى يقطع الساعات الطويلة فى جولة تعرف خلالها على معالم مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وآثارها الطيبه .. بدأ بزيارة البقيع الذى يضم ثراه الطيب رفات آل البيت والصحابة والتابعين الأبرار , ومن بينهم رفات أجداده القرشيين العظام , قرأ الفاتحة على أرواحهم ودعا لهم , ثم يمم وجهه شطر المسجد النبوى , لبث ساعات فى العبادة والصلاة وقراءة القرآن فى الروضة الشريفه .. إبتهل إلى الله فى تلك البقعة المباركة من الأرض أن يوفق فى لقاء مالك وأن يكتب له القبول عنده .. بعد ذلك اتخذ طريقه إلى دكان عمه يعقوب فى سوق الثياب بالقرب من الحرم , ظل فى حديث مع عمه وابن عمه يوسف إلى أن رفع المؤذن النداء لصلاة العصر , وبعد أن ختم صلاته توجه إلى دار الأمير الذى كان ينتظره , إنطلقا وحدهما بعد أن أشار الأمير إلى حراسه ان يلزموا أماكنهم وألا يتبعه أحد ..................
*
يتبع إن شاء الله ............

@ على مهل وفى خطوات متأنية أخذا يشقان طرقات المدينة وأزقتها الضيقة يلفهما صمت عميق , إلى أن توقفا أمام إحدى الدور القديمه .. كانت رغم قدمها دارا رحبة أمام بابها فناء واسع تتناثر على جانبيه أشجار الصفصاف العتيقة العاليه وهى تظلل بأغصانها الوارفة فناء الدار.. وفى الركن الأيمن كانت ثلاث نخلات متوسطات الطول تخرج من أصل واحد فى منظر بديع فريد , لم تقع عينى الفتى على مثله من قبل .. مال الأمير على الفتى هامسا ......
ــ وصلنا أخيرا .. هذه دار إمامنا وشيخنا مالك ..
ــ ما أجملها من دار وما أطيب ريحها ..
ــ هل تعلم لمن كانت قبل أن تؤول لشيخنا ؟. كانت للصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ..
قرع الباب برفق والفتى من خلفه ينتظر مترقبا أن يفتح الباب ويطل الشيخ منه عليهما .. إبتسم متفائلا وهو يقرأ عبارة منقوشة على باب الدار "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" وكأنها إشارة إلى باب الجنه ..
لم يطل انتظارهما , خرجت إليهما فى الحال الجارية السوداء التى تقوم على خدمة سيدهامنذ عشرات السنين لم تفارقه يوما .. نظرت إليهما صامتة نظرة تساؤل , بادرها الأمير وكانت تعرفه .......
ــ أخبرى مولاك أنى بالباب ..
إستدارت دون أن تجيبهما أو تسمح لهما بتخطى عتبة الدار , عادت بعد لحظات انتظار مرت كأنها دهر ......
ــ يقول الشيخ إن كانت لك مسألة أو فتوى فارفعها فى رقعة وسيأتيك جوابها , وإن كان شأنا آخر فيوم المجلس معلوم , فانصرف يرحمك الله ..
ــ أيتها الجاريه , إنى أريده لشأن آخر ..
ــ ماذا تعنى ؟..
ــ قولى له إن معى كتابا من امير مكة فى أمر مهم ..
إنطلقت منه زفرة حرى مع آخر كلمة قالها وهو ينظر للشافعى نظرة يقول له من خلالها بعين الحال ..... أرأيت يا فتى ؟. ألم أقل لك ؟..
عادت الجارية بعد برهة وفى يدها كرسى لسيدها الذى خرج أخيرا كأنه ملك متوج تعلوه المهابة والوقار .. كان رجلا طوالا جسيما أشقر , أزرق العينين , يرتدى عباءة خضراء من فوق ثياب تبدو بيضاء ناصعة البياض , وعلى رأسه عمامة ينسدل طرفيها على كتفيه , وله لحية كثيفة وشارب مفتول لا يحفه .. ناوله الأمير وهو لا يزال لدى الباب , الرسالة بعد أن حياه وسلم عليه , ثم ظل مكانه واقفا ريثما يفرغ الشيخ منها ..
أخذ يردد النظر إليهما فى دهشة وهو يقرأ الرساله , يقرأ بضع كلمات ثم ينظر للأمير تارة وللفتى أخرى , وعلامات الغضب والحنق ترتسم على وجهه شيئا فشيئا , حتى بلغ منه الضيق مداه , فانطلق صائحا فى وجه الأمير محتدا ..........
ــ ما هذا .. ماذا تعنى كلمات تلك الرساله .. كيف طوعت لأمير مكة نفسه أن يخط كلاما كهذا ؟.. سبحان الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وعلم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يطلب بالوسائل والوسائط ..
*
إستمر الشيخ فى إطلاق سهامه الغاضبة والأمير منكمش مكانه مطرقا فى حياء لاينبس ببنت شفه .. أدرك الشافعى أن المقابلة ستنتهى إلى طريق مسدود , وأنه عائد من هذا اللقاء صفر اليدين لا محاله , ماذا يفعل والأمير واقف إلى جواره ساكنا لا يقدر على النطق بكلمة واحده .. قرر فى لحظة فاصلة أن يفعل شيئا , إستخار الله تعالى , وتمتم فى سره كلمات ثم تنحنح قائلا ........
ــ أكرمك الله وعافاك سيدى الشيخ ..
ــ نعم أيها الفتى المكى ..
ــ إنى فتى مطلبى من بنى المطلب جد شافع بن السائب , حفظت القرآن مبكرا وأنا فى الرابعه على يد شيخ مكة وقارئها الأكبر إسماعيل بن قسطنطين , ثم خرجت إلى الباديه , مكثت مع أهلها بضعة أعوام , ثم بعد ذلك تلمذت على يد محدث مكه سفيان بن عيينه , ومفتيها مسلم بن خالد الزنجى , وختمت رحلتى بكتابكم الموطأ , قرأته بل وحفظته عن ظهر قلب قبل أن آتى إلى هنا , واليوم يا سيدى أنا هنا جئتك من مكة لأتعلم وأتفقه من علومكم وأتعرف على فقه أهل المدينة منكم .. ليتك تأذن لى ..
كان الشيخ شديد الذكاء ذو فراسه , لم يضع عينيه من على وجه الفتى , ظل يحدجه أثناء حديثه بنظرات فاحصة ثاقبة متأنيه , إلى أن انتهى من بيانه سأله وقد سكت عنه الغضب وسكنت نفسه ......
ــ ما اسمك أيها الفتى القرشى ؟..
ــ محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ قلت أنك من ولد شافع بن السائب .. أليس كذلك ؟..
ــ بلى يا سيدى ..
ــ يا محمد إتق الله , واجتنب المعاصى , فسيكون لك يوما شأن ومكانة .. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا , فلا تطفئه بالمعصيه ..
ــ نعم وكرامة يا سيدى ..
ــ إسمع يا ولدى .. فى الغد تمضى إلى دار حبيب الكاتبى ..
ــ لم يا سيدى ؟..
ــ هو الذى يتولى أمر القراءة لى .. أبلغه أن يأتى كى يقرأ علينا الموطأ ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , إن شئت تسمع عنى صفحا منه , فإن استحسنت منى أكملت وإلا تركت .. إنى أقرأه من الحفظ ..
ــ على بركة الله .. فى الغد تأتينى فى نفس الموعد ..

يتبع إن شاء الله ............

@ جلس بمفرده ينتظر الشيخ فى قاعة رحبة واسع , خصها للقراءة والدرس .. أخذ يجول ببصره يتأمل أرجاء المكان , وقد أخذته الدهشة من روعته وفخامته وحسن تنسيقه , أول مرة تقع عيناه على مكان كهذا .. شاهد أعواد البخور الهندى والغلام يضعها فى مجمرة من النحاس ,وخيوط دخانها الأبيض تلتف حول نفسها وهى ترتفع لأعلى , ناشرة عرفها , تملأ المكان سحرا وغموضا وروعه .. لاحظ الوسائد المريحة والنمارق المتناثرة يمنة ويسه , فى كافة زوايا المجلس , وقد أعدت لراحلة تلاميذ الشيخ ورواده وهم جلوس بين يديه ..
وبينما هو على تلك الحال من الدهشة سابحا بعينيه فى جنبات القاعة الفسيحة مأخوذا من روعتها وبهائها , إذ خرج عليه الشيخ كهيئة الملوك , مرتديا ثوبه الأبيض النقى ومن فوقه طيلسان أخضر , وعلى رأسه قلنسوة متركة , ورائحة الطيب تسبقه وقد بان عليه أنه اغتسل وتطيب ومشط لحيته , هكذا دأبه وحاله كلما يكون فى لقاء مع أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
لم ينتبه الشافعى لوجوده وهو واقف مكانه يرقبه وهو مأخوذ من روعة المكان مستغرق فى دهشته , ألقى عليه التحية واتخذ مجلسه قائلا ....
ــ أعجبتك القاعه ؟..
ــ لم أر يا سيدى فى مثل أبهة وروعة هذا المكان , وحسن تنسيقه وطيب ريحه ..
ــ إعلم يا ولدى أن الله ما أنعم على أحد إلا أحب أن يرى أثر نعمته عليه , وبالخصوص أهل العلم , ينبغى لهم أن يظهروا مرؤاتهم فى ثيابهم , إجلالا للعلم ومنزلته الكبرى .. لقد بلغنى يا بنى أن العلماء يسألون يوم القيامة عما يسأل عنه الأتبياء .. التواضع يا بنى فى التقى لا فى الثياب , وعلى هذا كان السلف الصالح .....
صمت برهة أردف بعدها ......
ــ لكم عانيت فى سنوات عمرى الأولى من ضيق الحال وشظف العيش .. حتى أنى بعت سقف دارى لأتعلم .. مرات كنت لا أجد ثمن الطعام , فأبيع من متاع دارى لأطعم أبنائى ..
كان الشافعى يستمع لحديث شيخه وعلامات الدهشة على وجهه .. نظر الشيخ إليه قائلا .....
ــ لا تعجب يا فتى من قولى .. سأحكى لك واقعة حدثت معى أيام الخليفة المنصور , منذ أعوام طويله .. جاءنى ذات يوم أبو جعفر المنصور أمير البلاد وقتئذ , وجلسنا نتحدث ونتحاور ساعات .. وفى نهاية حديثنا قلت له أذكره وأوصيه .....................
ــ يا أمير المؤمنين تفقد أحوال الرعية , ولتكن لك أسوة فى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ..
ــ أتظن يا شيخ المدينة أنى لا أفعل . ألست إذا بكت طفلتك من الجوع , أمرت أهلك أن يحركوا حجر الرحى لئلا يسمع الجيران بكاءها ؟.
ــ والله لا يعلم بهذا الأمر أحد إلا الله عز وجل .. كيف علمت به يا أمير المؤمنين ؟.
ــ قد علمته يا أبا يحى .. قد علمته .. أفمن يعلم هذا , لا يعلم أحوال رعيته .................
لم يشأ أن يقاطع الشيخ فى حديثه وهو ينصت متعجبا .. ثم بدأ يعتدل فى جلسته إستعدادا لقراءة أول صفحات الموطأ , بعد أن أذن له الشيخ مشيرا بيده .. وفى صوت رخيم خفيض بدأ يقرأ .......
ـــ بسم الله الرحمن الرحيم .. حدثنى العلاء بن عبد الرحمن , أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهره يقول , سمعت أبا هريره يقول , سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج غير تمام " .. قال قلت يا أبا هريره إنى أحيانا أكون وراء الإمام , قال فغمز ذراعى وقال : يا فارسى إقرأ بها فى نفسك , إنى سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول "قال الله عز وجل .. قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل " ...........
إستمر الشافعى فى قراءته , بينما نظرات الشيخ تتابعه وهو يهز رأسه إعجابا بلسانه الفصيح ونطقه الصحيح وصوته الرخيم الخفيض .. كان الإمام يكره الصوت العالى فى القراءه وكذلك الشافعى .. حانت منه التفاتة إلى أصابعه وهو يقلب الصفحات بعد أن ينتهى من قراءة ما فيها .. لاحظ حرصه على أن يتصفحها صفحا رقيقا بين أصابعه , حتى لا يؤذيه أو يجرح خاطره سماع حفيفها .. إبتسم الشيخ ونادرا ما يفعل , وهز رأسه إعجابا وسرورا من فطنة الفتى وأدبه ..
رفع رأسه من فوق الكتاب ناظرا إلى الشيخ ليرى إن كان قد مل السماع او أصابه التعب من طول زمن القراءة , إلا أنه أشار إليه قائلا ......
ــ زدنا يا فتى قريش , ما أجمل قراءتك وما أعذب وقعها على الآذان .. أكمل فلا يزال أمامنا فسحة من الوقت ..
قال ذلك ثم نادى على غلامه ليحضر الطعام .. ما لبث غير بعيد حتى أقبل حاملا فى يمناه طبقا عليه صفحتان , فى إحداهما لبن وفى الأخرى تمر , وفى يده اليسرى إبريق ماء .. قال له الشيخ آمرا .....
ــ هيا اغسل علينا يا غلام .. ولا تنسى ما أمرتك به من قبل , فى أول الطعام لرب البيت , وفى آخره للضيف ..
لمح فى عينى الشافعى نظرة استفسار فقال له .....
ــ رب البيت يدعو الناس إلى طعامه , فحكمه أن يبتدئ بالغسل , وأن يتأخر فى آخر الطعام ترقبا لمن يدخل , ليأكل معه ........

يتبع إن شاء الله ............

@ مكث الشافعى أياما , مواظبا على مواعيده التى خصه بها الشيخ , خلافا للأوقات التى يلتقى فيها تلاميذه ومريدوه وطلاب علمه , كان يقرأ كل يوم صفحات من الموطأ والشيخ يسمع له , شارحا بعض الأحكام مبينا له مقاصد الشرع فيها .. ويوما بعد يوم كان يزداد إعجاب الشيخ به , طالبا منه أن يقرأ المزيد , وهو يقلب صفحات الكتاب الضخم واحدة بعد الأخرى .. وذات مرة بينما الشافعى مسترسلا فى قراءة أحد الأحاديث , إستوقفه الشيخ قبل أن ينتقل إلى الحديث الذى يليه .......
ــ مهلا أبا محمد , إنتظر ..
ــ نعم يا سيدى ..
ــ أعد قراءة هذا الحديث مرة أخرى ..
ــ لم يا سيدى .. هل أخطأت فى شئ ؟..
ــ لا .. لا .. لكنى أود أن تسمعنيه مرة ثانيه ..
ــ سمعا وطاعه ..
فوجئ الشيخ به يطوى الكتاب ويعيد نص الحديث من ذاكرته كما قرأه .......
ــ حدثنا عبد الله بن أبى بكر عن عمرو بن سليم قال , أخبرنى أبو حميد الساعدى قال , قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك ؟.. قال "قولوا اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم , وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم , إنك حميد مجيد" ..

ما كاد يفرغ من تلاوة الحديث حتى بادره الشيخ متعجبا .....
ــ أخبرنى يا ولدى , كيف اتفق لك أن تقرأ الحديث بنصه من الحفظ ؟.
أطرق حياء وهو يجيبه ............
ــ من نعم الله على يا سيدى , أنى أسمع الشئ أو أقرأه مرة واحده , فأحفظه فى الحال , ولا أنساه بعد ذلك ..
ــ منذ متى ؟..
ــ منذ صباى وأنا فى كتاب الشيخ إسماعيل .. كنت أستمع إليه وهو يلقن أحدهم الآية فأحفظها , وأنصت إلى ما يمليه عليهم , فأعيد كل ما سمعته نصا بعد أن يفرغ الشيخ ..
هز رأسه سرورا متمتما فى نفسه .... ما أعجب ما أراه منك أيها الفتى القرشى .. لقد صدق ظنى فيك مذ وقعت عينى عليك أول مره .......
*
يتبع إن شاء الله ............

@ إلى أن كان يوم , ومع آخر صفحات السفر الضخم .......
ــ عن الوليد بن عبد الله أن المطلب المخزومى أخبره أن رجلا سأل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما الغيبه ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" قال يا رسول الله , وإن كان حقا ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "إذا قلت باطلا فذلك البهتان" …
طوى الكتاب ثم نظر للشيخ …..
ــ إيه يا ولدى .. كتاب جمعته فى أربعين سنه .. قرأته على فى بضع أيام ..
ــ أربعين سنه ؟.
ــ أجل يا ولدى .. أربعين سنه وأنا عاكف عليه .. تريد ان تقول شيئا .. لديك سؤال ألمحه فى عينيك ..
أجاب متلعثما …..
ــ أجل .. غير أنى ……..
ــ آه .. فهمت .. تود معرفة حكاية الموطأ معى , متى بدأت فيه , وكيف جمعت أحاديثه .. أليس كذلك ؟..
تعجب من شدة فراسة الشيخ وحدة بصيرته , كأنه كتاب مفتوح أمامه …
ــ بلى .. هذا ما أردت معرفته ..
ــ قبل أن أجيبك أود أن تجيبنى أنت .. كم حديثا قرأت فيه ؟..
ــ نيفا وألف حديث ..
ــ الذى لا تعلمه أنى كتبت بيمنى تلك , ومن هذه المحبره أكثر من مائة ألف حديث .. وأننى أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. وأدركت أقواما لو استسقى بهم الناس لسقوا ببركتهم وقد سمعوا من العلم والحديث شيئا كثيرا .. ومع كل هذا , لم آخذ عن واحد منهم كلمة واحده ..
ــ عفوا يا سيدى .. كيف تدع أقوالهم وتترك رواياتهم وما يحدثون به , ولماذا قلت أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن , وهم على ما هم عليه من التقى والورع ؟..
ــ ما أخبرتك بهذا إلا لكى أعطيك قاعدة تضعها دوما أمام عينيك , وإياك أن تنساها .. إحفظها فى خزانة ذاكرتك .. لا تأخذ العلم من أربعه .. أتسمعنى ؟.
ــ أجل .. زدنى بيانا ..
ــ لا تأخذه من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو إلى بدعه , ولا من كذاب يكذب فى أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وأخيرا وهو الأهم .. لا تأخذه من شيخ له فضل وصلاح وعبادة , إن كان لا يعرف ما يحمل ولا ما يحدث به .. أفهمت ؟..
ــ أجل أجل .. فهمت قصدك يا سيدى الشيخ ..
ــ نعود لحكاية الموطأ .. أخذت أنتقى من هذه الأحاديث , أنقص منها وأراجع مرة بعد أخرى , ولا أعتمد إلا المجمع عليه , والذى يتوافق مع عمل أهل المدينه , حتى وصلت إلى عشرة آلاف حديث من مائة ألف .. ومرت أيام بعدها أتانى أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ..
ــ متى كان ذلك ؟..
ــ منذ حوالى ثلاثين سنه .. فى موسم الحج .. يومها زارنى فى دارى القديم .. كانت دارا متواضعة الحال .. ليست ميسورة رحبة كهذه الدار ..
المهم , أخذ يحدثنى فيمن مضى من السلف والعلماء .. فوجدته أعلم الناس بالناس .. ثم تكلمنا فى الفقه كذلك , فوجدته أعلم الناس كذلك بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه .. حافظا لما روى , واعيا لما سمع .. وفى زيارة ثانية له , عرضت عليه الموطأ , وبعد أن قرأ ما دونته فيه قراءة متأنية قال لى .............
ــ يا أبا يحى .. ليتك تعيد كتابته , واجتنب شواذ ابن مسعود , وشدائد ابن عمر , ورخص ابن عباس , واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمه .......
ــ وماذا وجدت فى كلامه ؟..
ــ علمت أنه قد أصدقنى النصيحه .. فعكفت عليه مرة أخرى بضع سنين .. وظللت أنتقى منه .. ثم بوبته أبوابا حتى صار كما تراه ..
ــ وهل عاود أمير المؤمنين قراءته ؟..
ــ أجل .. فى العام الثامن والأربعين بعد المائه , أتفق أن جاء للحج أيضا , بعد أن اطلع على الموطأ فى صورته الأخيره , قام بزيارتى وقتها ليعتذر عما فعله معى أمير المدينه أيامها .. لقد ضربت حتى انخلع كتفى , حتى أنى لم أعد أستطيع تحريك يدى اليسرى ولا زلت .. لا زلت أذكر ما دار من حديث بينى وبين الخليفة المنصور .. قال لى معتقدا أنه يرضينى ويرد الإعتبار لى .............
ــ قرأت كتابك قراءة متأنية .. وعزمت على أمر , ليتك توافقتنى عليه ..
ــ أصلح الله الخليفه .. ما هو ؟..
ــ عزمت إن شاء الله تعالى على أن آمر بكتابك , فينسخه الكتبة نسخا كثيرة , أبعث بها إلى أمصار المسلمين , نسخة لكل مصر , فما قولك يا إمام ؟..
ــ أجبنى أولا عن سبب ذلك , لم تريد أن ترسل به إلى الأمصار ؟..
ــ قصدت من وراء ذلك أن آمرهم بالعمل بما فيه .. وألا يتعدونه إلى غيره .. وأن يتركوا ما سواه من العلم المحدث ..
أطرق برهة مستغرقا فى تفكير عميق ثم قال ........
ــ لا تفعل يا أمير المؤمنين .. لا تفعل ..
ــ ما الذى يمنعنى ؟..
ــ الناس قد سبقت إليهم أقاويل .. وسمعوا احاديث .. وسردوا روايات .. وأخذوا بما سبق إليهم .. فعملوا به ودانوا له ..
ــ وماذا عليهم أن يعملوا بما فى كتابك من أحكام .. إن فيه العلم الصحيح الناسخ لكل ما لديهم ؟..
ــ يا أمير المؤمنين .. إن ردهم عما اعتقدوه لشديد .. وأشد منه أن تفرض عليهم رأيا يخالف ما عندهم .. دع الناس وما هم عليه .. وما اختاره أهل كل بلد منهم لأنفسهم .. إن ذلك أصلح لهم ..
ــ إذن أجلسك فى البيت الحرام بمكه .. وأحمل الناس على علمك .. وأعهد إلى الأمصار يوفدون إليك وفدهم .. ويرسلون إليك رسلهم فى أيام الحج .. تعلمهم علم أهل المدينه .. وتحملهم على الصواب فى أمور دينهم ..
ــ يا أمير المؤمنين .. لا تنس أن لكل قوم سلفا وأئمه .. فإن رأيت إقرارهم على حالتهم , فدعهم وشأنهم .. إن هذا هو الأصوب لهم ..
ــ ليتك توافقنى يا إمام ؟..
ــ إعفنى يعف الله عنا وعنك .. ويغفر لنا ولك ..
ــ لعمرى لو طاوعتنى على ذلك .. لأمرت به من اليوم ..
*
يتبع إن شاء الله ............*
@ تعلق سمعه بالشيخ وهو يواصل سرد حكاية الموطأ قائلا ......
ــ إيه .. يرحم الله الخليفة المنصور ويغفر له ما سلف من أمره ..
ــ معذرة شيخى .. يتلجلج فى صدرى سؤال غير أنى أجد حرجا منه .. فهل تأذن لى ؟.
ــ سل ما بدا لك يا ولدى .. ولا حرج إن شاء الله
ــ قلت يا سيدى أنك رفضت طلب المنصور إلزام أهل الأمصار بالعمل بما جاء من أحكام فى الموطأ وألا يتعدونه إلى سواه ؟..
ــ أجل أجل .. هذا ما قلته ..
ــ كيف يتفق هذا وأنت تقدم عمل أهل المدينة .. بل تقول إن الناس تبع لهم باعتبار دارهم دار الهجره وبها نزل القرآن ..
ــ وأزيدك أكثر من ذلك أنى جعلت بعض عمل أهل المدينة مقدم على الحديث الصحيح .. وبعضه مقدم على خبر الآحاد .. وبعضه مقدم على الرأى .. ومع ذلك لم أقل أبدا أن عملهم حجة لازمة لجميع الأمه .. وإنما هو منى على الإختيار لما رأيت العمل عليه .. ولم أدع قط أنه لا يجوز العمل بغيره .. بل هو مجرد إخبار منى بعمل أهل بلدى .. ولم يجمع أهلها إلا على نيف وأربعين مسئله ..
ــ أطمع أن تعلمنيها ..
ــ فى عجالة أقول لك أنى قسمت تلك المسائل إلى ثلاثة أقسام .. كل قسم منها له حكمه .. فيما بعد سوف أفصلها لك .. أفهمت يا ولدى ..
ــ بارك الله فيك يا شيخى .. نعود إلى حكاياة الموطأ ..
ــ أين توقفنا ؟.
ــ عند آخر لقاء لك مع الخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ تذكرت .. مرت سنوات ورحل المنصور إلى جوار ربه .. وتولى الأمر من بعده ولده محمد المهدى .. جاءنى هو الآخر فى هذه الدار وفى نفس هذا المكان .. كان ذلك فى موسم الحج منذ عشرة أعوام .. قال لى ....................................
ــ أبا عبد الله .. إن القضاة فى سائر الأمصار يرفعون إلى أقضياتهم فأجد فيها اختلافا كثيرا وتباينا فى الأحكام .. ورأيت أن تعرض عليك بحججها , لتمضى فى كل قضية منها برأى أو بحكم قاطع , يمنع بعده العمل بخلافه ..
ــ أطال الله عمر أمير المؤمنين .. أما هذا الصقع من بلاد المغرب (وأشار بيده ) قد كفيتك إياه , فإن أهله يمضون أحكامى .. وأهل الشام فيهم الرجل الذى تعرفه
ــ الأوزاعى .. أجل أعرفه جيدا ..
ــ أما عن أهل العراق , فإنهم أهل ناحية , قالوا قولا تعدوا فيه طورهم , فاتركهم على حالهم ..
ــ لم أقصد من وراء ذلك يا أبا عبد الله إلا أجعل حتى آخر الدهر حكما واحدا صوابا فى كل قضيه , بدلا من تلك الأحكام الكثيرة المتناقضة التى اختلط الصواب فيها بالخطأ .. ليتك توافقنى وأنا آمر به من الغد .........
واستمر الشيخ يحكى ................
ــ وانتقل المهدى إلى جوار ربه العام قبل الماضى .. وتولى من بعده ولده موسى الهادى , غير أنى لم أره مذ كان يأتينى مع أخيه هارون وهما صبيان صغيران , يجلسان فى حلقة العلم .. يرحمه الله لم تدم خلافته أكثر من عام وبعض عام , إلى أن تولى أمر المسلمين من بعده منذ بضعة أشهر هارون الرشيد ..
ــ أظنه كان يحج بالناس هذا العام ؟.
ــ أجل , وزارنى هنا بعد أن أتم مناسك الحج وقبل أن تأتينى أنت هنا بأيام .. ليتك كنت حاضرا هذا اللقاء .. سأحكى لك جانبا مما دار بيننا من حديث .. كان الرشيد ودودا متلطفا معى وهو يقول ..................
ــ يا إمام دار الهجرة وشيخها , حاجبنا الربيع بن يونس حكى لى أخبار المحنة التى عرضت لك أيام جدى المنصور , ومن قبل أخبرنى أبى أن ما فعله معك بكار الزبيرى أمير المدينة وقتئذ , وما ألحقه بك من إهانة وتعذيب وأذى كان بغير علم الخليفه , إعتقد هذا الأبله بحماقته أنه يرضى بذلك الخليفة ويزيده بتلك الفعلة الشنعاء قربا منه ..
ــ لتعلم يا أمير المؤمنين أنى أخرجت من ذاكرتى كل هذه الأحداث وإن كانت آثارها لا تزال باقية على جسدى .. أما جدكم الخليفة المنصور فإنى قد نزهته عن الأمر بذلك أو الرضا به ..
ــ الحمد لله .. أرحت قلبى يا إمام ..
ــ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .. ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا .. ربنا إنك رؤوف رحيم ..
ــ صدق الله العظيم .. إسمع يا إمام .. أود منك الرأى والمشورة فى أربعة أمور ..
ــ تفضل يا أمير المؤمنين ..
ــ الأولى أن تأذن لى فى تعليق الموطأ بالكعبه .. والثانيه أن أحمل الناس على العمل بما فيه من أحكام ..
ــ أما عن هاتين المسئلتين تعليق الموطأ بالكعبه وحمل الناس على أحكامه .. فإن هذا كله لا يجوز فعله , لأن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وإن لم يختلقوا فى الأصول , إلا أنهم اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلدان , وكل واحد منهم مصيب عند نفسه ..
ــ لندع هاتين المسألتين جانبا .. ما تقول فى إعادة بناء منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجعله من الذهب الخالص والفضه ؟.
ــ دعه على حاله يا أمير المؤنين .. إنه أثر من آثار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , أرى ألا تحرم الناس منه ..
ــ لم تبق إلا المسئلة الرابعه , ليتك توافقنى عليها يا أبا يحى .. ما قولك أن يقوم نافع بن نعيم إماما يصلى بالناس فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ أصلح الله الخليفه .. إن نافع إمام فى القراءه , ولا يؤمن أن تبدر منه فى المحراب بادرة فتحفظ عليه .. إتركه فى مقامه وعلى مكانته ..
ــ أنت وما تشاء يا إمام .. هل من وصية قبل أن أغادر إلى بغداد ؟.
ــ بلغنى يا أمير المؤمنين أن الخليفة عمر بن الخطاب كان على فضله وتقدمه , ينفخ للناس عام الرمادة تحت القدور حتى يخرج الدخان من بين لحيته .. والله تعالى رضى منكم بأقل من ذلك .. فاتق الله فى رعيتك ............
إمتد حديث الإمام مع الشافعى حتى دخل الليل وفى نهايته قال له ..........
ــ تلك هى قصة الموطأ مع الخلفاء الثلاثه المنصور والمهدى والرشيد .. ليتنى أكون بهذا قد أجبت سؤالك ؟.
وقبل أن يهم بالنهوض من مجلسه ليستريح إلتفت إليه قائلا ......
ــ نصيحتى لك يا ولدى ألا تسكن الريف فيضيع علمك , واكتسب الدراهم من عملك ولا تكن عالة على أحد , واتخذ لك ذا جاه ظهرا لئلا تستخف بك العامه , ولا تدخل على ذى السلطنة إلا وعنده من يعرفك , وإذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة , لئلا يأتى إليه من هو أقرب منك فيدنيه ويبعدك , فيحصل فى نفسك شئ .. داوم يا ولدى على حضور حلق العلم والدرس بالمدينه فما أكثرها , وزاحم بمنكبيك ولا تدخر فى هذا أى جهد .. أخيرا أذكرك ألا تبرح المدينة عائدا إلى مكه حتى آذن لك أو يدركنى الموت .. أنت ولدى الذى رزقت به فى أخريات أيامى ..

يتبع إن شاء الله ............

@ بعد أن بات ليلته فى ضيافة شيخه , رجع فى الصباح المبكر إلى دار عمه يعقوب وهو يسحب وراءه ثلاثة أفراس خرسانيه أهداها له مالك .. قص على أهل الدار ما كان من أمره مع الشيخ إلى أن ختم الموطأ , وفى ختام كلامه قال والكل يرهف السمع له فى شوق وفضول ..............
ــ يا عم إنه إمام حجه , ما أعلم إلى الآن شيئا أصح بعد كتاب الله من موطأ مالك ..
ردت أم حبيبه ونبرة عتاب فى صوتها ........
ــ شغلتنا عليك كثيرا بالأمس يا ولدى .. وازدادت مخاوفنا لما أقبل الليل ولم تأت من درس الشيخ كعادتك .. لم تأخرت هكذا ؟.
إبتسم وهو يقول فى حياء ............
ــ لقد امتد الحديث بنا ولم نشعر إلا والليل يزحف علينا , ولما حاولت القيام مستأذنا فى الرجوع إلى الدار , منعنى الشيخ وأصر على أن أبيت معه وألا أخرج فى هذا الوقت المتأخر , وفى الثلث الأخير من الليل وقبل انفجار نور الصباح قرع على الباب قائلا ........
ــ الصلاة يرحمك الله ..
ثم دخل على مرة ثانية وهو يحمل بنفسه إناء الماء لأتوضأ منه ..
قاطعه ابن عمه يوسف وقد بدا كأنه غير مصدق ........
ــ الإمام يحمل لك بنفسه إناء الماء .. عجيب والله ..
ــ هذا ما حدث والله يا ابن العم , لقد راعنى ذلك أيضا وأثار دهشتى مثلك , ولما رأى الشيخ ذلك منى قال ...........
ــ يا ولدى لا يرعك ما ترى , فخدمة الضيف فرض ..
واستمر الشافعى ......
ــ المهم تجهزت للصلاه وصليت الفجر معه فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجلس كل منا فى مصلاه إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال , ثم رجعنا إلى الدار ثانية ..
سأله عمه .......
ــ وبعد أن ختمت الموطأ , ماذا أنت فاعل يا ابن إدريس ؟.
ــ من الغد إن شاء الله سأتحرى دروس العلم فى المدينه وأداوم عليها .. علمت أن هناك حلقة إبراهيم بن سعد الأنصارى وحلقة عبد العزيز بن محمد الدراوردى وعبد الله بن نافع الصائغ وغيرهم .. ليتنى أتمكن من جمع ما فى حوزتهم من علوم كما فعلت مع شيوخ مكه ..
ــ وما تلك الأفراس الخرسانيه .. لمن تكون ؟. والله ما رأيت كراعا مثلها , لو قدمت المصابيح إلى جلودهن لأوقدت ..
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إنها لى يا عماه ..
شهق الجميع وهم يقولون فى نفس واحد.......
ــ ماذا تقول ؟. لك ؟.
رد ضاحكا .........
ــ طبعا لم أشتريها .. إنها هدية الشيخ يا عماه ..
ــ هدية من الشيخ . كل هذه الأفراس ؟.
ــ والله يا عم ما إن رأيتها واقفة لدى الباب وأنا خارج من داره , لم أزد على أن قلت ....................
ــ الله .. ما أحسن تلك الأفراس .. وما أجملها ..
ــ إنها هديتى لك يا أبا عبد الله ..
ــ يا سيدى .. ما يكون لى ذلك .. إنه لكثير ..
ــ قلت هى كلها لك ..
ــ إذن دع لنفسك واحده ..
ــ لم ؟.
ــ كى تركبها .. أتكون لديك كل هذه الكراع من مهارى خراسان , وتسير على قدميك ؟.
ــ يا شافعى إنى لأستحيي من الله تعالى ومن رسوله "صلى الله عليه وسلم" أن أطأ أرضا فيها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بحافر دابه ..

يتبع إن شاء الله ............
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 03/08/2012 الساعة 14h48
رد مع اقتباس