عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 04/11/2008, 15h32
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي


(4)
144 هجريه .. بلاط المنصور بالهاشميه
@ داخل قصر كبير شيده أبو العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس , ليكون مقرا للخلافة والحكم بمدينة الهاشميه التى تقع فى العراق بين الكوفة والأنبار . وفى صدر قاعة الحكم أو ما يعرف بالإيوان , جلس رجل نحيف يميل إلى الطول والسمره فى منتصف العقد الخامس من العمر , يتميز بجبهة عريضة وأنف أقنى ولحية خفيفه وفى عينيه دهاء وخبث . إلا أنه تغلب عليه أمارات الحلم والكياسه وتعلوه المهابة والوقار وله قبول عند كل من يراه . إنه الخليفة العباسى الثانى أبو جعفر المنصور , المؤسس الحقيقى لدعائم دولة العباسيين . وعن يمينه جلس ولده محمد , ولى العهد والخليفة المنتظر من بعده , له من العمر ستة عشر عاما ويماثل أباه فى الطول والسمره , كما توحى ملامحه بالسماحة والطيبة التى لا تخلو من قوة وبأس . وعلى مقربة منهما وقف الربيع بن يونس , كبير الحجاب والساعد الأيمن لأمير المؤمنين وصاحب الرأى والمشوره . وإلى جواره أبو أيوب الموريانى كاتب الديوان الأكبر . كان المنصور يتبادل بعض الكلمات همسا مع ولده محمد المهدى بعدها التفت إلى الربيع بن يونس قائلا وعلى شفتيه ابتسامة عريضه ...
ــ بلغنى أيها الحاجب أنك أصبحت أبا .. صحيح هذا ؟!.
تنحنح الربيع قبل أن يرد قائلا ...
ــ أجل يا مولاى .. أنعم الله على بعد طول انتظار .. بولد .. فى عهدكم الميمون ..
ــ أهو ولد إذن ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين, رزقنى الله بولد أسميته الفضل , أدام الله فضلكم وأعز البلاد بكم يا أمير المؤمنين ..
ــ حسن . حسن . الفضل بن الربيع إسم طيب . أمرنا له بألفى درهم من بيت المال وجارية لرعايته ..
رد قائلا وهو يبالغ فى إظهار السرور والرضا ...
ــ كثيرا ما تغمرنا بعطاياك وإنعامك علينا يا مولاى ..
قالها , ثم أدار رأسه وراح يحدث نفسه , وهو يضغط على أسنانه فى غيظ وحنق .....
ــ ألفى درهم فحسب أيها البخيل , حسبتك ستأمر لى بألفى دينار , أهذه عطية تعطيها لرجلك الأول وكاتم أسرارك !. صدق والله من لقبك لبخلك , بأبى الدوانيق ..
أفاق من حديث النفس على صوت المنصور يسأل فى حده ....
ــ هل بالباب أحد ينتظر الإذن بالدخول علينا ؟!.
أجابه حارس الباب ....
ــ نعم يا مولاى هناك رجل من الزهاد تبدو عليه أمارات الورع والتقوى ..
ــ من يكون هذا الرجل ؟!.
ــ لا أعرفه يا مولاى .. إنها أول مرة أراه هنا ..
ــ ماذا يريد ؟!.
ــ يدعى أنك لقيته فى الهاشمية بالأمس وطلبت إليه الحضور اليوم إلى هنا !.
ــ آه .. آه , تذكرته إنه أبا عثمان عمرو بن عبيد , أدخله فى الحال !.
وفى خطوات بطيئة متثاقلة تقدم شيخ طاعن فى السن مقوس الظهر له لحية طويلة بيضاء ويرتدى زيا خشنا . دخل وهو يتوكأ على عصاه , ثم توقف فى منتصف القاعة وألقى السلام . تلقاه المنصور مكبرا له حفيا به قائلا ....
ــ عليك السلام يا أبا عثمان , تقدم واقترب منا فما أحوجنا لمجالسة أمثالك من أهل العلم والورع والزهد والإستماع إلى نصحهم وموعظتهم . إن من حولنا يذكروننا بالدنيا الفانيه , وأنت وأمثالك تذكروننا بالآخرة الباقيه ..
ــ بارك اله فيك يا أمير المؤمنين ..
ــ كيف حالك وحال أهلك يا أبا عثمان ؟!.
ــ بخير حال يا أمير المؤمنين ..
ــ عظنى يا أبا عثمان , فإنى مشوق والله لسماع مواعظك وحكمك ..
إتجهت إليه أنظار جميع من بالمجلس .. وهو يقول فى صوت هادئ رخيم ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ..
رد المنصور فى صوت متهدج باك وقد أخذه الحزن والدهش .....
ــ صدق الله العظيم . ما أحكم تلاوتك للقرآن يا أبا عثمان , كأنى والله لم أستمع لهذه الآيات المباركات إلا الآن . آآآآآآه زدنى أيها الزاهـد زدنى ..
ــ إعلم يا أبا جعفر أن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها .. فاشتر نفسك ببعضها .. وأن هذا الأمر كان لمن قبلك .. ثم صار إليك .. ثم هو صائر لمن بعدك .. واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامه ..
صمت برهة واستأنف قائلا ...........
يا أيهذا الذى قد غره الأمل ؛ ودون ما يأمــل التنغيص والأجل ..
ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ؛ كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا ..
نظر الربيع تجاه أمير المؤمنين فرآه وقد أطرق رأسه باكيا , حتى أن دموعه سالت على لحيته وبللتها . إلتفت للشيخ الزاهد قائلا فى صوت هامس يحاول إسكاته ....
ــ رفقا .. رفقا .. على رسلك أيها الشيخ .. لقد غممت أمير المؤمنين .. وأبكيته ..
سمعه المنصور فأشار إليه براحة يده طالبا منه أن يكف لسانه . أبى الشيخ أن يدعه دون أن يؤنبه على مقاطعته , فهؤلاء الناس كانت لهم منزلة ومكانة تجعل الواحد منهم لا يقيم وزنا لأى أحد من حاشية أمير المؤمنين ولا يخشون لهم بأسا .. نظر إليه قائلا ....
ــ وماذا على أمير المؤمنين أن يبكى من خشية الله عز وجل ..
ثم استدار ناحية المنصور وهو يشير على الربيع مستأنفا كلامه ....
ــ إن هذا صحبك عشرين سنة .. لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا .. وما عمل وراء بابك بشئ من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه [
صلى الله عليه وسلم ] ..
نظر المنصور إلى الربيع فرآه ممتعضا يحاول أن يكتم غضبه رغما عنه .. أمره أن يعطى الشيخ عشرة آلاف درهم , لكن الأخير قاطعه قائلا وهو يشيح بيده ....
ــ أمسك عليك دراهمك .. فلا حاجة لى بها ..
رد المنصور فى لهجة قاطعة ....
ــ والله لتأخذنها ..
أجابه الشيخ محتدا ....
ــ والله لن آخذها ..
إنتفض ولى العهد .. هب واقفا يصيح فى وجه الشيخ وقد أثاره رغم حلمه وطيبته أن يرد أحدا أيا كانت منزلته على أبيه بهذه الحدة والجفاء ....
ــ ويحك أيها الشيخ !. ماذا بك .. أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت !. كيــف تجـرؤ ؟!.
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة كأنها سهم .. ثم التفت للمنصور قائلا ....
ــ من يكون الفتى ؟!.
ــ إنه إبنى محمد المهدى وولى العهد من بعدى !.
ــ لقد أسميته إسما لا يستحقه ..
ثم أشار إلى زيه الأسود وهو شعار بنى العباس وأردف قائلا ....
ــ وألبسته لبوسا ما هو له .. ومهدت له أمرا أمنع ما يكون به .. أشغل ما يكون عنه ..
أطرق ولى العهد ساكتا , وقد أدركه الخجل وهو يرى نظرة عتاب فى عينى أبيه الذى قال للشيخ .....
ــ أبا عثمان هل من حاجة أقضيها لك ؟!.
ــ نعم لى مطلب واحد !.
ــ قل يا أبا عثمان , أطلب ما تشاء , أقضيه لك فى الحال كان ما كان ..
ــ لا تبعث إلى حتى آتيك .. ولا تعطينى حتى أسألك !.
ــ إذن والله لا نلتقى .. ولن يصلك منى شئ !.
ــ عن حاجتى سألتنى وأجبتك ..
ثم استدار خارجا وهو يردد ........
ــ والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ؛ والقبر وارث ما يسعى له الرجل
ما كاد يبلغ عتبة الباب حتى رفع المنصور رأسه وأشار إليه قائلا ....
ــ كلكم يمشى رويد . كلكم طالب صيد . غير عمرو بن عبيد ..
وبينما الشيخ فى طريقه إلى الباب , دخل عثمان بن نهيك قائد الحراس على عجل ميمما صوب أمير المؤمنين وهو يقول فى لهفة وجزع .....
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ماذا وراءك يا قائد الحراس ؟!.
ــ عفوا يا مولاى , أمر هام حدث منذ قليل ..
ــ تكلم يا قائد الحراس , ما الذى دهاك يا رجل ؟!.
ــ جماعة الراونديه يا مولاى !.
ــ الراونديه !. ما لنا ولهم هؤلاء الكفرة , وما خطبهم ؟!.
ــ كنا نتصور يا مولاى أنه لن تقوم لهم قائمة , وأنهم استكانوا وخمدت حركتهم بعد محاولاتهم الفاشلة من قبل إشعال نيران الفتن والدسائس , عقيب مقتل الخائن أبى مسلم الخرسانى !.
ــ أتقصد أنه قد خرج بعضهم من خراسان ؟!.
ــ نعم يا مولاى , رصدتهم عيوننا وهم يتحركون من خراسان حتى وصلوا إلى الأنبار !.
ــ أى طريق سلكوا ؟!.
ــ سلكوا طريق الهاشميه ..
ــ معنى ذلك أنهم يقصدون القصر ؟!.
ــ تماما يا أمير المؤمنين ..
ــ كم يبلغ عددهم ؟!.
ــ حوالى ألف رجل بالخيل والعتاد , أو ربما أقل قليلا ..
ــ هل يرددون شيئا ؟!.
ــ أجل يا مولاى .. إستمع إليهم رجالنا وهم يرددون كلاما غريبا من أباطيلهم التى يرددونها دوما !.
ــ ماذا يقولون .. تكلم يا قائد الحراس ؟!.
ــ يقولون إنهم ذاهبون إلى قصر ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم !.
ــ تبا لهؤلاء الزنادقه .. إنهم يقصدوننى بهذه الترهات .. وما أرادوا من وراء ذلك إلا إشعال نيران الفتنه .. هيه وماذا أيضا ؟!.
ــ يقولون إن جبريل الأمين قد حل فى أمير مكه الهيثم بن معاويه الخرسانى .. وأن روح آدم قد حلت فى جسدى أنا .. إلى آخر تلك الخرافات !.
ــ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .. قبحهم الله ولعنهم .. والله لقد صبرت عليهم كثيرا .. لأجعلنهم عبرة لغيرهم ولتكن نهايتهم على يدى هاتين إن شاء الله !.
ــ مرنا يا مولاى نقضى عليهم جميعا فى التو .. ونستأصل شأفتهم ؟!.
ــ لا ليس بعد .. دعنا ننتظر .. لكن راقبوهم جيدا وارصدوا تحركاتهم .. وإذا جد فى الأمر شئ أبلغونى على الفور ..
ــ السمع والطاعة يا مولاى ………………

@ استمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته .....
ــ لم تمض غير ساعات قليلة حتى سمعت جلبة شديدة خارج أسوار القصر , وصلت أسماع الخليفة والجالسين من حوله .. أصوات آتية من بعيد إختلطت فيها هتافات الرجال بدبيب حوافر الخيل وصهيلها .. وعلى عجل دخل قائد الشرطة قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ما وراءك يا قائد الشرطه ؟!.
ــ جماعة الراوندية يا مولاى .. وصلوا للأبواب الخارجية للقصر ..
ــ هذه الأصوات والجلبة إذن صادرة عنهم ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين ..
ــ ما الذى يفعلونه !. هل حاولوا أن يتحرشوا برجالنا ؟!.
ــ لا يا مولاى .. إنهم يطوفون حول القصر فحسب .. ويقولون للناس هذا بيت ربنا , ونحن نطوف من حوله ..
ــ تبا لهم .. إذهب أيها القائد إلى هؤلاء الأبالسه وخذ معك بعضا من الجند واطلب إلى قادتهم أن يأخذوا عتادهم ويرحلوا عنا إلى ديارهم فى الحال ..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. إن هؤلاء القوم لا يفيد معهم نصح ولن يجدى حوارا معهم ..
قاطعه المنصور فى حزم وقد بدا نافد الصبر .....
ــ إفعل ما آمرك به أيها القائد ..
ــ أمر مولاى أمير المؤمنين .... فإن أبوا أن يستجيبوا لنا .. هــل نقاتلهم يا مولاى ؟!.
ــ لا .. ليس الآن .. إن امتنعوا .. خذوا قادتهم من بينهم بالحيلة .. وألقوا بهم فى السجون .. ثم انتظروا ما آمركم به ………………
----------
إستطرد الشيخ يحكى لابنته ....
ــ وفى الحال توجه موسى بن كعب قائد الشرطه ومعه عددا من رجاله إليهم .. سأل عن قادتهم حتى تعرف عليهم .. ثم بدأ يتفاوض معهم متذرعا بالصبر رغما عنه كما أمره المنصور , محاولا إقناعهم بالعودة إلى ديارهم , وأن يكفوا عن ترديد أباطيلهم ..
ــ لم يا أبى !. أقصد لم تذرع بالصبر ؟!.
ــ إنه يا ابنتى رجل حرب .. لا يعرف إلا لغة السيوف المكتوبة بالدماء ..
ــ وهل تمكن من إقناعهم بذلك ؟!.
ــ هيهات يا ابنتى هيهات .. إنهم قوم شديدوا المراس .. متطرفون فى معتقداتهم وسلوكهم !.
ــ ما الذى فعله قائد الشرطة إذن يا أبى ؟!.
ــ لم يجد أمامه بعد أن فشل فى إقناعهم .. إلا أن ينتقل إلى الخطوة التالية كما أمره المنصور .. ألقى القبض على قادتهم وقيدهم بالأغلال ثم ساقهم إلى سجون الهاشميه .. غير عابئ بغضب أتباعهم !.
ــ والباقون ماذا فعلوا .. هل انصرفوا أم قاوموهم ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك .. لم ينصرفوا ولم يقاوموهم ..
ــ ما الذى فعلوه إذن ؟!.
ــ أخذهم العجب وتملكتهم الدهشة مما فعله قائد الشرطه معهم .. وغضبوا منه غضبا شديدا !.
ــ أمر طبيعى أن يفعلوا ذلك .. فهم كما أخبرتنى كانوا يتصورون أنهم يرضون أمير المؤمنين بكلامهم هذا .. وهم يرفعونه لمرتبة الألوهيه !.
ــ تماما .. كما قلت يا ابنتى .. ذلك ظنهم الذى أرداهم موارد الهلاك !.
ــ هيــــــه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ حسنا .. سأخبرك يا ابنتى . لا زالت لتلك الأحداث بقيه .. ويالها من بقيه !!..


@ إنتظرت جماعة الراوندية مكانها دون جدوى بعد أن خاب ظنهم وطال انتظارهم حتى أخذ منهم الضيق كل مأخذ .. لم يعد قادتهم من مفاوضاتهم التى كانت تجرى بينهم وبين قائد الحراس .. وأخيرا أرسلوا واحدا منهم يتبين حقيقة الأمر ويأتيهم بالنبأ يقين .. عاد وأخبرهم أن رجال المنصور احتجزوا قادتهم وأودعوهم سجون الهاشميه ..
تملكهم غضب شديد بعد أن نزل الخبر عليهم كالصاعقة وأخذوا يتراطنون بأصوات عالية متداخلة .. كلاما غريبا غير مفهوم وهم يتداولون أمرهم فيما بينهم .. شعروا بالإهانة التى لحقت بهم وأنهم أخذوا على حين غرة منهم .. وأخيرا قرروا بعد نقاش حاد وأخذ ورد وضع خطة يردوا الإعتبار بها لقادتهم .. ويدفعوا عنهم تلك الإهانة ويستردوا كرامتهم التى أهدرت ..
إتفقوا على أن يقسموا أنفسهم مجموعتين بعضا منهم وهم الأقل عددا ينتظرون مكانهم للمراقبه ومتابعة الموقف .. والآخرون وهم الأكثر عددا تحركوا وهم يحملون نعشا فارغا على أكتافهم وكأنهم يشيعون جنازة .. بدا مسلكهم الطائش وحركاتهم العصبية أمرا مثيرا للسخرية والضحك أكثر منه للرثاء والشفقه ..
أخذوا يجوبون طرقات المدينة وأزقتها وهم يدقون الأرض بأقدامهم ويرددون فى عصبية كلمات فارسية غير مفهومة .. بينما أهل الهاشمية ينظرون إليهم وهم فى عجب من أمرهم .. البعض يضحك فى سخرية والبعض الآخر لما عقدت الدهشة ألسنتهم أخذوا يضربون كفا بكف وهم يرددون لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنهم يعرفونهم منذ زمن ويعرفون أساليبهم وأنهم دعاة باطل وبهتان .. لكنهم لا يستطيعون إيذاءهم أو التحرش بهم إلا إن أمر الخليفة بذلك وأذن لهم به ..
توجه حملة النعش فى نهاية المطاف إلى أبواب السجن الكبير الذى يقع قريبا من قصر الحكم .. وهناك إشتبكوا مع الحراس القائمين عليه . كانوا كثرة والحراس قلة .. فأداروا معركة غير متكافئة أمكنهم بعدها من إخراج قادتهم بالقوة من داخله .. ثم أخذوا طريقهم إلى أبواب القصر ليثأروا لأنفسهم ولقادتهم أولئك من المنصور ورجاله ..
علم بذلك فنادى على كبير الحجاب الربيع بن يونس وأمره أن يرسل مناديا ينادى فى المدينة ليعلم الناس بأوامره .. ويستنفرهم لقتال هؤلاء الكفره وفى نهاية كلامه أكد عليه قائلا فى حده ....
ــ تول بنفسك الإشراف على إغلاق أبواب المدينة كلها .. وعلى الأخص باب خراسان .. وقم بالمرور عليها لتتأكد بنفسك من وجود حراسة مشددة على جميعها ..
بعد أن خرج الربيع على عجل لتنفيذ أوامر المنصور .. إلتفت إلى قائد حراسه الذى وقف على مقربة منه متأهبا فى انتظار أوامره .. وخاطبه فى لهجة حادة قاطعه ....
ــ خذ معك بعض الجند والزم باب القصر الشرقى لا تغادره أبدا .. إياك أن تدع أحدا من هؤلاء الزنادقة يفلت من قبضتكم أو يخرج سالما .. إقتلوهم جميعا حيث وجدتموهم واستأصلوا شأفتهم .. لا تبقوا على حياة أحد منهم فإنى لا أريد أن أسمع لهم ذكر بعد اليوم ..
إنتهى المنصور من إصدار أوامره .. ووضع كل واحد من القواد مكانه واطمأن على توزيع رجاله فى أماكنهم .. وأعد الساحة للقتال ثم نزل وحده قاصدا أبواب القصر ..وقد تكبدت الشمس السماء .. أخذ يرقب فى قلق ساحة المعركة الممتدة أمام القصر .. لكن سرعان ما تبدل همه فرحا وتهلل وجهه سرورا لما رأى قومه يؤازرونه ويناصرونه .. رأى أهل البلاد وقد وفدوا من كل حدب وصوب .. يحمل كل واحد منهم سلاحه فى يده وكلهم حماس للقتال والنزال والشهادة فى سبيل الله ..
وفى تلك الأثناء وقد تزاحمت الأقدام فى الساحه .. والناس يتدفقون من هنا وهناك كالسيل المنهمر .. جاء الربيع بن يونس بعد أن انتهى من مهمته فى تأمين مداخل المدينة وإغلاق أبوابها. . تقدم إلى المنصور قائلا وهو يسوق أمامه إحدى الأفراس المطهمه مشيرا إلى ظهرها ...
ــ تفضل يا مولاى ..
قالها وهو يمسك بخطامها ثم وقف إلى جواره قائما على حراسته .. وبينما المنصور يرقب ساحة القتال من مكانه .. إذا به يرى من بعيد فارسا ملثما لا أحد يعرفه .. يقاتل فى بسالة وفدائية وهو ينقض كالأسد الهصور من كل ناحية هو وأعوانه الذين أتوا معه على الراوندية فيحصدونهم حصدا .. رأى الناس ذلك فزاد من حماسهم وإقدامهم على القتال فى بسالة وعزيمه ..
أخذ المنصور ينظر فى إعجاب إلى صاحب اللثام هذا .. وهو فى شوق لمعرفة هويته محدثا نفسه ....
ــ من يكون يا ترى هذا الفارس الجسور الذى انشقت عنه الأرض .. إننى لم أر مثله شجاعة وبسالة قبل اليوم ..
ظل يدقق النظر إليه متفرسا فيه وهو يتابعه بعينيه دون جدوى .. وإذا بالملثم بعد حين من الزمن يتقدم ناحيته آخذا بلجام دابته قائلا ....
ــ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن ترجع عن ساحة القتال فإنك اليوم تكفى .. نحن كلنا جميعا جندك وحراسك .. وأرواحنا فداؤك يا مولاى ..
أبى المنصور أن يترك ساحة القتال وأصر على البقاء بين الناس يشاركهم معركتهم قائلا له .....
ــ لست أنا أيها الفارس من يترك رجاله فى تلك الوغى ويجلس وحده .. سأكون بإذن الله آخر من يغادر هذه الساحه .. إنها معركة الشرف ولا أحب إلى من قتال أعداء الله والإسلام ..
رأى الملثم ثبات المنصور وإصراره على البقاء بين رجاله .. وهو مشفق عليه خائف أن يناله سهم طائش أو رمح صائب .. أدار رأسه ناحية الربيع قائلا له بلهجة قاطعة ....
ــ ما دام أمير المؤمنين يصر على البقاء فى أرض المعركه .. دع إذن هذا اللجام عنك يا أبا الفضل .. فأنا أولى منك بالذود عن مولاى ..
قاومه الربيع محاولا دون جدوى أن يسترد اللجام منه .. كانت قبضة الفارس أشد تمسكا به وهو يقول له ....
ــ دعك من هذا أيها الحاجب الأكبر .. إن هذا اليوم ليس من أيامك ..
عقب المنصور قائلا بفخر وإعجاب وقد أشرق وجهه وتهلل فرحا ....
ــ صدقت أيها الفارس المقدام .. دع اللجام يا أبا الفضل ..
أطاع على مضض منه وهو ينظر إلى غريمه الملثم فى غيظ وحنق .. فى الوقت الذى استأنف فيه معركته وهو يدفع عن المنصور ويحميه من أعدائه .. إلى أن قضى على أكثرهم قضاء مبرما ..
بقيت شرذمة قليلة منهم لم يلقوا حتفهم .. حاولوا الفرار بعيدا عن ساحة القتال على أمل أن يهربوا بجلدهم سالمين .. وجدوا الأبواب جميعا مغلقة أمامهم كلما تركوا بابا ذهبوا لغيره ليجدوه موصدا والحراس يسدونه بأجسادهم .. وأخيرا تأكدوا أنهم قد أحيط بهم فتصدى لهم أهل المدينة ولم يتركوهم حتى أبادوهم عن آخرهم .. وقبل أن يؤذن لصلاة العصر كانت المعركة قد انتهت وانقشع غبارها ..وعندئذ أمر المنصور أن تقام الصلاة وصلى إماما بالناس فى ساحة القصر ..

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h37
رد مع اقتباس