وقد وقع الزميل الحلي في مأزق وحيرة في إدارة دفة النقاش الذي ساد جو المحاضرة التي كان مخصص لها ساعة ونيف من الوقت لتصبح ثلاث ساعات من الحبور والأنشداد ، تمثل بتدفق المعلومات التي جاء بها السيد المحاورعن الرائد "عزيز علي " من خلال أصالة بغداديه عُرف بها ، فهو أبن محلة " فضوة عرب " في رصافة بغداد ومشاهداته الشخصية للفنان البغدادي الكبير الذي كثيرا ما كان يرتاد تلك المحلة وبقيت صوره في ذهن المحاضر وكانها حدثت بالامس ، وبين ما تضمنته ذاكرة الاستاد " العلوي " البغدادي هو الأخر والصديق الشخصي للفنان الكبير، الذي زيّن اول خطواته في التأليف بكتابه " اللحن الساخر " من خزين بديع ورؤى عن هذا الفنان الكبير .. كانت المعلومة تتجدد ، كلما ذُكرت ، ثم يتوالى سيل المعلومات بالتدفق من الحضور الذي سعُد بسماع منلوجات " عزيز علي " المشهورة وكذلك غير المعروفة التي يحتفظ بها المحاضر في مكتبته الغنائية المخصصة لكل غناء عراقي أصيل ..
ان " عزيزعلي " من رعيل عراقي أصيل ، أسس لمشروع نهضوي ذاتي متعدد الأختصاصات والمواهب وكانه شكل رد فعل معاكس لقرون من الدعة وحرّك نزعة الأنعتاق العراقي ... لقد وظًف هذا الفنان الكبير الأهزوجة والأمثال الشعبية والقصة والطرفة في حبكة شعرية ، مبسطة مفهومة وجميلة ، وطرق بكل هذا الكم والزخم الفني المؤطر سياسياً وأجتماعياً على أبواب المجتمع ، فتلقفه الناس كل حسب مدى فهمه ومستوى أدراكه ... وما تزال قصائد " عزيز علي "ومونوجاته حاضرة في الوعي العراقي لصدقها وألتزامها الوطني ومقاربتها هموم الناس وآهاتهم اليومية ..
بماذا تميز" عزيز علي " ؟
بهذا السؤال ، أستهل المحاضر ، كلامه ، ثم اجاب قائلا : تميز هذا الفنان بنقده اللاذع حد التهكم لسلبيات الواقع المرير الذي عاشه العراقيون ولم يدخر جرأة ولا مبادرة في نقد الفكار والعادات المتخلفة وهاجم دون خشية مظاهرالدجل والشعوذة والتصنع كما لم يدخر وعياً لغوياً ونفسياً إ لا وجسده في تناول الأمثال والجمل الشعبية البغدادية ، وأنه لم يتزلف او يحابي طمعاً في أمتيازات وكان له موقف سياسي نقد فيه الحكومات المتعاقبة على العراق ودافع عن حق المواطن بالوجود وأرجع الأمر الى المستعمر وأذنابه وكأن الحياة تدور دورتها كل مرة ، بمهزلة او تراجديا كما قال احد الحكماء.
وبعد ان قدم المحاضر نماذج من منولوجات " عزيز علي " من خلال جهاز التسجيل ، توقف ليؤكد القول بأن الفنان الرائد ، كان ناقداً ناضجاً شديد الغضب على حالة الفن في العراق في فترة ما قبل خمسينيات القرن المنصرم ، سيما حالة الغناء والألحان التي كانت سائدة ، فكان يصفها بالميوعة ومخاطبة الغرائز.. وحمل الموسقيين اليهود مسؤولية تدني الذوق العام ، كما حمّل الفنانين العراقين الذين حلوا محل الفنانين اليهود مسؤولية تدني الذائقة العراقية ، وأتهمهم بأنهم قلدوا من سبقوهم في الغناء والتلحين ... وكان يطالب بأن يرتفع الفنان من خلال ابداعه بمستوى ذوق الجمهور لا ان ينزل الى مستوى الجمهور .
وكشف المحاضر عن رؤية الفنان الكبير " عزيز علي " للمونولوج ، حيث قال انه أجاز ان يكون نثرا او شعرا ويصح ان يلقى إلقاءا ، كما يصح ان يلحن تلحيناً حسب متطلبات الحال ومقتضيات المقام ، شريطة ان يستهدف غاية معينة مفيدة ، كما يجب ان يخرج اخراجاً مبتكرا ، مقبولا ... وعدا ذلك فانه يصبح لغوا وخلطاً !
ويبين المحاضر صحة رؤى الفنان الكبير، حيث دخل الاذاعة سنة 1937 من خلال هذا المنولوج المشروط .. وسرعان ما تجاوبت ازجاله وأقواله مع مشاعر الناس بمختلف أعمارهم ومداركهم ، شيوخا وشبانا ، رجالا ونساء ، المتعلمين منهم والأميين .. وقد تميزت اعماله بطابع النقد المسؤول ، فلا يجد سامعها او قارؤها مدحاً ولا شتماً ، وقد برر الفنان ، ذلك بالقول ان لكل أنسان في هذه الحياة سبيلاً يقوده اليه ، معدنه وتربيته وثقافته ووسطه وبيئته الى جانب عوامل ومؤثرات اخرى خارجية كثيرة ..
وللفنان " عزيز علي " فلسفة في صيرورة النفس البشرية ، فهو يقول انه ( يعتبر الأقوال والأفعال الحسنة التي تصدر عن الأنسان ذي المعدن الطاهر الثمين إنما هي تحصيل حاصل ، لابد لها ان تكون حسنة ... إما ذو المعدن الردئ ، فعذره معه ، اذ لا يجب ان نتوقع من أقواله ومن افعاله ماهو اكثر من قابلية معدنه ! )
موهبة الأستشعار.. !
وخلص المحاضر الى القول ، ان " عزيز علي " ربما لم يكتشف في نفسه ظاهرة موهبته الفطرية التي يفتقدها اكثر السياسيين حنكة ودراية ، تلك هي قوة إستشعاره للأحداث والحوادث ، فقد كانت مونولوجاته ، مقالات ورسائل انذار مبكر للحاضر المريض فيما هي كانت في الواقع تحاكي الواقع المستقبل وكأنها تعيشه بكل تفاصيله .. لذا فأن كل مونولوجاته التي نستمع اليها ونتناغم معها ، تصلح اليوم وعندما نستمع اليها نكوّن وصفاً دقيقاً لواقعنا السياسي والأجتماعي وأرهاصاته وتداعياته وإنكفاءاته وأمراضه ... انه يبرهن على براعته السياسية ، رغم انه لم يكن منتمياً لأي حزب سياسي .. وقد قال يوماً في حديث ، انه لم يذهب الى مجتمع الكبار ولم يسلك هذا الدرب أبدا رغم الدعوات الكثيرة التي كانت ترده لأن عقيدته كانت تتعارض مع مصالح اولئك اضافة الى انه لم يسخر فنه للأرتزاق والكسب والثراء ولو " فعلت ذلك لأصبحت مليونيراً "
مداخلة " حسن العلوي "
وفي مداخلته ، تساءل الكاتب " حسن العلوي " مؤلف كتاب " اللحن الساخر" المكرس لفن وعطاء صديقه الرائد الكبير" عزيز علي " عن الوعي السياسي والاجتماعي المبكر للفنان ، الذي وحّد أذواق الناس وهي مختلفة ، ووحّد أذواق الناس فيه ، فأجاب عن تساؤله بالقول : أنا لم أعرف فنانا قبل " عزيز علي "أستطاع ان يوحد مشاعر الكوخ والقصر على صعيد واحد ، ويجمع العامل والمفكر في رأي واحد ... ولم أجد صوتاً كصوت عزيز علي أرتاحت لسماعه العجوز الفانية والفتاة الهيفاء على السواء ، ولم أر أغنية تردد على لسان المثقفين والأميين والأطفال في وقت واحد ، ولم يسبق للشعب العراقي ان توحد ذوقه الفني في فنان ، كما في " عزيز علي "
وحدث " العلوي " ضيوف المنتدى الثقافي العراقي بدمشق ، بأسلوب الحكواتي الجميل ، عن ذكريات صباه مع صوت الفنان ، فقال : عندما تحل الثامنة والنصف من مساء كل يوم اربعاء ، ينساب السحر الحلال ، فتشرئب الى الراديو أعناق الرجال في مقهى " رجب " في كرادة ، بغداد و تتحرك اللجى .. ان " عزيز علي " يصدح بصوته الأن ، كان هذا الصوت يجمعنا ، نحن الصبية ، مع رجال المقهى ، يحركنا كما يشاء ، فنضحك حين يضحك ونسخر حين يسخر... كنا نمخر عباب البحر في مونولوجه الشهير ( السفينة ) وكان مونولوجه ( الدكتور ) يأخذنا الى حيث نكشف امراض المجتمع .. وعندما تنتهي الدقائق العزيزة المخصصة لهذا الفنان من قبل اذاعة بغداد ، نقوم بترديد كلمات مونولوجاته بينما تنهال عبارات الثناء التي يطلقها رجال المقهى ..
تلك كانت صور الصبا التي علقت في ذاكرة " حسن العلوي " ويضيف بصددها متحدثاً : انها صور لا أستطيع سلخها من ذهني ولا تستطيع هي ات تنسلخ من مخيلتي .. وقد رافقتني حتى كبرت ، فكبرت معي ، وعندما دخلت الثانوية ثم الجامعة ، وجدت زملائي يتحدثون هم الأخرون عن ساعة " الاربعاء " بمثل ما أتحدث !
ثلاث مواهب ..
وقال العلوي ، ان ثلاث مواهب اجتمعت في الفنان : شعرية وصوتية وموسيقية ، سخّرها جميعاً لقضية الشعب ، وهو عانى الجوع والحرمان وعاش السجن والاعتقال والاضطهاد كأي أعتقادي ملتزم ، ثم هو فوق هذا وذاك ، رائد أستطاع ان يضيف الى التراث لوناً غنائياً جديداً لم يألفه العراق من قبل .. وقد تعاطف العراقيون مع فنانهم ومنحوه سخاء عواطفهم ، بعد ان وجدوا فيه المعبر عن طموحهم وتطلعاتهم في الحياة .
وعن دافعه ، ليكون اول مؤلفاته كتاب عن " عزيز علي " قال العلوي : دفعني للكتابة عن هذا الفنان الكبير ، صورة الطفولة الأولى والحاجة الى صوت نضالي يجمع صفو الشعب ، وكذلك ملاحظتي لتجاهل الأدباء والمسؤلين والصحفيين لهذا الفنان الأصيل وموقف الأذاعات العربية غير الودي منه ، سيما "اذاعة بغداد" وأخيراص موقف الثورات والثوريين من هذا الثائر الملتزم .. كل ذلك دفعني لتأليف كتابي ، وقد حاولت ان أكون جريئاً ، لقناعتي بانه بدون الجرأة لا أستطيع ولا يستطيع غيري ان يرافق "عزيزعلي" في نضاله وان اكون الرفيق الأمين لمونولوجاته ، أسير حيث يسير وأدور حيث يدور ، وانا لا أنكر تحيزي وأنحيازي له ، فالتحيز يولد حيث يولد الأعجاب ويولد الأعجاب حين يتكامل النجاح في أي أديب وفنان ، وقد تطور أعجابي بعزيز علي مع تطور مداركي ومع تطور الحاجة الوطنية لمثل هذا الفن الذي جعل من الغناء ، غذاء نضالياً لجموع الشعب .
شجرة تشرب الجفاف !
.. وهكذا هو " عزيز علي " فنان كبير ، رسم خارطة اجتماعية عراقية ، بحس ورؤية وطنية ، فلم يتخذ من رسالته الوطنية دعاية او وسيلة للتزلف او المراهنة وكان يتمتع بشخصية مهابة ، ويحرص على الأناقة في الملبس وفي الكلام وهو محب للنكته وقد غادر الدنيا في العام 1998 وكان ولده " عمر " قد سبقه الى دنيا الخلود شهيداً في الحرب العراقية ــ الايرانية ..
وبكلمة صغيرة اقول مشاطراً رأي الاستاذ " العلوي " : ان الرائد الكبير " عزيز علي " كان شجرة تصارع الريح اللئيم وتشرب الجفاف , بانتظار المطر ، الذي لن يهطل ... أبدأ !!
ــــــــــــــــــــــــــ
بانوراما..
** عزيزعلي .. ولد في كرخ بغداد سنة 1911
** أنهى دراسته الثانوية في الثانوية المركزية ببغداد سنة 1931
** عرفته الأوساط العراقية خلال عقود طويلة ، شاعرا ، زجّالا .. زاول إنشاد أزجاله من اذاعة بغداد منذ تأسيسها سنة 1936 وراحت أنشاده وأزجاله تتردد على ألسنة الناس في مختلف طبقاتها ..
** كان يحسن اللغات : الألمانية ، الروسية ، العربية ، الكردية ، الفارسية قراءة وكتابة وتكلماً ..لم يتخذ " عزيز علي " فنه وسيلة للعيش ، حيث كان موظفاً حكومياً ، شغل عدة مواقع أدارية ودبلوماسية .
الأربعاء, 05 يناير 2011 18:01
مقال منشور في موقع كتاب عراقيون من اجل الحرية
(المقال وكل ما ورد فيه يعبر عن رأي ووجهة نظر الكاتب فقط وليس المنتدى ولجنة الاحتفالية)