و هذا مقال للأستاذ محمد يتيم عن دراسة في المضمون الديني لكلام الغيوان:
قصيدة ناغنجة
تاغنجة كما هو معلوم طقس اجتماعي شبيه بصلاة الاستسقاء وإن كان ليس طقسا تعبديا، حيث تخرج النساء والأطفال في " تظاهرات إلى الشارع يحملون أعلاما بيضاء وخضراء وهم يرددون دعاء جماعيا ويقولون : "تغنجة تغنجة يارب تصب الشتا"
الاستسقاء هنا ليس طلبا لأمطار الرحمة لأن القحط والجفاف قد أهلكا الزرع والضرع ، ولكنه شكوى من ضياع الحق ومن سيادة الاختلاف والفرقة وكثرة المذاهب والملل والنحل وانتشار الظلم والجوع ومعاناة الصبيان منه ونسيان شرع الله وأمره والاغترار بالدنيا والمال ونسيان عيوب النفس وإصلاح الذات تحت تأثير إغراء المال الذي أصبح هو القيمة التي تعلو ولا يعلى عليها كما تقول القصيدة في نهايتها
آسقينا وآروينا كيف بحرك هيجنا
آسقيناواروينا من بحرك خمرنا
آه يا كريني لاغي وواجه رياح مصيرك
فوق ذاك البرج العالي أمر الله عليه غفلنا
الدنيا بالمال هانا الدنيا بالمال
ها انت لاغي عل لهياج ويجيبك هلاله
تحت ضوه تفوز بقراية الكتاب اعرف الحالة لابد لها من تبدال
تذبال لهوال ويبان البرهان
وهكذا تنتهي القصيدة بنهاية متفائلة للتفيير ودعوة للانتفاضة على كل تلك المفاسد الاجتماعية وهو ما تشير إليه القصيدة باستدعاء همة التغيير( لاغي عل الهياج) ولعلة يقصد الثورة التي لابد أن يأتي هلالها وتحت ضوئها لابد أن نعلم أن التغيير لامحالة قادم، وأن الأهوال والظلم إلى زوال ، وأن الحق إلى انتصار .
وذلك ما تشير إليه القصيدة ( بتبدال لهول ويبان البرهان
لكن لا بد من الرجوع إلى وصف الحال وحقيقة الأهوال كما جاء في مقدمة القصيدة
فالشاعر يضرب صفحا عن كل المتع بين الغواني والورود والأجواء المعطرةبعد مجي ء المساء وانتصاف الليل لكن الشاعر لايجد لذة لتلك المتعة ولا لذلك الطيب فالذات لم تبارح حزنها ومصدر الهم هو تواطؤ الناس مع الظلم ـ وهل تبقى هناك آدمية أو إنسانية مع الصمت القاتل وقبول الذل ـ وانشغال صغارهم بصراعاتهم وكبارهم بحيرتهم ولم يبق له إلا أن يتوجه لله تعالى أن يجعل للناس طريقا في هذا المسار المظلم مؤكدا ثقته في التغيير وأن ذلك التغيير يحتاج إلى مبادرة فعالة وليس إلى كثرة الكلام، ذلك ما يقوله مطلع القصيدة :
لعشية عشات والليل راح
ما حلى باللغا يدور ما بين لملاح
والورد عطات ريحته يا حسرة
والذات مازال حزينة
الدم جف يا حسرة
و الذات مازال حزينة
يا ناس وما انتما ناس
يالزايدين المهموم في همه
يا المعاونين الظالم على ظلمه
ياللي صغيركم ف الغيرة وكبيركم ف الحيرة
ربي موري لمريرة ياناس
غير بلاش زيادة الهضرة
ذا العالم من قديم خاصاه نغزة
ولمنازل تتبدل
وتواصل القصيدة مساءلتها للواقع المرير مبرزة مختلف مظاهر الانحراف والفساد . فالحق أدبر وقفله مستعصي على الفتح ومفتاحه مفقود، والعيب أصبح أطنانا والناس انقسموا إلى سبايا وأحرار، لغاتهم مختلفة، كل يغَني بمايته الخاصة ويتكلم لغته الخاصه، ويمارس فهمه الخاص المختلف عن الآخر ، فبالرغم من وحدة الأصل الإنساني وأن كل إنسان ينبغي أن ينظر إلى نفسه وحقيقته من خلال الآخر ، رغم ذاك كله كثرت المذاهب والعقائد
القصيدة إذن قصيدة استسقاء لمطر التغيير من أجل مواجهة جذب السلبية والانتظارية القاتلة والأمراض الاجتماعية المختلفة، من إعلاء لقيمة المال والتفاوتات الاجتماعية والفقر والجوع وانقلاب الموازين والمعايير. إنها دعوة ثورية، روح ثورية تنبعث من بين أبيات القصيدة وكلماتها وجرسها وقوافيها المتاحة من صورة مترسخة في الوجدان والمخيال الشعبي ومنها صورة تاغنجة التي هي مظاهرة اجتماعية للاستسقاء، ألا يمكن أن نجد في ذلك دعوة مغلفة في كثير من الرموز إلى حركة اجتماعية شعبية من أجل التغيير. ربما لم يلتقط الجيل الذي واكب ناس الغيوان إلا الإيقاع والجذبة، ربما لم يلتقط ذلك الجيل من الغيوان إلا البوهيمية الظاهرة ولم ينفذ إلى عمق تجربتهم وتعبيراتهم الفنية.
__________________
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضـــه فكل رداء يرتديه جميـــــــــــــــــــل
و إن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل