شكراً أستاذ عبد القادر وعلى ما قدمته من تعليق , وأنا متفق معك فيما أبديته من آراء حول هذا الموضوع , وهو فعلاً قد كان حالي والذي تكلمت انت بلسانه
والحقيقية ... هي أني لم أك عاجزاً عن تلحين خانة .. بل خانات له
غير أني لم أشأ أن أفسد سرده وتتابعه وهو يقص الحال وبما لا يمل أو يسئم
فهو من الموشحات السردية والتي مهما طالت أبياتها المغناة , فإنك لا تشعر بالسآمة أوالملل منه أو حب التغيير فيه
فإن أي لحن إذا كان قوياً ومتيناً ومعبراً حتى ومع بساطته فإنه ليتفتق تفتق لك عيون معاني الكلام ومن أكمامه
مثل موشح بروحي غزال لعوب طروب , فأبياته كثيرة وطويلة .. غير أن نجاح الأسلوب التلحيني السردي فيه
جعلك ترمل في قراءة الأبيات والتتابع معها وبلذة وسرور ومن غير ملل أو سآمة
وهو باب من أبواب التلحين وفن من بعض فنونه , لا يقل صعوبة عن باقي أساليب التلحين والتي قد يعمد البعض منها إلى إظهار التشابك الهندسي اللحني وبراعة التركيب فيه وبموجب التقيد بميزان إيقاعي ضخم مثلاً كالبرفشان التركي 32/4 ومقام فرعي كالأويج آرا أو الدلكش حوران ..
والبعض الآخر قد يلجأ إلى مسألة التطريب والسلطنة وعلى حساب النظم القصير والبسيط في المعنى
أما ها هنا ..فلم يكن الغرض لا من هذا ولا من ذاك , وإنما اختراع لهو غنى في جمله , ثري في لحنه , مكتمل وتام في صوره وأحاسيسه وكي يصلح صهوة لحن يعذب المطي عليها والجري معها بأبيات نظم رائقة ومعبرة وبكل سهولة ويسر , ومن غير أن يحدث حال إلقائها أي سآمة أو ملل, وكأن الملحن قد أراد بذلك جذب وصرف أسماع المستمع إلى إبراز ما أوحت إليه معاني النظم وبكل لباقة وتناسب , وتناغم وانسجام , تاركة في نفسه كل تأثير وملكةٍ على عواطفه ومشاعره
وأما اختياري لمقام المحير كردي .... فهو وبذوقياتي مقام يعبر عن حالات شتى ومتعددة .. ولكن أقواها وبرأيي هو حال ..
الشكوى مع اليأس , وفوات الأوان , والألم من الهجر , والوقوف على الأطلال , والتغنى بما مضى وفات وانقضت لذائذه مع الحسرة والخسران ..
وقد كان كل ذلك في موضوع النظم الفائت للموشح , وعبق المقام وجوه قد خدم كل ذلك , كما أن مقام النهاوند هو ما يصلح أيضاً للتعايش مع هذا النظم
وليست الجمل اللحنية -أستاذ عبد القادر - هي ما عبرت عن السلطنة والطرب وحسب ...بل هناك أنواع عديدة توحي الجمل اللحنية المبنية والمركبة فيه و إلى حالات مختلفة , ومن نفس المقام والذي تصنعه
فمنها ما هو تطريبي ومؤثر وذو جمل موسيقية شرقية كلاسيكية بحتة مع احتوائه لجملة من التعابير منها ما هو حزين مأساوي ومنها ما هو مفرح وراقص , مثل (بشرف عثمان بك النهاوند )
ومنها ما هو انسيابي وحالم ويدعوك للشرود والتأمل العميق وبشكل عاطفي مروع , مثل ( بشرف محمد بك النهاوند أيضاً ) ومع أن كلا البشرفين هما من مقام واحد , إلا أنه شتان حقاً ما بين العبقين , وعالم ذانك اللحنين
ومنها ما هو حال ..تكون التراكيب اللحنية فيه وبمثابة مقدمات ومهيآت لجملة واحدة فقط هي موطن النشوة (الحبكة اللحنية ) وقد يجعلها ذلك الملحن وعلى حسب ما أراد نقطة قشعريرة توحي بالإمتعاض والإشمئزاز والألم النفسي وبما يجعلك تقف .. وتشرد عندها ..ثم تقشعر وتمتعض وتشمئز وتتألم ... وكل ذلك في حال من اللذة
لأنه استطاع التعبير لك عن حالة نفسية ووجدانية هي موجودة في باطنك وعند هذه الزاوية بالذات .. واستطاع موطن النشوة ذاك الإفصاح عنها وبأقوى بيان .. وبما تشعر به أنت وتحسه ولكن مع انعدام مقدرتك عن التعبير عنه وإبراز مكنونه وبمثل ما حاكاك فيه ذلك الموطن الإنتشائي والذي شعر به الملحن فقدم وهيأ له ..ثم أظهر صوره وبأقوى تعبير وإفصاح
وهو ما يجعلك تطرب ( ومن نوع خاص ) لمثل هذا النوع من التلاحين مثل ( بشرف يوسف باشا النو أثر )
وأما الخيال والشرود مع مواطن اللذة والشعور بالسرور والإرتقاء بالعظمة فاستمع لتسليمة بشرف السيكاه ليوسف باشا , وتأمل معي عظمة اللحن وسعة الخيال فيه وبكل وضوح وجلاء , وهو مما يدل على عظمة الخالق المبدع لا عظمة المخلوق الممدود
وأما نجاح اللحن وقوته الجبارة وخلوده مع فراغ معاني كلماته , وهشاشة نظمه هو أمر جيد وحاصل في كثير من الموشحات والتي خلدت بمجموعها مع بساطة عباراتها
ولكن الأقوى والأنبغ يا عزيزي هو أن يجتمع الأمران اللحن الفائق والنظم الرائق وهو أيضا موجود ومتحصل في كثير من الموشحات الخالدة كموشح طال عمر الليل عندي .. مذ عشقت يا آل ودي (الكردلي حجاز كار ) وموشح إذا دعانا الصبا هببنا (الزنكلاه ) وموشه الهزام والشهير والناجح ( أيها الساقي إليك المشتكي ) وموشح جادك الغيث إذا الغيث هما
وكل هؤلاء هم ذو نظم رائع وبالغ الروعة
ختاماً :
أكرر لك شكري ثانية , مع خالص تمنياتي الطيبة