على غير عادته وفى غير التوقيت ,هب فزعا من رقاده وهو يبسمل ويحوقل ويستعيذ بالله من طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير , ما تصوره كابوس مزعج كان حقيقة واقعه , إنها أصوات حقيقية مفزعه , كانت الريح تزمجر ,تعوى وهى تجرى وتعربد فى فضائها السحيق الممتد خارج الدار ولها صفير يصم الآذان , جلس فى فراشه لحظات يحاول استعادة وعيه ولملمة شتات نفسه , لم تكن تلك هى اللحظة التى اعتاد منذ عقود من الزمان أن يستيقظ فيها ,صارت عادة عنده أن ينتبه من نومه قبل حوالى نصف الساعة من بدء شعائر صلاة الفجر , أمكنه أن يدرب ساعته الطبيعية التى خلقها الله فى مكان ما فى مخ البشر أن توقظه فى نفس اللحظة كل يوم ,لم تخطئ يوما ولم تخرج عن تظامها إلا مرات قليلة يكون فيها الجسد منهكا أو عليلا لا يستجيب ,
حاول أن يعود إلى ما كان عليه من رقاد لكن هيهات ,ظل يتقلب فى فراشه ,لم يغمض له جفن وصفير الريح كاد يدمر سمعه ويحطم آذانه ,أضاء المصباح ناظرا فى ساعته ,بينه وبين صلاة الفجر حوالى الساعه ,حمد الله أن أذن له بذكره ونهض من فراشه ,توضأ واتخذ مصلاه يصلى ركعات فى جوف الليل ثم جلس على أريكته وأمسك بالمصحف يتلو آيات من الذكر الحكيم ,بينما صفير الريح يخف شيئا فشيئا لكنه لم ينقطع , حان ميعاد صلاة الفجر ,إنتظر أن يرفع الآذان مؤذن المسجد القريب ,مضت الدقائق واحدة تلو الأخرى ولم يرتفع صوت المؤذن ,إلى وقت قريب كان حريصا أن لا تفوته صلاة الجماعة وهو الذى اعتاد ذلك سنى عمره الفائت بعد ما ذاق حلاوة الإيمان ,حتى فى الأيام التى يداهمه فيها المرض ويشتد عليه ,إلى أن تداعت عليه العلل فلم يعد قادرا على السير طويلا ,لكنه أحيانا كان يشتاق إلى صلاة الجماعة فيتحامل على نفسه متوكلا على مولاه وهو يتوكأ على عصاه ,
ما زال فى انتظار سماع صوت المؤذن , لكنه لم يأت بعد ,ظن فى البداية أنه ربما أخطأ حساب الوقت ثم قادته الظنون الى احتمال غيابه لعائق منعه من القيام بواجبه اليومى ,أخذت الهواجس والظنون تتقلب به يمينا وشمالا ,ومما زاد هواجسه أنه على غير ما اعتاده كل ليلة لم تصل إلى سمعه أية أصوات من خارج الدار ,حتى نباح الكلاب ومواء القطط انقطع تماما تلك الليله ,لم يبق إلا صمت كصمت القبور مع بقايا صرخات الريح العاتيه ما بين الحين والحين ,إستقر رأيه أخيرا على أن يؤدى الفرض أولا ثم يخرج بعد ذلك كى يستطلع جلية الأمر ......
تأهب للخروج متوكأ على عصاه بينما يده اليسرى تحمل مصباحا من تلك المصابيح القديمة التى لا تطفئها الرياح ,لكنه قبل أن تمتد يده كى تفتح الباب أخذه الروع وشعر بهيبة لم يدر لها سببا ,سيطر عليه شعور قوى أنه سيجد خارج الدار شيئا غريبا لا يعرف كنهه , تراجع قليلا ووقف هنيهة يراجع أمره ويقلب فكره وقد استبدت به المخاوف ,وأخيرا توكل على من بيده نواصى العباد وفتح الباب ,وما كاد يفعل حتى تسمرت قدماه وكاد يقع مغشيا عليه من هول ما رأى ,مما وقعت عليه عينه فى العتمة وأبصرت ما كشفه ضوء المصباح ,
هو فى الحقيقة لم ير شيئا ,أجل لم ير إلا فضاء ممتدا لا حياة فيه ,نظر يمينا وشمالا فلم يجد غير الخلاء كأنه فى مفازة قاحلة جرداء ,إستدار متوجها ناحية النافذة الخلفية ,فتحها متوجسا ليجد الصورة نفسها خلف الدار ,فضاء موحش بارد قاتم لا روح فيه ولا حياه ,تولدت داخله إرادة قوية ووجد شيئا ما يدفعه للخروج حتى يتفقد بنفسه ما آل إليه المكان الذى تركه بالأمس يموج الحياة وحركة وصخبا وضجيجا قبل أن يأوى إلى فراشه ,
مشى خطوات توقف بعدها لحظات ثم عاود سيره وهو يتلفت يمينا ويسارا ,أخذ يحدث نفسه بينما يشير بيده .... هنا مكان المسجد وهنا المقهى القديم ,مقهى السندباد , وفى هذا المكان يفترش الأرض بائع الجرائد والكتب ودكان الحلاق والبقال وعربة الفول وماسح الأحذيه وهنا وهنا وهنا ......
أخذ يسأل نفسه ... أين ذهب ميدان النافوره الذى تطل عليه شرفتى وأين الشارع الذى لم يهدأ لحظة ,أين العمائر والبيوت ,أين سكانها ,والمتاجر ,أعمدة الإناره , إلى أين ذهبت ,
كان من عاداته اليوميه الجلوس ساعة أو أكثر قبل أن يضمه فراشه على أريكة عربية أعدها فى الشرفة الواسعة التى تطل على الميدان ونافورة مضيئة تتوسطه ومن حولها يجلس الناس جماعات وفرادى يثرثرون وهم يتضاحكون أحيانا وأخرى يتنازعون حتى ترتفع أصواتهم .....
ظل يتسائل مناجيا ربه ... يا رب ... هل أنا فى يقظة أم أعانى كابوسا ثقيلا , لا أظن ,منذ لحظات كنت أصلى صلاة الصبح وأقرأ القرآن , ما الذى يعنيه ما حولى ,أرى الموت ,الفناء ... أشم رائحته فى كل مكان , لم تبق إلا الدار التى أعيش فيها , هل مات كل شئ ورحل عنى , أم أنا الذى مات ورحل عنها , ليته يكون الأخير ,فيكون حسن الختام , ويا له من ختام حسن ...
توقف لحظات مكانه شاخصا بصره ناحية السماء ,ثم استدار راجعا إلى داره , مشى خطوات وما كاد يفعل حتى استقرت قدماه مكانهما وهو ينظر قرير العين إلى داره وقد اختفت من مكانها , هبت نسمات باردة على وجهه وهو يتمتم كلمات وقد انفرجت أساريره قبل أن ينطفئ المصباح ...
فأهدت لنا من عطفها يوم سلمت
نسيماً كريح المسك زدنا به وجدا
تمت
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها