ان معرفتي بالعالم علي الوردي قبل افتتاح المثبت الخاص به لم تكن تتعدى المعرفة العامة من خلال كتابات الآخرين التي تشير الى مؤلفات الوردي كمصادر هامة وخاصة كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" بأجزائه الثمانية الذي اكتسب شهرة لا تقل عن شهرة كتاب عبد الرزاق الحسني " تاريخ الوزارات العراقية" بأجزائه العشرة.
قبل اكثر من عام وبينما كنت اهم الخروج من البناية التي اسكنها ، وجدت مجموعة من الكتب الفرنسية على منضدة مجاورة لمكتب بواب العمارة اعتاد بعض سكان العمارة ان يضعوها في خدمة الآخرين بعد قرائتها لغرض التخلص منها. جلب انتباهي كتاب بارز للعيان في اللغة العربية وبحالة جيدة فأخذته فوراً وحفظته في مكتبتي لحين توفر الوقت لمطالعته. لم يكن هذا الكتاب سوى الطبعة الثانية (1995) من كتاب الأستاذ علي الوردي "وعّاظ السلاطين".
جاء افتتاح المثبت من قبل الأستاذ الفاضل والصديق العزيز محمد الساكني ليحفزني على اخراج الكتاب ومطالعته. لقد قرأت المقدمة و بضعة فصول من الكتاب جعلتني افهم سر محاربة النظام السابق للكاتب حتى وان كانت الطبعة الأولى قد صدرت قبل اكثر من 50عاماً. لقد دهشت لجرأة علي الوردي وطروحاته التي أوقعتني في حيرة ذكرتني بما ذكره الأخ الساكني من تساؤلات عن الكاتب وتوجهاته . في البداية أعطاني الكتاب انطباعاً بأن الكاتب يميل أو ينتمي الى تيار أو مذهب معين ولكن ما ان توغلت في القراءة حتى تلاشى هذا الاعتقاد ليحل محله تصور بأنه يميل او ينتمي الى التيار الآخر ليتلاشى هذا التصور بدوره بعد الإيغال من جديد في القراءة.
ان طروحات الأستاذ الوردي وتحليلاته المعمقة والمدعمة بالمصادر الموثوقة بالتأكيد لا ترضي هذا الطرف و لا ذاك. ان العالم علي الوردي هو ثائر من نوع فريد وجديد ، فهو يضرب وبقوة في العمق ويكشف كل الأخطاء والتجاوزات التي يعتقد ان هذا الطرف أو ذاك أو أن هذه الشخصية التاريخية أو تلك قد ارتكبتها ودون مراعاة أو مجاملة الى اي طرف كان. النتيجة هي ان بعض الناس وبحكم انتماءاتهم الفكرية و الاجتماعية وبحكم عاداتهم التي اعتادوا عليها تصيبهم الخيبة من هذا الثائر الذي يكشف عورات هذه الشخصية القريبة الى نفوسهم او تلك الشخصية التاريخية التي كانت ما قبل قراءة الكتاب نموذجية ومثالية ولا يشوبها أي شائبة.
لا شك ان القول بأن احتكاك الوردي بالمجتمعات الغربية وتفاعله مع بعض الظواهر الإيجابية كالديمقراطية و حرية التعبير والرأي والرأي الآخر قد أنضجت أفكاره و شجعته على طرحها ، هو قول قريب الى الحقيقة.
لقد جاء رفع كتاب "من وحي الثمانين" في محله ويلبي رغبة كنت أود ان اطرحها على الأخ الفاضل الساكني كي يزودنا بمعلومات تفصيلية عن هذا العالم الجليل فجاء الكتاب ليسلط الضوء على الوردي وافكاره و سيرته ويكشف لنا اشياء كثيرة. لقد تصفحت هذا الكتاب و اكتشفت بأن الوردي وكما قال بعض الأخوة قد تراجع عن بعض طروحاته و السبب الأرجح هو الضغوطات الكبيرة التي تكاثفت حوله وحاصرته من كل جانب وهو في أواخر عمره.
نعم ان علي الوردي جريء وشجاع وثائر فريد من نوعه لأنه تناول مواضيع وظواهر اجتماعية وتاريخية وقام بتحليلها بطرق موضوعية علمية بهدف كشف الحقيقة كما هي وبهدف إرضاء المنطق وليس إرضاء رغبات الآخرين. انا اعتقد أن هناك العديد من المثقفين ممن يؤيدون او يؤمنون ببعض او كل طروحات الوردي ولكن لا يجرأون على الجهر بها .