الموضوع: صبري مدلل
عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 28/10/2010, 07h53
براء السيد براء السيد غير متصل  
عضو سماعي
رقم العضوية:459796
 
تاريخ التسجيل: septembre 2009
الجنسية: سورية
الإقامة: سوريا
المشاركات: 86
افتراضي صبرى

قال لي صبري مدلل
كاتب النص الروائي المعروف جمال الغيطاني



عندما قال لي الصديق محمد قجة رئيس جمعية العاديات أن صبري مدللسوف يجئ الليلة إلي البيت في سهرة محدودة العدد، تقتصر فقط علي الأصدقاء المقربين،بصراحة فرحت في زمن قل فيه الفرح.
صبري مدلل أحد أعظم المطربين الحافظين للغناءالعربي الأصيل، حتي بداية التسعينيات لم أسمع به. كنت أعرف صباح فخري منذ الستينياتنجم الطرب العربي، ابن حلب، ذا الشهرة الواسعة الآن، سمعته لأول مرة في معهدالموسيقي العربية بالقاهرة، لفت نظري جمال صوته ونقاؤه. وقدرته علي الأداء السليم،وبلوغ صوته أقصي درجات الارتفاع، مع هدوء الملامح فكأنه يتنفس بشكل طبيعي، مازلتأذكر أداءه لآهات رائعة، رغم كل ماسمعت بعدها إلا ان تلك الآهات ماتزال تتردد فيوعيي وتلامس ذاكرتي عند لحظات الشجن الحاض علي الاستدعاء. لم يأت صباح فخري إليالقاهرة فيما تلا تلك الزيارة التي كانت في نهاية الستينات علي ما أذكر إلا وسعيتإلي الاستماع اليه. بل كنت أحرص علي الحجز في الصفوف الأولي حتي أراه عن قرب، ولمأعرف بوجود تسجيل له هنا أو هناك إلا أقتنيته، ومن الأماكن التي أقتنيت منها عدةساعات نادرة لصوته معرض لبيع التسجيلات الغنائية في بغداد، كان في ميدان يقع عليامتداد شارع الرشيد، ربما ساحة الرصافي، أو الزهاوي، لا أستطيع التذكر الآن، كاناسمه 'أنغام التراث' وكان به أندر تسجيلات الغناء العربي، إلي درجة انني اقتنيت منهتسجيلات لمطربين مصريين وسوريين، ومن شتي الاقطار العربية لم أعرف بوجودها فياذاعات عربية، كان يدير المعرض شاب اسمه سمير، وكان المكان ملتقي للمطربينالعراقيين القدامي، أذكر انني التقيت في منتصف الثمانينات بمقريء المقام العراقيالشهير يوسف عمر قبل وفاته بشهور، كان المعرض يستمد تسجيلاته من فنان عراقي كبيراسمه محمد القيسي، كان ممثلا ومطربا، وكان حجة في الغناء العربي، أنشأ مكانا جميلاعلي نهر دجلة، 'المقهي البغدادي' زينه بصور كبار المطربين العرب، بدءا من يوسفالمنيلاوي، والشيخ سلامة حجازي، محمد القبنجي وام كلثوم وغيرهم، كان رجلا صاحبرسالة، أن يحافظ علي المقام العراقي، وعلي بعض تفاصيل الحياة البغدادية القديمة،وكان يقيم في المقهي حفلات طرب لكبار منشدي المقام العراقي، وكان جهده خاصا، لم يكنله صلة بجهة رسمية، ولم يكن موقف الاجهزة الثقافية وغير الثقافية منه وديا، بعدرحيله استمر المقهي البغدادي، واخبرني من زار بغداد بعد الاحتلال أن مكانه صار مأويلبعض من لا مأوي لهم. كان محمد القيسي من كبار حفظة المقام العراقي والطرب العربي،وحدثني عنهم واحدا، واحدا، وكان يعتبر معجزة الغناء العربي قد تحققت في اثنين،الأولي أم كلثوم، والثاني محمد القبنجي، ورغم روعة اداء القبنجي التي وصلت الينا منخلال تسجيلات متخلفة تقنيا، إلا أنني لم استطع أن أجد مناطق الشبه أو التماسبينهما، ربما قصد المرحوم محمد القيسي التمكن والقدرة. لم يحدثني عن صبري مدلل، لميسمع به، لسبب بسيط أن صبري مدلل لم يبدأ الغناء إلا في نهاية الثمانينات، لكنه كانمعروفا مشهورا في حلب مسقط رأسه، وملعب صباه، ومكانه الذي توحد به، كان مؤذناشهيرا، رائع الصوت، ينتظر الناس الأوقات الخمس للآذان حتي يستمعوا إلي جمال آذانهوروعة صوته، حتي إنه عند اعتلائه المئذنة كان المرور يتوقف في الشارع لكثافةالزحام، كان يحفظ الأدوار القديمة والموشحات، في حلب مناخ فني خاص، مامن عائلةعريقة إلا والغناء جزء من تراثها، في مداخل البيوت تعلق الآلات الموسيقية. ولكمحفلت وتحفل المدينة بالأصوات الجميلة، الطب والموسيقي عناصر أساسية في فن الحياةالذي يتقنه الحلبيون، كان صبري مدلل مثل أهل حلب، لكنه تميز بينهم بجمال الصوتوالقدرة، ليس في حلب تراث، إنها التراث نفسه، حيا يسعي، ولأن حلب ملتقي طرق وبشروقوافل وجيوش، وأجناس، فقد عمقت فيها روح التعايش، تعايش أعراق مختلفة، لكل منهاموسيقاه وغناؤه، هكذا اختلطت وتداخلت الموسيقي التركية بالعربية بالسريانيةبالبيزنطية، بموسيقي العابرين الذين لا يقيمون لكنهم يودعون أثرامنهم.

***

لم يبدأ صبري مدلل في الحفلات العامة إلا في عمر متقدمجدا، بعد السبعين. عرفته لأول مرة عندما أهدانا أخي وصديقي عبدالرحمن منيف تسجيلالصبري مدلل. كنت أحدثه عن هيامه بالغناء العربي القديم. عندما قدم إليٌ هذاالتسجيل، بهرت بصوته وقدراته وجماله، يقول صبري مدلل، إن والده عندما سافر إلي الحجدعا الله في الكعبة أن يهبه صبيا صوته جميل، هكذا تحقق الدعاء بمجئ صبري، عندما ذهبالصبي إلي المسجد ليتعلم لاحظ الشيخ جمال صوته، فطلب منه أن يؤذن، هكذا بدأت علاقةصبري مدلل بالآذان، ثم اقترح عليه الشيخ أن يصحبه إلي فنان حلبي شهير هو عمر البطش،قال انه سيتقن عنده الأدوار القديمة والألحان الجميلة والطقاطيق والأغاني التيستدخل المسرة إلي قلوب الناس، وبالفعل ذهب صبري إلي عمر البطش، بدأ يعلمه الموشحات،كل أسبوع ثلاثة دروس، بعد عدة أسابيع قرر الفنان ألا يتقاضي من جدي القروش القليلةالتي كان يحصل عليها مقابل الدروس، قال له إن صوته جميل يستحق العنايةوالتدريب.
في سنة 1940، فتحت إذاعة حلب، كانت الإذاعة في شارع سكندرون، صحبه عمرالبطش إلي الإذاعة، استمع إليه المدير، سجر به جدا، استمر العم صبري عشر سنوات يؤديالطرب الشرقي الأصيل، بعد عشر سنوات طلب منه والده أن يترك الإذاعة، كان الأب قدبدأ يتقدم في السن، وكان بدأ يقلق من مستقبل ابنه كمطرب للأدوار والقصائد العاطفية،طلب منه أن يترك الإذاعة، فقال له صبري مدلل: حاضر.. مثل مابدك.
هكذا توقف عنالغناء في الإذاعة، وتفرغ لإحياء الحفلات الدينية الخاصة، وإدارة محل البقالة الذيكان يمتلكه والده.
كانت والدته تحب الغناء، وكان يغني لها يوميا، يقول صبري مدللفي الفيلم البديع الذي أخرجه عنه محمد ملص، أن اليوم الذي لم يكن يغني فيه لها كانتلا تعد له طعام العشاء 'ما تعشيني'. بعد وفاة والده بسنوات، وبعد أن استأذن منه فيحلم ليلي، عاد صبري مدلل إلي أداء الأدوار والموشحات والقصائد، بدأ بعد سنالسبعين.
استمعت إلي كافة التسجيلات التي اتيحت لي وعشقت صوته، فيه مالا أقدرعلي شرحه بالألفاظ، العتاقة والحيوية، إلي أن رأيته علي خشبة مسرح الأوبرا فيالقاهرة منذ أعوام قليلة، وفي بداية عام سبعة وتسعين جاء مرة أخري وكان بين برنامجهأن يقدم حفلا في بنها، وسافرت مع أصدقائي يوسف القعيد وعزت القمحاوي للاستماع إليه. فكان الوقت يناير والبرد شديدا، وكنت أفكر في استقبال الجمهور بمدينة بنها التيتبعد حوالي خمسة وأربعين كيلومترا عن القاهرة، كان الحفل في قصر ثقافة بنها، وقبلبدايته التقيت بصبري مدلل وأعضاء فرقته.
لصبري مدلل حضور قوي، بحلته الكاملةوطربوشه الأحمر الذي يذكرني بطربوش أبي الذي كان حريصا علي تنظيفه والعناية به وكيهفي محل متخصص بسوق الغورية، كان الطربوش لازما للموظفين والعاملين في الدولة، وكانالمشي بدونه يجشعر الإنسان أنه يمشي عاريا، بعد ثورة يوليو اختفت الطرابيش، ومنالنادر رؤية إنسان الآن يرتدي طربوشا، لذلك رغم قوة حضور صبري مدلل فإنه يبدو حاملاللماضي معه، ثمة شيء يذكرني بالمطرب المصري صالح عبدالحي، شيء لا أستطيع تحديدهتماما، لكن صبري مدلل أكثر حيوية، انه يتفجر بالطاقة عند الغناء، يبدو وسط فريقهمتوجا، رئيسا، مركزا وبؤرة، وعندما يندمج فإن حضوره المادي كله يتحول إلي موسيقي،فكأن جسده مركب من مقامات وليس من أعضاء. مازلت أذكر لقاء الجمهور به في بنهاوانفعاله بما قدم صبري مدلل، في فيلم مقامات المسرة لمحمد ملص يتحدث صبري مدلل عنأساتذته في الطرب باحترام عميق، ومن خلال فرقته يبدو حرصه علي إتاحة الفرصة للأصواتالجديدة، الجميلة، ومنهم من ذاع صيته الآن مثل عمر سرميني ومحمد حمادي الذي يتوليأعمال الفرقة التي تحمل اسم صبري مدلل وتقدم ما اشتهر به حتي وإن لم يشارك معهملمرضه منذ عامين، عندما تحدثت إليه في بنها، نظر إليٌ نظرة جانبية، إنها جزء منحضوره وتكوينه، قال لي بعد أن أجاب علي بعض أسئلتي:
'
أنت بتفهم فيالطرب..'
ابتسمت، فتلك شهادة أعتز بها، ويبدو أن اسمي علق بذاكرة الرجل، لذلكرحب بالحضور إلي ذلك الحفل الخاص في بيت الصديق محمد قجة. جاء من أجلي وعندما دخلإلي صالة البيت الأنيق، بدا لي أقصر قامة مما رأيته وأنحف. منذ عامين يعاني المرض،وأجري عمليات جراحية، تصدر الصالة وكان بصحبته أربعة أعضاء من فرقته، عازف العودعبدالرحيم عجين، والمطرب حسام عجين، والمطرب ضياء قباني ومدير الفرقة محمد حمديةوشارك المطرب والموسيقار الصاعد حسن فجة، كانت مباراة في فن الغناء والطرب الحلبيالأصيل. جاء الأديب وليد إخلاص وزوجته، وانضم إلي فريق صبري مدلل الابن الأكبرلمحمد قجة، حسن الذي هجر الهندسة وتفرغ للتأليف الموسيقي والغناء، وهو صاحب صوت لهشأن.
أن يصغي الإنسان إلي مطرب كبير في حفل خاص جدا لا يضم إلا أهل البيت وعدد،محدود، جدا من الأصدقاء، تلك تجربة شديدة الخصوصية. بدأ الحفل بمشاركة رمزية منصبري مدلل، فهو واسطة العقد، ومركزه، يلفظ كلمة أو جملة، لم يكن في كامل لياقتهالصحية، ولكن مع تقدم الليل، وتبادل الأدوار والغناء، جلجل صوته الجميل اندمج وهيمنبخبرته وروعته، لم أكن مطربا عظيما للغناء العربي القديم، ولكن كنت أري تواصلارائعا بين أجيال مختلفة، وهذا ما أدي إلي انتقال الألحان الموغلة في القدم من عصرإلي عصر، ومن وقت إلي وقت، أما ذروة التكريم الذي حظيت به فجملة قالها صبري مدللأثناء لحيظات راحة:
'
والله لم أغن من سنتين..'
ولم يكن لديٌ إلا تمني الشفاءله والعمر المديد!
__________________
قال كونفوشيوس: (لو أردت أن تعرف مقدار رقي أمة من الأمم فاستمع إلى موسيقاها).
رد مع اقتباس