رد: بيتهوفن الموسيقار العالمي ـ إدموند موريس
ولد "لودفيج فان بتهوفن" بمدينة بون بألمانيا في 16ديسمبر عام 1770، وكان أبوه "يوهان فان بتهوفن" قد تزوج من أمه "ماريا ماجدلينالايم" عام 1767. ترجع العائلة إلى أصل فلمنكي قبل أن يقيم جده لأبيه بمدينة بونويؤسس هذا الفرع من العائلة.. وكان أبوه يعمل مغنيا بكنيسة البلدة وكانت شخصيتهباهتة لا يفكر في غده أو في مسؤولياته تجاه العائلة.. ومع ذلك فإن الفضل يرجع إليهفي اكتشاف موهبة لودفيج غير العادية في سن مبكرة.
كانت صورة "موتسارت" الطفل المعجزة عالقة بذهن والده.. ففكر على الفور في أن يخلق من لودفيج معجزةمماثلة، ولم يستطع التحقق من أن هناك زهوراً أصيلة لا تتفتح مبكرة، وأن موهبة ابنهكانت من النوع العميق المستوعب البطيء التفتح. كانت صورة طفولته الأولى تتبلور فيوقفته على كرسي صغير أمام مفاتيح البيانو والدموع تنهمر من عينيه، فقد كان والدهيجبره بقسوة على المِران المتواصل دون مراعاة لطفولته واحتمال صحته. كان الوالديعود متأخراً مترنحاً من الشراب، وبرفقته صديقه "توبياس" الذي كان يدرس البيانوللصغير لودفيج.. فيوقظانه من فراشه ويجبرانه على التمرين حتى الصباح، وبعد نوم قليليذهب للمدرسة الابتدائية وهو في حالة نعاس وذهول وصمت. كانت ملابسه غير مرتبة وشعرهغير مهذب. تعلم الكتابة بخط جيد جميل وإن بدا في أيامه الأخيرة غير واضح، وتمكن مندراسة اللغتين الفرنسية واللاتينية بشكل مرض، رغم أن هجاءه للغته الأصلية (الألمانية) لم يكن صحيحاً. أما الرياضيات فكانت بالنسبة له مشكلة كبرى.. وظل كذلكطوال حياته حتى وهو على فراش الموت كان ابن أخيه كارل يساعده في عمليات الجمعالبسيطة..
عندما بلغ الحادية عشرة من عمره كان لا يتعلم شيئا غير الموسيقى،وهذا يدلنا على أنه لم يتمكن من التأقلم مع الحياة المحيطة به رغم حدة ذكائه وقوةاستيعابه لأمور عديدة أخرى.. لم يتفوق في كل ما يجيده البشر من علوم ودراساتوعلاقات اجتماعية، فقد كانت له حياة أخرى لا يجاريه إنسان فيها.. حياة تغمرهاالروحانيات والثراء الفني العميق.. قال عنه "ريس" Ries الذي كان يعرفه جيداً في هذهالمرحلة من عمره: "كان يبدو قميئاً.. مغلوبا على أمره.. تخلو حركاته من الرشاقةوالمظهر الحسن.. كان نادرا ما يمسك بشيء دون أن يسقط من يده وينكسر، لم تنج منه أيقطعة من أثاث المنزل. فقد كانت زجاجات الحبر تنقلب يوميا لتغرق كل شيء، حتى أصابعالبيانو، لم يكن يجيد الرقص أو الظهور بالمظهر اللائق..".
عندما بلغالرابعة عشرة من عمره، حصل على وظيفة عازف الأرغن المساعد بكنيسة الدوق "فرانزمكسيميليان" الذي كان الابن الأصغر للإمبراطورة ماريا تيريزه، وهذا يدل على المستوىالفني الكبير الذي كان قد وصل اليه في ذلك الوقت.. وكان قبل ذلك ينوب عن عازفالأورغن عند غيابه. وبالإضافة إلى عزف الأورغن، فإن وظيفته تضمنت العمل كعازفللهاربسيورد بمسرح القصر لتدريب المغنين على خشبة المسرح، وكان في ذلك الوقت يدرسالتأليف بعمق مع أستاذه "نيف" Nefe الذي أذاع في كل البقاع خبر الموهبة المعجزةلتلميذه العبقري..
عندما ذهب بتهوفن إلى فينا للمرة الأولى - وكان فيالسادسة عشرة - كان قد وصل إلى مستوى نادر في عزف البيانو، وكتب عدداً من الأعمالالجيدة. وكان ذلك في عام 1787 وقد انتقى فينا بالذات لأنها كانت كعبة الموسيقى ومقرموتسارت العظيم الذي كان في أوج مجده.. وعندما عزف لموتسارت، لم يتأثر الأخير الذيكان قد استعرض أكبر مواهب العالم في عزف البيانو.. ولكنه ذهل عندما بدأ بتهوفن فيالارتجال.. ولا يعرف أحد يقينا ما إذا كان قد درس بالفعل على يد موتسارت أم لا،لأنه بعد شهرين فقط من وصوله إلى فينا، جاءته أنباء اشتداد المرض على أمه فعاد إلىبون ليجدها على فراش الموت..
كانت أمه رمزاً للحب والوفاء.. وكان بتهوفنيتحدث عنها بكل تبجيل وتكريم، فهي التي منحته الرعاية والحب الذي افتقده في والده .. كانت رقيقة وديعة، تصارع الحياة ببطولة وارادة وعنف لتحفظ للأسرة بقاءها وقوتهاالضروري.. عاد بتهوفن ليجد حالة والده تسوء في السكر والعربدة حتى أنه أنقذه فيإحدى المرات من اعتقال البوليس.. وعندما بلغ لودفيج التاسعة عشرة ، كان أبوه قد فصلمن عمله وتحمل الصغير المسؤولية الكاملة للعائلة..
كان لبتهوفن أصدقاءعديدون سماهم "ملائكة الرعاية"، وكان أهمهم عائلة "برويننج" Breuning التي كانتتتمتع بمركز اجتماعي مرموق إلى جاب الخصوبة الثقافية مما كان له أشد الأثر علىتكوين فكر بتهوفن وثقافته في هذه المرحلة من حياته.. وصديق آخر حميم كان الكونتفالدشتين waldstein الذي كان يقدم له المساعدات المالية دون أن يجرح كبرياءه..
في عام 1792 سافر بتهوفن إلى فينا للمرة الثانية ليعيش في وسط التجربةالموسيقية الكبرى، وليواصل دراسته مع هايدن العظيم بعد أن كان موتسارت قد رحل عنالعالم وهو في عمر الزهور. وكان هايدن قد سمع عن عبقرية بتهوفن عندما مر ببون 1790،فبدأ في تدريسه على الفور واستمر يباشره لمدة عام كامل لم يشعر فيه بتهوفنبالسعاددة لأنه لم يحقق ما رجاه من علم موسيقي على يد زعيم الكلاسيكيين " باباهايدن " .. أما من وجهة نظر هايدن .. فإنه لم يكن يعلم ماذا يفعل مع الشاب الريفيالمتمرد .. فلم يتبع بتهوفن أي قاعدة عن ثقة . وكان دائماً يسأل: "لماذا ؟" و "كيف؟".. الاّ أن هايدن قد عامله بأبوة ورعاية بعد أن تأكد من تقدمه العاصف في مجالاتالتأليف والعزف الخارق للعادة على البيانو..
لقي نجاح بتهوفن كل تقدير أدبيومادي من الطبقة الأرستقراطية بفينا، وهي الطبقة الذواقة للموسيقى التي احتضنتالعبقري الشاب وأغرقته بالتكريم وبعروض العزف والتدريس، حتى أصبح وقته لا يتسعلقبول عروض جديدة.. ومما هو جدير بالذكر أن صديقه الكونت فالدشتاين كان قد قدمه إلىالنبلاء بخطابات مهدت لقدومه إلى فينا كما أن حاكم بون الذي كان عماً لإمبراطورالنمسا وموسيقياً مجيداً كان قد طلب له الرعاية والتقدير..
كانالأرستقراطيون يتوقعون المديح والشكر والتبجيل والانحناءات من الفنانين الذينيتلقون منهم المساعدات.. ولكن بتهوفن كان على النقيض من ذلك فلم يقبل أن يلتقي بأحدمنهم إلاَّ كندٍّ مساو على أقل تقدير.. وكانت حياته الأولى قد خلقت منه شخصية قويةالارادة، عاطفية، مندفعة ثائرة. وقد غمره أهل فينا، لذوقهم الموسيقي الراقي، بكلوسائل التكريم والرعاية. وعاش أجمل وأسعد أيام حياته. فكانت موسيقاه تحقق له دخلاًكبيرا مكنه من تشغيل خادم خاص وشراء حصان وملابس أنيقة. كما حاول أن يتعلم الرقصالذي كان من ضرورات مجتمع القصور الذي كان قد أصبح بتهوفن أهم مرتاديه، بعد أنتأكدت شهرته كأعظم موسيقي في المدينة، بعد هايدن..
كان يحب إنجلترا، وفكركثيراً في السفر للإقامة الدائمة بباريس .. ولكن جاذبية فينا كانت أقوى، لما لاقاهفيها من استقرار وسعادة ونجاح.. كانوا يلقبونه بـ "عملاق عازفي البيانو".. وقامبجولات ناجحة وساحقة ببراج وبرلين ودرسدن ونورنبرج، ولكنه عاد إلى فينا حيث مركزالإشعاع الفني، وقمة الحضارة الموسيقية، وكان أصدقاؤه المقربون في تلك الفترة همعائلتا الكونت "لشنوفسكي" و "البرونزفيك".
لازمته عادة المشي طوال حياتهفكانت رياضته البدنية والعقلية على السواء. وفي جيب معطفه، كان يحتفظ بورق الموسيقىالذي كان يدون عليه أفكاره أثناء المشي، وكثيراً ما كان يتوغل في غابات فينا ويجلسإلى جوار جذع شجرة لتدوين أفكاره. وقد أصبحت تسويداته هذه المرجع الرئيسي لأعظمأعماله، كما أن دراسة ما دون بها، أثبت أنها تضمنت أضعاف ما خلفه من تراث موسيقينادر..
قادته عاطفته وحساسيته المفرطة إلى الوقوع الدائم في الحب، وكان يحنإلى الزواج والاستقرار ليتخلص من حياة التشرد. ولم تتحقق له تلك الأمنية ربما لأنأغلب السيدات اللائي تقدم اليهن كن من طبقة اجتماعية أعلى من طبقته، ولكن هيمل Hummel عازف البيانو الشهير قال في ذلك: "إنه يوجد أكثر من مئة سيدة تتمكن من عزفالبيانو أحسن مني، وكل هذا العدد من الفنانات يَتُقْن إلى الاستمتاع بعزف بتهوفنوالتصفيق له بجنون وإعجاب.. ولكنأي واحدة منهن لا يمكن أن تقبل أن تطارحه الغرام.. لأنه لا توجد من تستطيع أن تطارح الغرام لإله خاصة إذا كان هذا الإله أصم..".
في عام 1798 بدأ بتهوفن يشعر بالصمم - وهو التاريخ الذي حدده بنفسه لبدايةالكارثة - ولم يأخذ هذه الأعراض مأخذ الجد في بادىء الأمر لأنه ربط بين هذا المرضوما كان يعاني منه من ضعف المعدة والدوزنتاريا. وبعد ذلك بعامين بدأت الحقيقة تتأكدله.. فأخفى المرض عن جميع الناس، لأنه شعر بالمهانة والعذاب مع ما كان يشوِّه وجههمن مرض لازمه منذ طفولته.. وهو آثار لمرض الجدري .. كتب لصديقه الدكتور فيجلريبون : "إن أذني تصفر وتؤلمني بشكل دائم ليل نهار، وإن الله وحده ليعلم ماذا سيصير إليهأمري".
بدأ ينسحب من المجتمعات حتى لا يفتضح أمره . لم يكن قادراً علىالإفصاح للناس "إنني أصم". وأضاف: "بالنسبة لي، لا يوجد ترفيه ولا تسلية فيالمجتمعات الإنسانية، ولا أستطيع أن أستمتع بحوار شيق أو أن أتبادل أفكاري وأحاسيسيمع الآخرين.. لا مفر من أن أعيش في منفى.. وبعد قليل، يتعين علي أن أضع نهايةلحياتي".. إنه في هذه المرحلة من حياته كتب وصيته الشهيرة التي تفصح عن أقصى درجاتالمرارة التي أحس بها والعذاب النفسي الذي عاناه.
إن صراع بتهوفن مع القدرقد بدأ لحظات اليأس هذه .. وبدلاً من الانتحار.. صارع القدر وأبدع أعظم إنتاجه.. وكان كلما اشتد عليه الصمم.. زاد إمكانية على سماع الأصوات الإلهية التي دونها فيموسيقاه. ولذلك عندما وصل صممه إلى منتهاه.. أبدع أعظم أعمال البشرية على الإطلاق.. إن صراعه مع القدر هذا مر بمراحل متعددة.. حتى وصل إلى مرحلة السكينة والهدوء.. لاإذعانا واستسلاما، ولكن انتصارا على قوى الضعف البشري والمرض والمهانة.. لقد وصل فيانتصاره على القدر إلى حد كتابة نشيد السلام.. الذي دعا فيه إلى قمة الوحدة والحبوالإخاء بين البشر.
__________________
قال كونفوشيوس: (لو أردت أن تعرف مقدار رقي أمة من الأمم فاستمع إلى موسيقاها).
|