وكان الشاعر قد قام برحلة إلى البقاع المقدسة، ونظم قصيدة مطولة بعنوان (يا الورشان) وصف فيها رحلته ذهابا وايابا، يقول في مطلعها:
يا الورشان أقصد طيبا72
زر فاقد73 مرسم74 شيبا75
لا تخمم76 في أمر الغيبا77
ولا تحدث نفسك بها78
وقد لاحظنا أن الشاعر يؤرخ لقصائده غالبا في الدور الأخير قبيل نهاية القصيدة، وقد فعل هذا في أكثر من قصيدة، فقصيدته (أعيت وأنا نذمم) أرخ لها سنة أربعين بعد المئة وألف (1140هـ) حيث قال قبيل نهايتها:
نظمت هذه الحلة 79 بعد ميا وألف عام يا حمام
أول الربعين ظهر خبرها واشتهر80
أما قصيدته (لك نشكي) فقد ارخ لها سنة واحدة وأربعين بعد المئة وألف هجرية (1141ه) حيث قال قبيل نهايتها:
من بعد ألف وميا صار
عام واحد واربعين81
وقصيدته بعنوان (هكذا أراد وقدر) أرخ لها عام خمسين ومئة وألف هجرية (1150ه) حيث قال في نهايتها:
ان تسمع لي نوريك تاريخ سلكها82
بعد الخمسين وميا وألف سنة مضات83
بنفس السنة نظم قصيدته (باسم العظيم الدايم) حيث قال قبيل نهايتها:
مولاه امتورخ84 عامه
خمسين وألف وميا شفقا8586
أما قصيدته (يا الفاهم) فقد أرخ لها عام ستين ومئة وألف هجرية (1160ه) حيث قال قبيل نهايتها:
ميا سنة يراقب الهادي يهديه
بعد الستين وألف عام87
وهكذا نرى الشاعر بلغ أو تجاوز الستين من العمر وهو ينظم القصائد ويخرجها.
ولم يكن الشاعر ناظما للقصائد فقط، بل كان مغنيا لها، وعلى دراية باستخدام الآلات الموسيقية، مشاركا الجوق تارة، واصفا اياه أخرى، ففي قصيدته (القلب بات سالي) قال:
العيدان88 والربايب89 باتت تتصايح90
وشببابات91 يتداولوا92 بتدويلة93
وأنا بالزنوج94 معهم نتمايح95
وغنايا96 يتواصلوا بتوصيلة97
وبعد هذا القول يمكن لنا أن نطلق على الشاعر صفة الشاعر المغني _ دون أدنى شك أو تردد _ ومن خلال شعره، أيضا يمكننا معرفة الآلات الموسيقية التي كانت مستخدمة في عصره، حيث ذكر لنا منها الطبول، الطار، العود، الكويتر، الشبابة، الزنوج، القانون، القصبة، الفحل، الكمنجة (الكمان)، ولم يقتصر على ذكر اسمائها فقط، بل تعدى هذا ليصف الطابع الصوتي لكل منها، وهذا بحق دراية فنية عالية، وثقافة موسيقية في المستوى.
يقول في قصيدته بعنوان (يا الوشام )
الطبول ترعد ترعاد
والخيول تشالي98 بها 99
وفي نفس القصيدة قال:
طار ورباب والعود الفصيح
والكياتر100 بين يديها101
وفي قصيدة (لمن نشتكي) قال:
العود يصيح مع الرباب
والطار وراحة النفوس102
وفي قصيدته (ما له حبيبي ما له) قال:
وشمعنا يطافح103
والرباب وعيدان104
وفي قصيدته (القلب بات سالي) قال:
على الرباب والعود
والكاس والشماعة 105 106
وفيها قال ايضا:
يحلى المدام في الكاس
بالعود والربايب107
وفي قصيدته (من صاب) قال:
الكاس يدور يا الفاهم
بالعود مع الربايب بنغم
والكياتر يا سلام سلم
والقانون تبع النظام
القصبة واقفة تخاصم
والكاس يصيح بالمدام
الكامنجة واقفة تولول108
والطار يقول كيف نعمل109
لاحظ هذا التصوير الواقعي المليء بالحركة والحيوية لمشهد يكاد يكون مسرحية كل عناصرها نشطة تقوم بدورها على أكمل ما يرام.
وفي قصيدته (من نهوى) قال:
معلوم العدرا مع الشباب
والعيدان تصيح والرباب
بكياتر نازاد الانطراب
مع صوت غناها110
وهنا نلاحظ العنصر النسائي كيف كان يشارك في المناسبات وكيف كانت العذارى المغنيات تشارك الشباب.
وفي قصيدته (اعييت وأنا نذمم) قال:
طار ورباب وعود يطلع النغام111
الفحل والقصبة يحيوا من سكر 112
وفي قصيدته (جاتها القوم) قال:
ما نخلي مسايلي عطالا113
طار وعود وقصبة ورباب 114
وفي قصيدته (بدر الدجى) قال:
يحلى الطرب والكاس
بين الملاح 115
وفي قصيدته (ناري وقرحتي) قال:
بالعود والرباب وما قالو الوالعين116
والرح وقت كل عاشيا117
بالعود والرباب مسلي
قلبي مع حبيب الخاطر 118
وفي قصيدته (ابو علام) قال:
واربايبها تتصايح
شبابات والأغاني 119
وبهذا الذكر المتعدد لأسماء الآلات الموسيقية ولطوابعها الصوتية والمرافقة الغنائية الرجالية تارة والنسائية أخرى وغناء المجموعة يكون الشاعر أرخ بصدق في تاريخ الموسيقى للقرن الثاني عشر الهجري في هذه المنطقة من العالم.
ولم يكن هذا كل شيء عند الشاعر ابن امسايب فقد ذكر لنا بعض المقامات الموسيقية المستخدمة آن ذاك والتي كثيرا ما تعرف بـ (الأرياح) حيث قال في قصيدته (ما أزين نهار اليوم):
بالصوت حين الي ينطق
مايا وحسين مع مزموم 120121
وفي قصيدته (دير ألف أهلا) قال:
دير الحا أحزان
محجوز وزيدان 122123
وهذه الدراية لم تقتصر على ذكر اسم المقام او الريح فقط، بل تعدت لإعطاء طبع المقام124 وذلك عند ذكره للمحجوز والزيدان ومناسبتهما لطابع الحزن، وفي نفس المثال السابق.
كل هذا عند شاعر وقف حياته من أجل الفن الشعبي، من اجل مجتمعه بأفراحه وأتراحه، من أجل الحياة.
ولا نبالغ إذا قلنا بأن الفنان الشعبي يقف حياته من اجل سواه، فالفن ترياق الحياة، رغم أن الشاعر يموت، ويبقى يموت جسما وجسدا، ويبقى ذكره خالدا أبدا، شمعة مضيئة أبدا، يستضيء بنورها من يشاء وهي لمن يشاء.
ويموت جسد الشاعر ابن مسايب ويتوفاه الله بتلمسان المدينة التي ملكت قلبه وهواه وكان ذلك قدرا الله محتوما ويدفن حذو ضريح الموحد الشيخ السنوسي رحمهما الله وقبره معروف يزار125.
...يتبع (الهوامش)