(2)
كانت إحدي البلاد تموج بالفئران من صنوف شتي.. تعيث في الأرض وتشارك السكان في أرزاقهم وتكدر عليهم صفاء عيشهم وتزيد متاعبهم فإذا جلسوا مجالس الأنس هالهم دبيبها وسوء منظرها فبُدّلوا بالأنس وحشة وإذا ناموا أزعجهم طيفها في أحلامهم, وإذا قدّمت لهم الموائد أقاموا عليها الحرّاس تقيهم فتكاتها, وترد عنهم هجماتها, وربما خافوها فولّوا مذعورين, وخرجوا علي وجوههم هائمين, ودائما دهشتهم منها ملء قلوبهم و حديث سمرهم. وما سمعوا علاجاَ لإبادة الفئران إلا جربوه, ولا عرفوا فخا إلا نصبوه و قلما صادوا منها شيء يُذكر. إجتمع مندوبون عن كل ناحية من البلدة ليتفاوضوا في أنجع الوسائل لإبادتها, واستئصال شأفتها. وؤبينما هم يطرحون الآراء, إذا بشيخ أشيب طويل القامة نحيف الجسم باشّ الوجه غريب الزي وعلي عنقه مزمار, أقبل وعرض عليهم أن يزيل عنهم هذة الغمة إذ وعدوه بالمكافأة, فأطمعوه في الأجر إذا نجحت حيلته, ومنِّوه بصداقتهم متي تحققت بشارته.
خرج الشيخ من فوره إلي الشارع, وأخذ يعزف بلحن مشج, فما لبثت الفئران أن خرجت من مخابئها مسحورة لا تلوي إلا علي صوته. وكلما مرّ بشارع خرجت أسراب فيرانه تتنافس وثوبا وقفزا في اللحاق به .فسار الرجل ووراءه منها جيش عرمرم إلي أن وصل إلي النهر وهنالك أغرقها..
ذاع هذا الخبر فطار السكان فرحا به, وتبادلوا فيما بينهم عبارات الشكر لله تعالي علي تطهير المدينة من أوضار عدّوهم اللدود.و لما قضي الرجل مهمته عاد إليهم مستنجزا وعدهم, فوجموا وهزئوا بقوله وغمطوا حقّه, فاستشاط غيظا وعمد إلي الإنتقام, فخرج مسرعا وتناول مزماره وأخذ يعزف بتلحين بديع, فما سمعه إنسان حتي إقترب منه وسار معه,فتبعه الأطفال والصبيان والشبّان والشيب والكهول وعلي وجوههم سيمي الفرح والإستبشار, فجاوز بهم حدود البلدة وتغلغل في مجاهل قاحلة وفرّ منهم كأنما ركب جناحَيْ نعامة, وتركهم فتاهوا, وانقطعت عن أهلهم أخبارهم!!