رد: كيف تطورت الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي في المهاجرات الأندلسية المغرب
وإذا تتبعنا مسار مهاجري غرناطة بالمغرب العربي ومصر وقسطنطينية، حتى جنوب فرنسا وجزر المتوسط، فإننا نلاحظ أن الطرب الغرناطي كا له نصيب الأسد بكل من الجزائر وتونس حيث تبلور في مقاطيع حية تزخر بالرعة والمرح انتقلت بعض موشحاتها إلى دار الخلافة العثمانية إبان احتلال الأتراك للمغربين الأدنى والأوسط ودار الكنانة، بينما تركزت الآلة الإشبيلية في مهاجرات مختلفة بالمغرب الأقصى. وقد نقل الموريسكيون إلى "جبال المور" (Maures) بمقاطعة "بروفانس" (Provence) واللنكدوك (Languedoc) بجنوب فرنسا ألحانا موسيقية أندلسية، ولا سيما أن المنطقة كانت خاضعة للإسبان الذين لم يتنازلوا عنها لفرنسا إلا عام 1644م. وقد طور شعراء التروبادور (Troubadours) هذه الألحان التي واكبت في شبه الجزيرة الإيبيرية إسبانيا والبرتغال تلاحين الصيكا التي لا تزال منساقة إلى اليوم في طبوعها العربية بمعزل عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وما زلنا نسمع بعض نبراتها في الكنائس الأوربية المسيحية التي نقلت أناشيدها عن الكاثوليكيين الإسبان، وبعدما طرد إسرائيليو غرناطة التي كانت تعرف بـ"حاضرة اليهود"، وتم تنصير بعضهم قسرا ضمن فئات أطلقت عليها الإسبان اسم مارانوس (Maranos) مقابل اسم الموريسك للمسلمين المنصرين انتقلوا إلى المغرب ونقلوا معهم مقطوعات موسيقية كانوا يعزفونها بالعربية معززة بما سبق أن نقلوه إلى غرناطة بعد سقوط إشبيلية في قبضة الإسبان. وكان اليهود من جملة من هاجر إلى فاس بعد وقعة الربض آخر القرن الثاني الهجري حيث جعلوا منها -خلال العهدين المرابطي والموحدي- مركزا لتعريب العبرية وتصحيح نحوها وصرفها انطلاقا من قواعد سيبويه وضع كتاب التشريع التلمودي في عشرين مجلدا للعالم اليهودي محررين مجموعها باللغة العربية. غير أن نشاطهم العلمي هذا انبثق عن عاصمة قرطبة التي كانت خلوا من كل ما يمت إلى الموسيقى بصلة حيث انفردت إشبيلية وحدها بهذا الفن كما انفردت قرطبة في أربعة وعشرين من أرباضها بعلوم الحكمة، فكان لكل ربض كليته منها أربعة آلاف فيلسوف ومتكلم بالربض الجنوبي وحده. وقد تزعم هذه الثلة من العلماء اليهود موسى بن ميمون الذي سكن دار المجانة في العاصمة الإسماعيلية طوال خمس سنوات قبل أن ينتقل إلى مصر.
وكان لليهود ضلع في الاقتباس من الآلة الغرناطية في العهد المريني ثم أيام العلويين حيث عززوا التراث الموسيقي بما فيه من أزجال ومواويل أدركت شخصيا نماذج منها بملاح الرباط آخر الأربعينيات ولا يزال صداها يتردد إلى الآن في مهاجرات اليهود خارج المغرب بكندا والولايات المتحدة وإسرائيل. وإذا كان موسيقيو اليهود اعتمدوا الحايك في طبوعهم العربية، فإنهم عمدوا اليوم إلى ترجمته إلى العربية عناية بمحتواها. وهكذا، فبقيام الدولة المرينية توطدت العلاقات مع بني الأحمر أمراء غرناطة أزيد من قرنين ترسخ خلالها احتضان عاصمة المغرب للتراث الموسيقي الأندلسي.
والغريب أن ما وصلنا من المصادر العربية يكاد يكون خلوا من كل ما يتعلق بالموسيقى. فحتى الحسن بن محمد الوزان المعروف بليون الإفريقي الذي ولد بغرناطة حوالي 901هـ/1495م، أي بعد سقوط غرناطة بثلاث سنوات في قبضة الإسبان، قد ربي بفاس وظل عدلا بمارستان سيدي فرج خلال سنتين. وعندما بلغ عمر الوزان إحدى وعشرين سنة، بدأ رحلته حيث أسره قراصنة إيطاليون في نابل عام 1519م ونقل أسيرا إلى حاضرة الفاتكان حيث تبناه الباب، وهنالك حرر الوزان كتابه حول "وصف إفريقيا" بالعربية أولا، ثم ترجم للإيطالية. فكان من الصعب -في كلتا الحالتين- على الوزان أن يتحدث عن أزمة غرناطة وهو يعلم أن محاكم التفتيش التي أقضت مضاجع المسلمين بالأندلس قد شكلت بقرار وإمدادات من البابوية آنذاك. وقد ظهرت مع ذلك دراسات وأبحاث عربية في المغرب ألقت الضوء على كثير من الجوانب الغامضة في الموسيقى. وهكذا، فإذا استثنينا فترة الحكم السعدي التي اضطربت آخر أيامها عند تنازع أدعياء العرش وانقسم المغرب إلى ولايات مستقلة، فإن الموسيقى استعادت ازدهارها نسبيا باستتباب الأمن والاستقرار في عهد المولى إسماعيل الذي تولى الملك عام 1082هـ وعمره ست وعشرون (26) سنة. ولم يكد -قدس الله روحه- يلفظ نفسه الأخيرة في 28 رجب 1139هـ حتى كانت معظم معوقات التطور الثقافي الفكري المغربي قد انمحت بعد أن لم السلطان المجاهد شتات المغرب ومحق الأدعياء ودعم حركة التحرير ونشر الطمأنينة والرخاء.
وقبيل وفاة المولى إسماعيل بتسع سنوات، كان الفنان الحسن ابن أحمد الحايك التطواني الأندلسي الذي هبت أسرته قبل ذلك من تونس قد قام بدور هام، فجمع من الموشحات الأندلسية ما انتشر ولم منها ما انتثر في كتابه "الحايك". وقد توفي بتطوان عام 1130هـ بعد نشاط غامر اتصل ضمنه بمجموع منطقة الشمال بين سبتة والفنيدق وتطوان التي كانت مسرحا لكثير من الموريسكيين الذين ظلوا يترددون بين هذه المراكز مستنشقين هواء الأندلس الشهيدة يرددون الألحان الغرناطية في نغماتها الشجية أكثر منها في موشحاتها التي فقدوا نصها بإبعادهم إبان محنة غرناطة عن لغتهم ودينهم. فكان للحايك الفضل في وصل ما حملوه معهم بما تجمع من تراث غرناطة بفاس. ومن هؤلاء الفاسيين ابن الطاهر المهدي بن يوسف بن أبي عسرية بن علي بن أبي المحاسن الفاسي الموسيقي (1187هـ/1764م) ("تاريخ تطوان"، ج3، ص.66؛ "عناية أولي المجد"، ص.58) والذي كان يعرف -حسب مؤرخ تطوان سكيرج- إنشاء 24 طبعا من طبوع الموسيقى ويعزف على العود والرباب وقد تتلمذ للأديب الشبلي المكناسي.
وقد امتاز المغرب بطبوع خاصة مثل الحصار الذي اعترف "المعجم الوسيط لمجمع القاهرة" بطابعه المغربي وكذلك البسيط وهو المسمى عند المشارقة "المحجر" ("الإعلام" للمراكشي، الطبعة الأولى، ج2، ص.199) وبطبع الاستهلال الذي اخترعه الحاج علال البطل في العهد السعدي حسب كتاب في الفن لمؤلف مجهول في المكتبة الوطنية بمدريد عدد 5307. وحتى الملحون عرف طبعا فريدا هو "السماوية" التي تغنى بصوت منخفض يتصاعد تدريجيا إلى السماء.
وقد استعمل الموسيقار كل أصناف الآلات مثل العود والكمان أو الكمنجة (Violon)، وهي آلة ذات أوتار أربعة انضافت إليها في العقود الأخيرة الكمان الجهير (Violoncelle) والبيان (Piano) وهو آلة ذات ملامس (Clavier). وقد عوض البيان القيتارى (Clavecin) الذي هو بيان قديم قيتاري الشكل. ولعل هذا "القيتار" من القتر، وهو نصال الأهداف كناية عن تأثير أوتاره وتحريكه للوجدان، ويعرف في أوروبا بـGuitare، وهو آلة ذات أوتار ينقر عليها بقوة، وهي مسطحة الجانبين مشرقية الأصل (حسب قاموس Hachette). وقد عرف العرب القانون الذي تفنن الفيلسوف الفارابي في العزف عليه بألحان يثير بها مكان الفؤاد فرحا وحزنا يضحك ويبكي تبعا لمدى الضغط على الملامس. ومن الآلات العربية التي اتسمت بطابع مغربي خاص الرباب (Rebec)، وهو ذو وترين اثنين يعزف عليهما بمنهج دقيق جسا بأصابع اليد اليسرى. وقد مهر فيه الشيخ البريهي بفاس وربيبه عبد الكريم الرايس والفنان السبيع بالرباط. كما مهر في القانون صالح الشرقي. وهنالك رباب عراقي من أربعة أوتار ورباب شعبي وحيد الوتر أشبه بما يعرف بالكنبري. ومهما يكن، فإن العازفين على الرباب قليلون جدا نظرا لصعوبة ممارسة هذه الآلة بمهارة ويعد أصحابها اليوم في العالم العربي على رؤوس الأصابع منهم علي المرابط والعربي بنصاري بالجزائر ومحمد غانم وأحمد بطيخ والدكتور بلحسن فوزة بتونس وإبراهيم الشعوبي في العراق. وقد أصبح كثير من الشباب يتعاطون العزف على الرباب بتشجيع من المعهد الموسيقي بالرباط.
وقد تواكب اللحن الموسيقي في كثير من الأحيان مع ألحان السماع في المديح النبوي حيث علق الأمير الوليد بن زيدان بالسماع لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا ("الاستقصا"، ج3، ص.133). وقد نشأ بعض الموسيقيين في العهد العلوي في أحضان الزوايا الصوفية كزاويتي الحراق وابن الريسوني بتطوان والزاوية الوزانية بفروعها في عواصم كبرى كفاس وطنجة. وقد كان للمعهد الموسيقي العصري بتطوان صلة وثيقة بالزاويتين المذكورتين. وكان على رأس هذا المعهد أخونا المرحوم إدريس بنونة. ومن تعاون المركزين انبثقت ألحان جديدة ذات ميسم خاص. وكان حب ليلى الذي تزخر به مواويل الآلة يتردد في الأذكار الملحنة بالزاوية حيث ينشد المسمعون قول الشيخ محمد الحراق:
أتبحث عن ليلى وفيك تجلت وتحسبها غيرا وغيرك ليست
وقد حاول كثير من رجال الفن الذين توثقت صلاتهم بالطرق الصوفية تحقيق ازدواجية إيجابية بين الموسيقى والسماع، فأضافوا إلى شعر الغزل والتشبيب أشعار المديح النبوي. وقد كانت لوالدي العلامة عبد الواحد بنعبد الله يد طولى في هذا التزاوج. فكان إلى جانب تضلعه في الأصول والحديث والفقه، يلعب الشطرنج ويحفظ كل الطبوع؛ مما ساعده على ضمان وحدة تلحينية بين الطرفين. ولا بدع في ذلك إذا علمنا أن للموسيقى والسماع أحيانا نفسا واحدا ينطلق من الوجدان. فشاعر الأمراء حافظ شوقي الذي عارض "همزية البوصيري" يقول في ملحمته الغرامية بين عبلة وعنترة ضمن حوار بينهما حيث سأل عنتر عشقته قائلا:
ماذا وددت يا عبيل يا حياة عنتر؟
فأجابته:
إني وددت أني صدف وأنت فيه جوهــــــــر
في زاخـر لم يـدر بعـــــ ـد الغائصون خـبـــــره
والحب في هدفيه البشري والرباني هو محور الطريقتين. فقد قال ابن الفارض:
شربنا على حب الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقالت ربيعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا
وقول الشيخ الصوفي السري السقطي:
لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذلك من يتقلــــى
إن للعاشقين عن قصر الليـــ ـل وعن طوله لفي الحب شغلا
وقول إبراهيم بن أدهم:
ولو قطعتني في الحب إربا لما حن الفؤاد إلى سواك
وكثير من هذه الألحان السماعية قد أدرجت في الآلة الأندلسية، فأصبحت جزءا من غزلها كقولهم:
عدتم فعادت ليالي الوصل أعيادا من قربكم ولذيذ الأنس قد عادا
لا أوحش الله عيني من جمالـكم يا نورها لأقضى الدهر إسعـــادا
وقولهم:
تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل إذا رضي المحبوب صح لك الوصــل
تذلـل لـه تـحـظ بـرؤيـا جـمالــه ففي وجه من تهوى الفرائض والنفل
وقولهم:
لي حبيب حبه حشو الحشا إن يشا يمشي على قلبي مشى
قوله قولي وقولي قولــــــه إن يشا شئت وإن شئت يشا
|