الحاج محمد العنقا في ذكرى وفاته الحادية والثلاثين
مسيرة عملاق .. وقصة المندول الذي لم يعرفه نصير شما
لا احد تقريبا يعرف السيد آيت اوعراب محمد ايدير، لا في العاصمة ولا في أي ولاية أخرى، وحتى في بني جناد بتيزي وزو، أين رحل الجيل الذي عرف أسرته قبل نهاية القرن التاسع عشر، لكن الكثير يعرفون الحاج محمد العنقا، ويحفظون أغانيه حتى بعد مرور 31 سنة على وفاته.. من هما هذان الرجلان؟ وما سرّ كون احدهما مغمورا والآخر مشهورا؟
الرجلان هما واحد، والاسمان هما لفنان اعتبر مؤسس فن الغناء الشعبي المعاصر، بعدما طوره واستخلصه من طبوع الغناء الأندلسي المصطبغة بتراث العاصمة العثمانية، فمحمد ايدير ايت اوعراب هو نفسه محمد العنقا، عرف أبوه باسم محمد بن حاج سعيد، وكانت نساء القصبة يعرفن أمه بأنها فاطمة بنت بوجمعة، التي أنجبت أشهر عازف وملحن جزائري لفن الشعبي، وكانا قد قدما منذ فترة طويلة من بني جناد، بولاية تيزي وزو الى العاصمة، ليستقرا في القصبة، الحي الشعبي العربي، المحاط باحياء الفرنسيين الراقية..
من دلال الطفولة إلى مشاق العمل
كان ذلك ذات 20 من شهر ماي، عام 1907، حين امتلأت إحدى عمارات القصبة العتيقة بزغاريد النساء، احتفالا بمولد محمد.. محمد الذي لم ينعم بالطفولة بسبب الاستعمار الفرنسي، وقسوة الحياة التي فرضها الاروبيون على الجزائريين، فانفصل عن اللعب مبكرا، كما انفصل عن المدرستين القرآنية والمدنية الفرنسية أبكر، عندما اضطر إلى دخول عالم الشغل يوميا، للمساعدة في إعالة أسرته البسيطة
هناك.. على ضفاف التعب الجسدي ومشاق العمل اليومي، عرف الطفل محمد كيف ينتشل نفسه من كل ذلك إلى راحة نفسية لا توصف.. يعمل ويدندن، إلى أن سمعه بالصدفة المرحوم الشيخ الناظور، فأعجب بموهبته، وعرض عليه أن يشتغل معه في فرقته كضارب دف، رغم صغر سنه، فوافق الطفل محمد بسرعة، وطار فرحا إلى البيت يزف الخبر إلى والده، أين اصطدم برفض الأب، الذي تشدد كثيرا في موقفه ذاك.
لعل الحاج محمد العنقا نفسه لم يتذكر كم مرة ضربه أبوه ليتوقف عن العمل في فرقة الحاج الناظور، لم يكن مهما أبدا ما يلقاه من عصا الوالد أمام متعة ما يجده من حياة في موسيقى الفرقة، وتوالت الأيام، اقتنع فيها الوالد محمد بن الحاج سعيد أن عليه أن يذعن لرغبة الابن القوية، فتنازل عن موقفه، على مضض، وراح يتابع عن بعد ولده وهو يتألق يوما بعد يوم، ومن آلة موسيقية إلى أخرى..
هكذا صار اسمه "العنقا"
القصبة كلها تحدثت عن الولد الذي يكبر شيئا فشيئا بين نغمتين.. ورغم بساطة مستواه الدراسي، كان محمد، قدرة كبيرة على التعلم والحفظ والاستيعاب، ومن الدف انتقل إلى العود ليبرع فيه براعة مشهودة، ومن العود إلى آلة المندولين، التي أدهش بعزفه عليها معلمه، فأطلق عليه اسم العنقا، أو "العنقاء"، وهي اسم طائر خرافي، كبير جدا، ورد في روايات ألف ليلة وليلة وخرافات العرب القديمة.
لم يكد يبلغ الـ18 من العمر حتى توفي معلمه الشيخ الناظور، فلم تجد الفرقة أحسن من العنقا ليتولى قيادتها، رغم اقدمية بعض أعضائها، وقد كان ذلك عام 1925م، فحصل على لقب شيخ وهو لا يزال في ريعان الشباب. ولصقل موهبته أخذ العنقا يتردد على محل كان متواجدا بشارع مرنفو، المعروف حاليا باسم شارع الشهيد ذبيح الشريف.. وهناك كان يسمع ويردد ويؤلف ويبدع، مع آخرين من معاصريه، حتى صار الحي كله ذا شهرة كبيرة بين أحياء العاصمة كلها.
كما ان الكثير من الناس يعتقد ان الحاج محمد العنقا إنما ورث صنعته عن معلمه وكفى، وقد يستغربون إذا علموا ان المرجوم كان قد التحق بمعهد سيدي عبد الرحمان للموسيقى، وقضى به مدة خمس سنوات، وفي المعهد اتخذت الموهبة شكلها الكامل، من حيث القدرات الذاتية والتحصيل الأكاديمي، فمالت به نحو الكمال وصار فريد زمانه.
أولى الاسطوانات.. والدروس
التقى في تلك السنوات بإعلام الفن الغنائي الجزائري، ودخل معهم دار الإذاعة لتسجيل اسطواناته الأولى.. وما هي إلا أيام حتى صار صوته في الإذاعة، وفي المحلات، وطارت شهرته إلى خارج العاصمة وضواحيها، إلى جانب العربي بن صاري ويمينة بنت الحاج المهدي، ومن التسجيل بدار الإذاعة إلى قائد فرقة موسيقية بها، ثم مدرسا لفن الشعبي نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.
وخلال الحرب العالمية الثانية، واصل الحاج محمد العنقا عمله مدرسا للشعبي، وقد تتلمذ على يده الكثير، ممن نعتبرهم حاليا عمالقة فن الشعبي، وعلى رأسهم وعبد القادر شرشام، كمال بورديب، مهدي طماش، حسيسن، رشيد السوكي، احسن السعيد، وعمر العشاب.
وخلال 50 سنة، قام العنقا باكتشاف العشرات من المواهب الجزائرية، وتقديمها إلى دنيا الفن، كما قام بإحياء عشرات القصائد من عيون التراث الجزائري، بعد ان كادت تموت نهائيا، وسقاها من ماس أوتاره، وعذب نبراته، زانتها بحته المشهورة، التي زادت أغانيه وقارا وجمالا، خصوصا بعد عام 1955، أين التحق بالمعهد البلدي للموسيقى، حيث تتلمذ على يديه العديد ممن حملوا المشعل في حياته أو بعده، فلقب بأبي الشعبي الجزائري دون منازع، رغم انه رفض الاسم كثيرا، وقال كثيرا في تواضع شديد، انه لا يستحق هذا اللقب، معتبرا ان كل ما قام به لم يكن إلا واجبا، ولا فضل له شخصيا على الشعبي عموما.ز وكثيرا ما أشار إلى جهود غيره ونسي نفسه، وأشاد بالشيخ دويوش وعبد الرحمان المداح وسعيد الحسار، وأهمل ذكر فضله هو.
الحمام اللي ربيته .. قصة أب
كم من الجزائريين من يحفظ "الحمام اللي ربيته؟ الأكيد أنهم ملايين، إنها الأغنية التي خلدت صاحبها، أو هو المطرب الذي خلد أغنية، لفرط ما بثها من أحاسيسه واحتراقه على اغتراب ولده في المهجر.. إنها ليست قصة أغنية أعجبت الكثير وواست الكثير، ولكنها حميمية أب اشتاق إلى ولده، وانهزم أمام نداء أبوته، فكتب: "الحمام اللي ربيته مشي عليا.. ما بقى لي نسمع صوته في غصانو".. وسجلها وأرسلها في اسطوانة إلى ابنه في فرنسا، فتم اللقاء بينهما بعد اغتراب طويل.
هذه هي الأغنية التي يحفظها الجزائريون، إلى جانب أغنيات أخرى شهيرة، مثل: "سبحان الله يا لطيف"، الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا".. لقد كتب كلمات 350 أغنية وسجل ما يقارب 130 منها. وما زالت أغانيه شائعة اليوم وتأثر بشكل قوي على الثقافة الشعبية أكثر من أي وقت مضى.
توفي الفنان الحاج محمد العنقا في 23 نوفمبر1978م بالجزائر العاصمة، تاركا وراءه فنا موسيقيا متميزا في اللحن وفي الأداء.