رد: الباحث الموسيقي زكريا يوسف ودوره في تحقيق وشرح مخطوطات الموسيقى العربية
رحلة العلم والمعرفة خارج العراق:
ولم تقف طموحاته عند هذا الحد ، فسعى من اجل اقناع (وزارة المعارف آنذاك) لتخصيص وارسال بعثات دراسية لدراسة الموسيقى خارج القطر ، لخريجي معهد الفنون الجميلة ، من اجل اعداد كوادر عراقية لتدريس الموسيقى بصورة علمية حديثة في المعهد ، ولسد فراغ كان الاساتذة العرب والاجانب يحتلونه ، فقد بقى بعض المدرسين العرب والاجانب حوالي ربع قرن دون ان تحل كفاءة عراقية محلهم.
في عام 1952م شارك ايضا كباحث موسيقي وقام بالقاء محاضرة في المهرجان الالفي لذكرى مولد الشيخ الرئيس (ابن سينا) المنعقد في بغداد للفترة من 20-28/3/1952م. وفي العام ذاته خصصت وزارة المعارف اربع بعثات ، تم ترشيح زكريا يوسف لاحداها ، وقد اختار الدراسة في انكلترا ، واصل خلالها بحثه وتحصيله العلمي العالي ، توفيرا للسنة التحضيرية في دراسة اللغة ، بينما ذهب زملاؤه الآخرون الى باريس.
وقد درس الباحث زكريا يوسف الموسيقى ايضا على يد استاذه المستشرق الانكليزي المعروف هنري جورج فارمر عند دراسته في انكلترة.
في عام 1955م عاد زكريا يوسف الى الوطن بعد ثلاث سنوات من الدراسة والبحث ، يحمل معه شهادته العليا ، وكان اول موسيقي عراقي يحصل على شهادة موسيقية اكاديمية عليا في العلوم الموسيقية ، وهي دبلوم من كلية لندن للموسيقى (A.L.C.M.) ، فضلا عن افكار وخبرات جديدة ، كان يظن انه يستطيع تطبيقها عند عودته لقسم الموسيقى في معهد الفنون الجميلة ، ويقول بهذا الصدد: (انهم لم يهضموني ، واصطدمت بعقول لا تريد التغيير مهما كان شكله).
في عام 1956م وبعد عام قضاه في التدريس ورئاسة القسم الشرقي في قسم الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة قام بنقل خدماته الى جامعة بغداد – كلية البنات (والتي كان يطلق عليها آنذاك كلية الملكة عالية ، اما الآن فتسمى بكلية التربية للبنات) – فرع الفن ، ليتم تعينه استاذا لمادة النظريات الموسيقية ولمدة خمس سنوات متواصلة قضاها في التدريس الجامعي ، ليقدم بعدها طلب الاحالة على التقاعد ، ليتفرغ للبحث العلمي الموسيقي والكتابة والتأليف وتحقيق المخطوطات الموسيقية ، وتمت احالته على التقاعد بناءاً على طلبه في عام 1961م.
في عام 1962م بعد عام من احالته على التقاعد ، شارك الباحث زكريا يوسف كباحث موسيقي في مهرجان الكندي المقام في بغداد ، وكانت حصيلة تلك المساهمة الفعالة تحقيقه لرسائل مخطوطة ونادرة للكندي ، تم طبعها واصدارها في بغداد بهذه المناسبة.
منذ عودته عام 1955م من البعثة الدراسية وحصوله على الشهادة العليا بدأ المرض يدب في جسده وينتشر ببطئ ولم يفارقه حتى وفاته ، اذ نراه في مقدمة كتابه (مؤلفات الكندي الموسيقية) والمطبوع في عام 1962م ، يقول: هذه مجموعة رسائل اقدمها اليوم للقراء ايفاء لوعد قطعته لهم قبل سبع سنوات. لقد كان في نيتي تحقيقها ونشرها منذ ذلك الحين ، لولا ظروفا قاسية اثرت في صحتي ، فمنعتني من انجازها ، وانجاز غيرها من مثل هذه الاثار النفيسة ، التي صرفت جهدا ليس بالقليل في التنقيب عنها والحصول عليها.
ورغم آلآم المرض لم يتخلف (رحمه الله) عن المشاركة بالبحوث والدراسات العلمية في المحافل الثقافية من مؤتمرات وندوات ومهرجانات ، فضلا عن القاء العديد من المحاضرات الموسيقية في مجال التراث الموسيقي العربي وتاريخه وما يتعلق بتحقيق المخطوطات الموسيقية. ولم يثني المرض من عزيمته في البحث والتقصي عن هدفه في الجمع والتنقيب عن مخطوطات الموسيقى العربية المتناثرة في مكتبات دول العالم ، والعمل على تحقيقها ونشرها لآخر يوم في حياته.
للفترة من 18/11 – 25/12/1964م انعقد المؤتمر الدولي للموسيقى العربية في بغداد ، وتم انتخاب الباحث زكريا يوسف ليكون رئيسا للوفد العراقي المشارك ، وامينا عاما للمؤتمر.
ان فكرة تأسيس أول مجمع عربي للموسيقى تعود الى عام 1932م وكان ذلك خلال انعقاد المؤتمر الاول للموسيقى العربية في القاهرة ، غير ان المشروع طوي لسنوات. اما التاريخ الاخر ، لتأسيس المجمع ، فهو يحمل واقعا عمليا. ففي بحثه الموسوم (التخطيط الموسيقي للبلاد العربية) المقدم الى المؤتمر الدولي للموسيقى العربية المنعقد في بغداد عام 1964م ، اقترح الباحث زكريا يوسف انشاء مجمع عربي للموسيقى ، كما اقترح له نظاماُ خاصاً.
رحلة البحث وراء المخطوطات الموسيقية:
انصرف الباحث زكريا يوسف الى البحث والتنقيب عن المخطوطات الموسيقية في العراق والمكتبات العالمية في اقطار أوربا وافريقيا واسيا ، فيقوم بتصويرها ، ويحققها عند عودته الى بغداد ، وفي هذا الاتجاه حقق الكثير من المخطوطات ليضعها في متناول يد الباحثين الموسيقيين.
فكان يسارع للبحث عن مخطوطات الموسيقى العربية في سائر مكتبات العالم شرقا وغربا ، ويتقصى المصادر المطبوعة المتصلة بذلك فاجتمعت لديه مكتبة غنية حافلة بأمهات المصادر والمراجع المتعلقة بالموسيقى العربية ومنها المطبوع والمخطوط.
ولم تقف همته عند استجماع تلك المكتبة الموسيقية الفريدة من نوعها في العراق ، بل اخذ يبحث ويتدارس ما صوره من مخطوطات قديمة ، ويحقق منها ما يرى انها اهل بالتحقيق فعنى بنشرها وقد صدر بعضها مطبوعا في بغداد وبعضها الاخر طبع في القاهرة.
ان رحلة البحث والتقصي وراء مخطوطات الموسيقى العربية ، قادته الى مكتبات مثل ؛ مكتبة المتحف البريطاني ، وجامعة اوكسفورد ولايدن ، والمكتبة الهندية في لندن ، والمكتبة الوطنية في باريس ، ومكتبة جامعة جنيف ، وجامعة كوبنهاكن التي تظم وحدها 300 مخطوطة عربية ، والمكتبة الوطنية في مدريد ، ومكتبة دير الاسكوريال قرب مدريد ، ومكتبة طوب قابي سراي باسطنبول التي تقتني اكثر من 7500 مخطوط في مختلف العلوم والفنون من المخطوطات العربية النادرة والفريدة ، ومكتبة الجامع الازهر ودار الكتب في القاهرة ، ومكتبات الشام وحلب ، ومكتبات دول المغرب العربي في كل من تونس والمغرب.
اما في ايران وحدها فهناك (71) مكتبة عامة تحتوي على مخطوطات يبلغ مجموعها (63573) مخطوط وهي موزعة في (31) بلدة ، هذا بالاضافة الى (114) مكتبة خاصة من الصعب معرفة عدد مخطوطاتها بالتحديد.
في عام 1964م تم ترشيح الباحث زكريا يوسف من قبل وزارة الثقافة والارشاد آنذاك – وهو متقاعد – للاستفادة من منحه (زماله) دراسية قدمتها منظمة اليونسكو ، وتركت أمر اختيار الموضوع للدارس ، فاختار موضوع دراسة مخطوطات الموسيقى العربية الموجودة في الاقطار العربية في شمال افريقيا وفي مكتبات ايران وافغانستان وباكستان والهند بسبب من ان هذه المخطوطات غير مفهرسة عكس المخطوطات الموجودة في المكتبات الاوربية ، ولأن المعلومات المتوفرة عما تحويه هذه المكتبات من آثار علمية قليلة. وتعتبر هذه الدراسة مكملة لبحوث فارمر في الموسيقى العربية ففي مكتبة جامع القيروان في تونس ، مخطوطات عديدة كانت مجهولة تماما ، وكذلك مخطوطات جديدة وجدها في ثلاثين مكتبة موزعة على المدن الايرانية وحدها ، ونتائج هذه الرحلة طبعها على حسابه الخاص عام 1965م في كتيبات منفصلة عن نتائج البحث في كل بلد على حدة. فقام برحلات الى الهند وباكستان وايران وافغانستان واقطار المغرب العربي. كان من ثمار هذه الجولة العلمية كتاب يقع في ثلاثة اجزاء نشرت في بغداد كفهرست حافل بالكثير عن مخطوطات الموسيقى العربية المتناثرة في تلك الدول.
حرص الباحث زكريا يوسف على متابعته لعلاقات الصداقة الواسعة التي بناها من خلال شخصيته البسيطة والمتواضعة ، وتواصله الدائم عن طريق المراسلات البريدية التي استمرت حتى وفاته مع العلماء والاساتذة والباحثين الموسيقيين من مختلف انحاء العالم ، فضلا عن امناء المكتبات الحكومية في مختلف خزائن الكتب والمكتبات الجامعية واصحاب المكتبات الخاصة وغيرهم ليبقى على تواصل مستمر معهم لتبادل الآراء والاطلاع على كل ما يستجد من معلومات جديدة حول مخطوطات الموسيقى العربية أول بأول.
للمدة من 10-20/5/1966م شارك الباحث زكريا يوسف في حلقة دراسية بعنوان (Ankara Musiki Kollekumu) والمنعقدة في (انقرا – تركيا) مندوبا عن الجمهورية العراقية.
في عام 1975م وجهت له دعوة للمشاركة في مؤتمر بغداد الدولي الاول للموسيقى المنعقد في بغداد ، من قبل اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى بوزارة الثقافة والاعلام آنذاك ، التي خططت واشرفت على تنظيمه وانعقاده ، وتكليفه بإعداد وتقديم بحث ودراسة عن مخطوطات الموسيقى العربية.
|