@ رست السفينة أخيرا فى ميناء الفسطاط بمحاذاة المسجد العتيق , وقعت عين الشافعى على مدينة لم ير مثيلا لها من قبل فى أناقتها وجمالها وبساتينها النضرة ومتنزهاتها الفسيحة . رأى أبنية يرتفع بعضها إلى عدة طوابق ,شاهد أسواقا ومتاجر فخمة مليئة بالبضائع والتحف العجيبة التى صنعتها وركبتها أيد مصرية ورأى شوارعها التى تضيئها القناديل طوال الليل ..
شاهد وهو يسير فى الجهة الشمالية من المسجد العتيق أشهر أسواق الفسطاط ,يسميه المصريون سوق القناديل تصطف على جانبيه العديد من المحال والمتاجر . جلس أمام بعضها عمالا مهرة ينحتون فى خفة أوانى البلور ويصنعون المقابض والأمشاط والأوعية من الصدف وأنياب الفيل . رأى محالا أخرى تصنع النعال من جلود تشبه جلود النمر وآخرون يصنعون الكؤوس والأقداح والأطباق والأوانى من الخزف الشفاف . وحول المسجد العتيق رأى الخطط التى اختطها رؤساء الجند وزعماء العرب الذين شاركوا فى فتح مصر على عادتهم فى تخطيط الأماكن التى ينزلون فيها ..
@ وكما فعل الشافعى فى أول زيارة له فى بغداد لما زار قبر أبا حنيفه إفتتح أول أعماله فى مصر بزيارة قبر الليث بن سعد فقيه مصر الأكبر والترحم عليه والدعاء له . وقف على قبره يقول ............
ــ لله درك يا إمام ,حزت أربع خصال لم يكملن لعالم أبدا .... العلم والعمل والزهد والكرم ..
زار بعد ذلك أخواله الأزد فى الفسطاط وفاء لذكرى أمه الراحلة اقتداء برسول الله "صلى الله عليه وسلم" لما نزل المدينة مهاجرا ونزل أول ما نزل على أخواله بنو النجار . مكث عندهم بضعة أيام تعرف خلالها عليهم وأنس بهم . سمع منهم حكايات كثيرة عن تاريخ القبيلة وتفرقها فى البلاد وجذورها وفروعها فى بلاد الشمال والجنوب . علم من شيخهم أنه كان يعرف ابن عمومتهم جده عبيد الله الأزدى مذ كانا فى سن الصبا وأنه زارهم هنا فى مصر مرات عديده حيث كان دائم السفر إلى مصر والشام والعراق واليمن لأعمال التجاره ..
قال له الشافعى .............
ــ أجل يا خال كم حكى لى فى صباى عن رحلاته تلك . لا زلت أتذكر كلماته لى عن ذكرياته فى البلدان التى نزل فيها ,ومنها مصر ..
بعد بضعة أيام جاءه عبد الله بن عبد الحكم فى موعده الذى اتفق معه أن يأتيه فيه ليصحبه إلى حيث مقامه الذى اتخذه له فى الفسطاط . وحدث ما توقعه ,لقى مقاومة شديدة وتصدى له رجال الأزد وهم عاقدين العزم ألا يغادر خطتهم وأن يبقى معهم . حاول كبيرهم وهو شيخ تخطى السبعين من عمره إقناع الشافعى بالبقاء بينهم قائلا له متوسلا .......
ــ إبق معنا يا ولدى فأنت هنا بين أهلك وعشيرتك ترعاك عيوننا وتحيطك مهجنا وتكن فى منعة وأمن بيننا ..
ــ يا كبير الأزد إنى قد عقدت العزم إن شاء الله أن أعيش هنا بقية أيام عمرى وأمامى أعمال كثيرة ورسالة لم أفرغ منها بعد .
ــ سنوفر لك ولمن معك كل ما تحتاجه لراحتك وعملك ..
ــ لابد لى من دار أعيش فيها وحدى فإن ذلك أفرغ لى ولقلبى ..
لم تفلح كل هذه المحاولات وغيرها فى إثناء الشافعى عن عزمه على أن تكون له دار يسكنها وحده مع أسرته . شكره الشافعى وقد غلبه التأثر من فيض المحبة والود الذى لقيه عند أخواله . أخذ يشد على يديه على وعد أن يزورهم بين الحين والحين . ثم ذهب أخيرا مع صاحبه ليبقى فى ضيافته أياما أخرى قبل أن ينتقل ومعه أسرته إلى الدار التى أعدت لإقامته فى منطقة القرشيين بالقرب من المسجد العتيق ,ليستأنف عملا متواصلا دؤوبا لا يصرفه عنه صارف أو يوقفه عن آداء رسالته إلا تلبيته نداء ربه ..
@ إنتشرت المساجد فى شتى أرجاء مصر بعد الفتح الإسلامى وأدخلت تعديلات وتوسعات كثيرة ومتعاقبة على المسجد الذى أسسه عمرو بن العاص الذى أطلق عليه أيامها مسجد أهل الرايه ,لتوسطه خطط أهل الرايه من القبائل التى شاركت فى الفتح الإسلامى للبلاد . ومع مرور الأيام وتقادم العهد أسماه المصريون تاج الجوامع تمييزا له عن بقية جوامع مصر . أتى الشافعى المسجد العتيق بصحبة عبد الله بن عبد الحكم . وقعت عيناه وهو يدلف داخله من زقاق الكحل من الجانب الشمالى الشرقى من باب عرف باسم باب الكحل ,على أقدم منبر عرف فى تاريخ الإسلام بعد منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والذى عرف باسم منشئه قرة بن شريك الذى أعاد بناء الجامع من جديد ..
وقف فى صفوف المصلين وأدى أول صلاة له فيه ,صلاة الفجر خلف أبو رجب العلاء بن عاصم إمام المسجد ومتولى القصص فيه . بعد أن انتهت الصلاة أثنى الشافعى عليه وشد على يده قائلا .............
ــ بارك الله فيك يا أبا رجب هكذا تكون الصلاة . ما صليت خلف أحد صلاة أتم ولا أحسن من صلاتك هذه ..
وأبو رجب هو الذى يقوم علاوة على إمامة المصلين بقراءة القرآن للناس من المصحف ويتولى وعظهم وإرشادهم وتذكيرهم بأخبار الأمم السالفة وأيام الناس . ثم يختم وعظه بالدعاء لأمير المؤمنين وأعوانه بالنصر والفلاح والدعاء على أعدائه وأعداء الإسلام بالهلاك والتبار ..
هم الشافعى بالقيام فمال عليه عبد الله بن عبد الحكم قائلا بصوت خفيض ...........
ــ ألن تجلس إلى الناس يا أبا عبد الله . لك أيام مذ وصلت إلى مصر وأنت لا تزال معتكفا فى دارك والناس جميعا هنا سمعوا بمقدمك . إنهم جميعا عطشى إلى علومك مشتاقون إلى الجلوس إليك ..
ــ لا أجد ما أقوله لك يا صديقى العزيز . الحمد لله على كل حال ..
ــ آه . هى ضراء مستك ؟.
ــ لا أخفى عليك سرا أيها الصديق الحبيب ,إنى أجد حرجا فى الجلوس إلى الناس وأنا على تلك الحاله ..
ــ لا بأس عليك يا أبا عبد الله ,مم تشكو ؟.
ــ ما أجده فى ظهرى من آلام اشتدت على وزادت فى أعقاب تلك الرحلة الطويلة حتى أنها أقعدتنى عن الحركة أياما . المهم أين أتخذ مجلسى ؟.
ــ سيكون مجلسك بإذن الله تعالى هناك ,(وأشار بيده) فى هذا الركن المعروف بزاوية الخشابيه ,سيكون مجلسك العامر فيه إن شاء الله ,تبث للناس ما تجود به عليهم من علوم القرآن والحديث والسنة واللغة والشعر والعروض ..
ــ وفى أى وقت من أوقات النهار أجلس إلى الناس ؟.
ــ فى أى وقت تشاء ..
رد الشافعى متعجبا ..............
ــ كيف ذلك ... ألا تتخذون فى مصر أوقاتا معينة للعمل ,وأوقاتا تفرغون منها من أعمالكم ؟.
ــ ماذا تقول يا صاحبى . إننا هنا نؤدى أعمالنا كيفما اتفق لنا فى الصباح أو بعد الظهيرة وربما أحيانا فى الليل ..
ــ حتى فى دواويين الحكم ؟.
ــ أجل ,حتى فى دواويين الحكم . أى غرابة فى هذا ؟.
ــ إن هذا لمما لا يجوز فعله . كما أن للناس عليك حقا فإن لأهل بيتك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ..
ــ ما الذى تراه أنت إذن ؟.
ــ أرى أن يبدأ الواحد منا عمله بعد أن يفرغ من صلاة الصبح وينتهى منه فى الظهيره . ثم إنه لكل علم من هذه العلوم طلابه فلو رأيت أن نقسم وقت النهار بينهم لكان أفضل لهم ولنا وأدعى للفائده ..
ــ ليكن درس القرآن لأهله إذن فاتحة الدروس عقيب صلاة الصبح ,فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل مذاكرة الحديث والسنة . فإذا ارتفعت الشمس استوت الحلقة للرد على أسئلة أصحاب المسائل والفتاوى . وعند ارتفاع الضحى تختمها بدروس اللغة والشعر والعروض لأهل اللغه . فإذا انتصف النهار انصرفت إلى دارك فما رأيك ؟.
ــ على بركة الله أحسنت الترتيب يا صاحبى . هكذا كان يفعل فقيه الأمه عبد الله بن عباس فى مكه ..
ــ هيا بنا إذن ؟.
قال الشافعى وهو يهم بالقيام ..........
ــ لنبدأ فى الغد إن شاء الله ..
ــ وفيم الإنتظار للغد ؟.
ــ أود أن أذهب أولا ,بل الآن إلى دار بنت العم ,فإنى لم أسلم عليها بعد ,هيا بنا إلى دارها ..
ــ من ؟. آآآآآه السيدة نفيسه ؟.
ــ أجل أسلم عليها وأسمع منها ما حدثت به من أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأسألها خالص الدعاء . إنى لأظنها إن شاء الله من أولئك الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلمهم من لدنه علما ..
ــ صدقت فى ظنك يا صاحبى ,إنها سيدة جليلة القدر مقبولة الدعاء . خذنى معك فإن لى أياما لم أشرف بالسلام عليها والجلوس فى حضرتها ..
فى الطريق أخذ يحكى له جانبا من كراماتها التى أجراها الله تعالى على يديها فى مصر وتناقلها المصريون قال ...............
ــ فى العام الماضى توقف نهر النيل عن الفيضان وانتظرنا أياما طويلة أن يفيض بالماء كعادته كل عام دون جدوى . هرع الناس إليها يسألونها الدعاء فلبت وألحت فى الدعاء لربها . ثم أعطت للناس قناعها وطلبت إليهم أن يطرحوه فى النهر . فما غربت شمس هذا اليوم حتى زخر النيل بمائه وزاد زيادة عظيمة لم نعهدها فيه من قبل ..
وصلا أخيرا إلى باب دارها توقف الشافعى برهة قبل أن يطرق الباب وهو يقول فى أدب وخشوع مشيرا بيده ....................
يا أهل بيت رسول الله حبكم .. فرض من الله فى القرآن أنزله ..
يكفيكم من عظيم القدر أنكم .. من لم يصلى عليكم لا صلاة له ..
@ بدأ الشافعى فى مصر عملا دؤوبا مليئا بالكفاح والنشاط ومضت أيامه زاهرة بالعلم زاخرة بالأحداث غنية بالاستنباط وتخريج الأحكام والتصنيف . إتبع نظاما ثابتا لا يحيد عنه وهو يجلس إلى طلاب علومه فى المسجد العتيق فى الزاوية التى صارت مع الأيام تعرف بإسمه . كان الناس فى البداية يقولون لبعضهم ........... هيا بنا إلى زاوية الخشابيه نستمع إلى هذا الشيخ القرشى الجالس هناك . ثم صاروا مع مرور الأيام وتعاقبها يقولون لبعضهم ............ هيا بنا إلى زاوية الشافعى ..
جلس الشافعى بعد صلاة الصبح وقد بدا شيخا طويلا أسمر البشرة رقيقها معتدل القامة خفيف العارضين له لحية حمراء قانية يخضبها بالحناء . لابسا ثوبه الرقيق من الكتان والقطن البغدادى . بداخله نفس صفت من أدران الدنيا وشوائبها وعقل حاضر البديهة عميق الفكرة بعيد الغوص . لا يكتفى بالقشور وظواهر الأمور بل يغوص إلى الأعماق ويتعدى القشر إلى اللب حتى يصل إلى الحق كاملا فيما يراه . لا ينغلق عليه أمر وإن آثر السكوت أحيانا عن الرد ورعا وهيبة . مع كل هذا يقول لتلاميذه فى تواضع العلماء العاملين ...........
ــ إذا ذكرت لكم أدلة فلم تقبلها عقولكم ,فلا تقبلوها ،فإن العقل مضطر إلى قبول الحق ..
ومع تدقيقه فى البحث والتحرى ,كان يحتاط من الوقوع فى الزلل فيقول لمن يتلقى عنه ............
ــ كل مسألة تكلمت فيها وصح الخبر فيها عن النبى "صلى الله عليه وسلم" عند أهل النقل بخلاف ما قلت ,فأنا راجع عنها فى حياتى وبعد موتى .... حديث النبى أولى ولا تقلدونى ..
جلس ومن حوله جمع كبير من الناس جاءوا إليه عطشى إلى رشفة من مورده العذب . منهم جماعة من الشباب فى أعمار متقاربة لا يفارقونه أبدا كظله يتحركون بحركته ويسكنون بسكونه ...الربيع الجيزى والربيع المرادى وهو مؤذن المسجد العتيق وحرملة بن يحي وإسماعيل المزنى وأبو يعقوب يوسف البويطى ويونس بن عبد الأعلى ,بينما أصغرهم سنا فتى فى السابعة عشر من عمره إسمه محمد ,إبن صاحبه عبد الله بن عبد الحكم .... أوصاه أبوه سرا وقال له ..........
ــ أوصيك يا بنى أن تلزم حلقة الشافعى ....لا تفارقه ..
كان الولد فى عجب من أمر أبيه صاحب الشافعى وصديق عمره .... قال ........
ــ كيف يا أبت أترك مجلسا أتعلم فيه منك ومن شيخنا أشهب بن عبد العزيز فقه إمام دار الهجره مالك بن أنس . إلى مجلس آخر لا علم لنا بصاحبه ؟.
ــ إسمع منى يا ولدى ....إنك لو جاوزت هذا البلد وتكلمت فى مسألة فقلت فيها قال أشهب فسيقولون لك ومن أشهب ؟. إلزم الشافعى يا ولدى تنل خيرا كثيرا بإذن الله تعالى ..
لم يسلم الأب من معاتبة أصحابه من المتعصبين لإمام دار الهجرة فى ذلك وهم يقولون له ...........
ــ يا أبا محمد ..... إنا نرى ولدك محمدا إنقطع إلى هذا الرجل المكى وتردد إليه تاركا حلقتنا راغبا عن مذهب أصحابنا ..
لكنه كان يرد عليهم ملاطفا ليحد من حنقهم ...........
ــ هو حدث ويحب النظر فى اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك ..
كان هؤلاء الحواريين يسبقونه إلى الحلقة متخذين أماكنهم من حوله لا يقومون منها إلا بعد أن يقوم من مكانه . كل واحد منهم يعيره سمعه بينما يتابعون بعيونهم ما تخطه أيديهم من كلام الشيخ أولا بأول فى قراطيس أمامهم لا يكاد يتفلت من ريشة أحدهم حرف واحد منه ..
قال الشافعى لأهل القرآن بصوته العذب كأنه قيثارة تداعب أوتارها الآذان بجرسها وتأسر النفوس برقتها ..............
ــ الحمد لله بما هو أهله وكما ينبغى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته . المرفوع ذكره مع ذكره فى الأولى والشافع المشفع فى الأخرى وبعد : يقول الله جل ثناؤه " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " . وقال " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم . فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول " ..
ــ من هم أولو الأمر ؟.
ــ قال بعض أهل العلم : " أولوا الأمر " هم أمراء سرايا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والله أعلم لأن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة . كانت تأنف أن تعطى بعضها بعضا طاعة الإماره فلما دانت لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالطاعه لم تكن ترى ذلك يصلح لغيره "صلى الله عليه وسلم" . لذلك أمروا أن يطيعوا أولى الأمر الذين أمرهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا طاعة مطلقة بل طاعة مستثنى فيها لهم وعليهم . ثم قال تعالى " فإن تنازعتم فى شئ " يعنى والله أعلم هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم . " فردوه إلى الله والرسول " يعنى والله أعلم إلى ما قال الله والرسول إن عرفتموه فإن لم تعرفوه سألتم الرسول عنه إذا وصلتم إليه ومن وصل منكم إليه . لأن ذلك الفرض الذى لا منازعة لكم فيه لقول الله عز وجل " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " ..
ــ وماذا يفعل المسلمون من أمثالنا بعد انقضاء أجـل رسـول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ من تنازع من بعد رسول الله رد الأمر إلى قضاء الله ثم قضاء رسوله "صلى الله عليه وسلم" . فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصا ردوه قياسا على أحدهما ..
ويظل الشافعى رائحا غاديا مع أهل القرآن سائحا فى معانى آيات الكتاب ودقائقها وما تشير إليه من أحكام . يحلق بهم فى أجوائه العطره وهم مرهفون السمع إليه لا يتحركون من أماكنهم حتى يأذن لهم فيجيئه أهل الحديث والمشتغلين بالسنة وأخبارها ليقول لهم ..............
ــ المحدثين من أهل العلم وضعوا موضع الأمانة ونصبوا أعلاما للدين وكانوا عالمين بما ألزمهم الله من الصدق فى كل أمر والحديث فى الحلال والحرام أعلى الأمور وأبعدها من أن يكون فيه موضع ظنه . فمن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه . كما يكون من أكثر الغلط فى الشهادات لم تقبل شهادته . وأقبل الحديث : حدثنى فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا ولا أقبل فى الشهادة إلا : سمعت أو رأيت أو أشهدنى . وأقبل فى الحديث الرجل الواحد والمرأه ولا أقبل واحدا منهما فى الشهادات وحده ..
ــ وما الحجة فى قبول خبر الواحد ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" " نضر الله عبدا سمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " . فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وآدائها امرأ يؤديها والأمر واحد دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا بما تقوم به الحجه على من أدى إليه . لأنه إنما يؤدى عنه حلال وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة فى دين ودنيا . نعود لما كنا نتحدث فيه قبل سؤال السائل ..
تمر لحظات صمت يلتقط فيها الشيخ أنفاسه وقد جف حلقه قبل أن يواصل كلامه قائلا بعد أن أفرغ فى جوفه قليلا من الماء من آنية وضعوها إلى جـواره .........
ــ وتختلف الأحاديث فنأخذ ببعضها استدلالا بكتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس وهذا لا يؤخذ به فى الشهادات . وأحيانا تترك اللفظة من الحديث فتحيل معناه أو ينطق بها بغير لفظ المحدث فتحيل معناه والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث . فإذا كان الذى يحمل الحديث يجهل هذا المعنى وكان غير عاقل للحديث لم يقبل حديثه إذا كان ممن لا يؤدى الحديث بحروفه . وكان يلتمس تأديته على معانيه غير عاقل للمعنى . ولا يجوز لأحد أن يختصر حديثا فيأتى ببعضه ويترك بعضه وإنما يحدث بالحديث كما روى بألفاظه ..
سأله يونس بن عبد الأعلى .............
ــ حدثنا يا إمام بحديث صحيح ؟.
ــ حدثنا مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عتبه عن زيد بن خالد الجهنى قال : صلى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" صلاة الصبح بالحديبيه فى إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟. " قالوا الله ورسوله أعلم قال " أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر . فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى وكافر بالكوكب . وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى مؤمن بالكوكب " . ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" عربى اللسان يحتمل قوله هذا معانى . وإنما مطر بين ظهرانى قوم مشركين لأن هذا فى غزوة الحديبيه . فأرى معنى قوله "صلى الله عليه وسلم" والله أعلم أن من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك إيمان بالله عز وجل لأنه يعلم أنه لا يمطر ولا يعطى إلا الله . أما من قال : مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا ولا يمطر ولا يصنع شيئا ..
قاطعه أحد الجالسين قائلا وقد أدركه الخوف ................
ــ يا إمام نحن نقول شيئا كهذا ولكنا لا نعنى ذلك الذى قصده الكفار . أيكون قائله داخل فيمن أخبر عنهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ ماذا تعنون إذاً ؟.
ــ يقول بعضنا من سكان شمال البلاد أو شرقها ممن يعيشون على شواطئ البحار . مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا فى نوء وقت كذا كما يقول الواحد منا مثلا مطرنا فى شهر كذا ..
ــ هذا ليس كفرا لكن غيره من الكلام أحب إلى من هذا القول . يقول مثلا مطرنا فى وقت كذا أو يقول كما كان يقول بعض أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" إذا أصبح وقد مطر الناس قال : مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ قوله تعالى " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " . وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال يوم جمعه وهو على المنبر : كم بقى من نوء الثريا ؟. فقام العباس فقال : لم يبق منه شئ إلا العوا . فدعا عمر ودعا الناس فمطر مطرا أحيا الناس منه . هذا القول من عمر يبين لكم ما وصفت لأنه إنما أراد بقوله : كم بقى من وقت الثريا ؟. لمعرفتهم بأن الله تعالى قدر الأمطار فى أوقات فيما جربوا كما علموا أنه قدر الحر والبرد فيما جربوا من أوقات ………………
ويقوم جماعة الحديث بعد أن يطفئوا غلتهم ويأخذوا زادهم ويأتى فى أعقابهم أصحاب المسائل والفتاوى . يجلسون ويسألون ويحاورون والشيخ يجيب كل واحد على مسألته وتدور بينه وبينهم أسئلة وحوارات كهذه ..............
ــ هل معنى قول النبى "صلى الله عليه وسلم" " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " . يستغنى به ؟.
ــ لا ليس هذا معناه . فلو أراد النبى "صلى الله عليه وسلم" الإستغناء به لقال : يتغانى أو قال يستغن ..
ــ ما معنى الحديث إذاَ ؟.
ــ يتغنى من الغناء فالمعنى على ذلك أن يقرأ القرآن حدرا وتحزينا وأن يحسن صوته عند تلاوته ..
سأله يونس بن عبد الأعلى : يا إمام هل فى القرآن الكريم ذكر للصلوات الخمس المفروضة علينا فى اليوم والليله ..
ــ نعم أما قرأت قوله تعالى فى سورة الروم " فسبحان الله حين تمسون " هذه صلاة المغرب والعشاء . " وحين تصبحون " صلاة الصبح . " وله الحمد فى السموات والأرض وعشيا " أى صلاة العصر . " وحين تظهرون " صلاة الظهر تلك هى الصلوات الخمس مـن كتاب الله تعالـى ..
سأله أبو يعقوب يوسف البويطى : ما هو المعـروف فـى قـول الله تعالـى " ولهـن مثل الذى عليهن بالمعروف " ؟.
ــ جماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة فى طلبه وآداؤه إليه بطيب نفس لا بضرورته إلى طلبه . ولا تأديته بإظهار الكراهية فى تأديته وأيهما ترك فظلم بين ..
وتتوالى أسئلة الحاضرين فيسأله الربيع الجيزى : هل سجود التلاوة فرض . ومن لم يسجد هل عليه قضاء ؟.
ــ سجود القرآن ليس بحتم ولكنا لا نحب أن يترك لأن النبى "صلى الله عليه وسلم" سجد فى سورة النجم مرة وترك أخرى وليس على تاركه قضاؤه لأنه ليس بفرض ..
ــ ما الدليل على أنه ليس بفرض ؟.
ــ السجود صلاه وقد قال الله تعالى : "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" . فكان الموقوت يحتمل موقوتا بالعدد وموقوتا بالوقت . فأبان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أن الله جل ثناؤه فرض خمس صلوات فسأله رجل : يا رسول الله هل على غيرها ؟. قال : لا إلا أن تطوع . فلما كان سجود القرآن خارجا من الصلوات المكتوبات كان سنة اختيار من تركه ترك فضلا لا فرضا ..
ــ أيكون هذا هو أيضا حكم من نوى أن يصوم يوما تطوعا ثـم أفطـر ؟.
ــ أجل لا قضاء عليه هو الآخر ..
ــ لكنا سمعنا من يفتى بغير ذلك وحجته قول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" للسيدة عائشه والسيدة حفصه رضى الله عنهما : "صوما يوما مكانه" لما أصبحتا صائمتين فأهدى لهما شئ فأفطرتا ..
ــ ما تقوله صحيح وبعض الناس جادلنى فيه وبنى حجته على هذا الحديث المرسل لابن شهاب ومراسيله ومراسيل أقرانه بل من هم أسن منه ليست حجه والكلام فى هذا يطول بنا لو استقصيته معكم ..
حانت منه التفاتة قبل أن يهم بالقيام إلى الفتى محمد ابن صديقه عبد الله بن عبد الحكم فابتدره مبتسما : ماذا يا ابن عبد الحكم ألمح تساؤلا على وجهك ؟.
ــ لقد أثقلنا عليك يا سيدى وأكثرنا السؤال ..
ــ سل يا ولدى فالنهار لم ينتصف بعد ..
ــ ليتك تحدثنا عن رفع الأيدى فى الصلاه ؟.
ــ يرفع المصلى يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع . وإذا رفع رأسه من الركوع عند قوله سمع الله لمن حمده رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك فى السجود ..
ــ فما الحجة فى ذلك ؟.
ــ حدثنا ابن عيينه عن الزهرى عن سالم عن أبيه عن النبى "صلى الله عليه وسلم" مثل قولنا ..
ــ فإنا نقول : يرفع يديه فى الإبتداء حين يفتتح الصلاه ثم لا يعود لرفعهما ..
ــ أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبى "صلى الله عليه وسلم" كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه . وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وكذلك فعل ابن عمر . فكيف تخالفون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وابن عمر وتقولون لا يرفع يديه إلا فى ابتداء الصلاة وقد رويتم عنهما أنهما رفعا فى الإبتداء وعند الرفع من الركوع ؟. أفيجوز لعالم أن يترك على النبى وابن عمر لرأى نفسه ؟. أو على النبى "صلى الله عليه وسلم" لرأى ابن عمر ؟. ثم القياس على رأى ابن عمر ؟. ثم يأتى موضع آخر يصيب فيه فيترك على ابن عمر لما روى عن النبى "صلى الله عليه وسلم" فكيف لم ينهه بعض هذا عن بعض ؟.
ــ فإن أتباعه يحتجون بقوله : وما معنى رفع اليدين عند الركوع ؟.
ــ هذه الحجة منهم فى غاية الجهاله لأن معنى رفع اليدين عند الركوع مثل رفعهما عند الإفتتاح . تعظيما لله تعالى وسنة متبعة يرجى فيها ثواب الله . ومثل رفع اليدين على الصفا والمروة وغيرهما ..
ــ فإذا انتهى الإمام من قراءة الفاتحه هل يرفع صوته بأمين ؟.
ــ نعم ويرفع بها من خلفه أصواتهم ..
ــ ما الحجة فيما قلت على هذا ؟.
ــ ما أورده مالك بإسناده عن أبى هريره أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" . وفى هذا القول دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين لأن من خلفه لا يعرف وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ..
ــ فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين ..
ــ هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم (مالك) عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . كذلك روى وائل بن حجر أن النبى "صلى الله عليه وسلم" كان يقول آمين يجهر بها صوته ويحكى مطه إياها . وكان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقنى بآمين . وكذلك أخبرنا شيخنا ومفتى مكه مسلم بن خالد الزنجى أن عطاء كان يسمع الأئمة يقولون آمين ومن خلفهم يقولونها حتى أن للمسجد للجه ………………
@ وذات مرة وكان ذلك فى شهر رمضان والشافعى راجع من صلاة القيام . حيث اعتاد أن يصليها إماما فى مسجد أقامته السيدة نفيسة فى دارها . وبينما هو فى حديثه مع الناس إذ دخل المسجد فتى أعرابيا بيده رقعة ,كان يبدو فى عجلة من أمره . أخذ يتخطى رقاب الناس حتى صار أمام الشافعى ,ناوله الرقعة ثم وقف مكانه منتظرا ..
قرأها وابتسم ابتسامة خفيفة وهو يأمر بالدواة والريشة وأخذ يكتب كلاما على ذات الرقعه . طواها وأعطاها له دون أن يتبادلا معا كلمة واحده والجالسون فى عجب من أمر هذا الفتى الأعرابى لا علم لهم بمسألته أو بجواب الشيخ له . لم يخرجهم من حيرتهم ودهشتهم إلا عودة الشافعى لسابق حديثه . غير أن الربيع المرادى مؤذن المسجد العتيق وأكثر تلاميذ الشافعى فضولا وأشدهم حرصا على جمع كل أقواله لا يكاد يفارقه إلا إلى داره حريصا على قضاء مصالحه . لم يطق صبرا فتسلل فى خفة خلف الفتى الأعرابى ..
لحظه الشافعى بركن عينه فلم يجد بدا من الإبتسام من فضول المؤذن . على بعد خطوات من المسجد أدركه الربيع فاستوقفه مناديا عليه وسأله ...........
ــ نشدتك بالله يا أخا الإسلام أن ترينى رد الشيخ على مسألتك ؟.
أعطاه الأعرابى الرقعة على مضض منه بعد ان استحلفه بالله . أخذ الربيع يقرأ غير مصدق ما تراه عيناه . طوى الرقعة وعاد إلى مجلس الشيخ وهو يتمتم فى سره ..............
ــ ما هذا الكلام العجيب المكتوب فى تلك الرقعه ؟. كيف يفتى الشيخ لفتى فى مقتبل العمر بمثل هذه الفتوى ..
إتخذ مكانه وفى نفسه شئ حتى إذا انتهى الدرس ناداه الشافعى وقال له ........
ــ انتظر يا ابن سليمان سنمضى سويا ..
بعد أن خرجا سويا من باب المسجد ابتدره الشافعى قائلا ليرفع عنه الحرج وهو يدرك تماما ما يتلجلج فى صدره ولا ينطق به لسانه ...............
ــ إيه يا ربيع لم لا تتكلم ؟. لعله وقع فى خاطرك سوء ظن من جهتى أليس كذلك ؟.
ــ معاذ الله يا سيدى الإمام إنما أنا فى عجب مما قرأت فى رقعة هذا الفتى الأعرابى ..
إبتسم الشافعى متسائلا ............
ــ أصدقنى القول أنت فى عجب من سؤال الفتى أم من الإجابه ؟.
أجاب الربيع بن سليمان على استحياء ناظرا بعينيه إلى الأرض متحاشيا أن تقع عينه على شيخه وقد ذهب عنه بعض الروع وإن لم يفارقه ..........
ــ من كليهما ..
ــ لم لم تسأل الفتى الأعرابى عن أمره ؟.
ــ حاولت أن أسأله إلا أنه تولى عنى غاضبا ..
ضحك الشافعى قائلا ............
ــ لأنك اطلعت على أمر أراد أن يكون سرا بينى وبينه . هذا الشاب الهاشمى يا أبا حامد قد تزوج فى هذا الشهر وهو كما رأيت حدث السن فكتب فى رقعته .... سل المفتى المكى هل فى تزاور .. وضمة مشتاق الفؤاد جناح . فأدركت أنه يسأل هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطء ؟. فأجبته بما علمت وأنكرته أنت على ..
ــ أجل يا سيدى الإمام لقد كتبت له .... أقول معاذ الله أن يذهب التقى .. تلاصق أكباد بهن جراح . بارك الله فيك يا سيدى ومعذرة لقلة فهمى . والله ما رأيت أحدا فى مثل حكمتك وفراستك ………………
@ ويأتي أهل اللغة والشعر والعروض فيحكى لهم الشافعى طرفا من نوادره وحكاياته ونتفا من أشعاره فى المواعظ والحكم ,وهم فى دهشة من فصاحة لسانه وعذوبة نظمه وإلقائه وهو ينشدهم :
لقد أسمع القـول الذى كان كلما .. تذكرنيه النفس قلبى يصدع ..
فأبدى لمـن أبداه منـى بشاشة .. كأنـى مسرور بـما منه أسمع ..
وما ذاك من عجب به غير أننى .. أرى ترك بعض الشر للشر أقطع ..
قال أبو يعقوب البويطى أكثر تلاميذه زهدا وورعا وأرجحهم عقلا وأدناهم منه مجلسا .............
ــ قد قلت فى الحكم يا شيخنا ,فهل لك فى الغزل ؟.
ــ يا كاحل العين بعد النوم بالسهر.. ما كان كحلك بالمنعوت بالبصر ..
لو أن عينى إليك الدهر ناظرة .. جاءت وفاتى ولم أشبع من النظر ..
سقيا لدهر مضى ما كان أطيبه .. لولا التفـرق والتنغيص بالسفر ..
إن الرسول الذى يأتى بلا عدة .. مثل السحاب الذى يأتى بلا مطر ..
خـلاف مالـك
@ فى تلك الأثناء أنجبت دنانير ولدها أبو الحسن بعد أن صار لهم فى مصر حولين من الزمان . جاءوا له بمرضعة من صعيد مصر إسمها "فوز" تتولى أموره . مضت الأيام تترى والشافعى ينشر آراءه وفتاويه من زاويته بالمسجد العتيق تماما كما كان يفعل فى حلقته فى البيت العتيق تحت الميزاب وتلاميذه المخلصون يكتبون كل حرف يقع فى أسماعهم , حتى صارت لدى كل منهم ذخيرة هائلة من الفتاوى والآراء والمسائل فى شتى أمور الدين , لكن بقى مؤذن المسجد العتيق "الربيع المرادى" أكثرهم إخلاصا للشافعى وأخذا منه وخدمة له . كان ينجز له كثيرا من مصالحه ويشترى له حاجيات بيته .
عاتبه الشافعى باسما ذات مرة , لما جاءه بورقة دون فيها ثمن ما اشتراه من السوق ..............
ــ ما هذا الذى كتبت . ضيعت قراطيسك باطلا ,إنى لا أنظر فى حساب لك يا ابن سليمان ..
ــ معذرة أيها الشيخ الجليل إن أم أبى الحسن ربما طلبت الشئ ولم تأذن لى أنت فيه ؟.
رد الشافعى مازحا ومداعبا ...........
ــ يا طويل الرقاد , أنت فى حل مـن مالى كله ..
فإذا ما خرج عن الدرس لحاجة مهمة أعاد عليه الشافعى ما فاته سماعه قائلا له ...........
ــ أكتب يا ربيع فأنت راويتى . ما أحبك إلى قلبى . والله لو أمكننى أن أطعمك العلم لأطعمتك ..
وكثيرا ما كان يطلب إليه وإلى الفتى الحبيب إلى قلبه "محمد" إبن صديقه عبد الله بن عبد الحكم أن يأتيا إليه فى داره ويقول لهما مرغبا ...........
ــ سوف أنتظركما ولن أتغدى حتى تأتيا . عندى جارية ماهرة فى صنع الطعام وتحسن عمل أصناف الحلوى التى تشتهونها ..
وكان فى المقابل لا يرد دعوتهما له إذا طلب إليه أحدهما أن يذهب معه لحفل عرس فى الفسطاط ولا يستنكف من إظهار سروره والتبسط مع القوم . وفى تلك المجالس لا ينكر عليهم ما يفعلونه من لهو برئ وضرب على الدف فى هذه المناسبات بل يشاركهم فرحتهم قائلا لمن يلمح على وجهه استنكارا لذلك منه وهو الشيخ الوقور ...........
ــ يا هذا لا تعجب . الوقار فى النزهة سخف ………………
وذات مرة حدث أنه لما تزوج الربيع المرادى ,سأله الشافعى .........
ــ كم أصدقتها ؟.
ــ ثلاثين دينارا ..
ــ كم أعطيتها من الثلاثين ؟.
ــ ستة دنانير ..
ما انتهى من إجابته حتى دخل الشافعى داره وعاد إليه قائلا وهو يمسك صرة فى يده ...............
ــ خذ يا ربيع تلك أربعة وعشرون دينارا . هيا أدً ما تبقى عليك من صداق امرأتك ..
كم من مرات كثيرة يستنهض همة تلاميذه بعد أن تعلموا منه الكثير وأخذوا عنه علوما جمه . كان يشيع روح المنافسة بينهم ويعد الواحد منهم بدينار أو أكثر إن أجاب إجابة صحيحة على سؤاله . أما ولده محمد أبو عثمان فإنه كان لا يفارقه فى مجلس العلم يظل معه الساعات الطوال وأبيه جالس يملى على تلاميذه كأنه يسابق الزمن رغم ما كان به من علة البواسير . حتى أن تلاميذه أحضروا له ذات مرة طبيبا مصريا لما رأوا من ضيق صدره وشدة المرض عليه وتحامله على نفسه . قال له الطبيب ناصحا بعد أن ركب له الدواء ............. ــ يا أبا عبد الله أنصحك ألا تطيل الجلوس وأن ترفق بنفسك ,فلا تحملها بعد فوق ما تحتمل . إعلم أن هذا الدواء وحده لا يكفى ..
لكن هيهات ,إنه يشعر ببصيرته وتفاقم علته أن أيامه فى الدنيا باتت قليله وأنه لن يعمر تحت سمائها طويلا . لم يكن أمامه بد من أن يعيش فى سباق مع أيامه الباقيه حتى يكمل رسالته التى لم يأن لها أن تكتمل بعد . لهذا كان يستمد قوته وعافيته من نبع آخر لا يوجد فى عقاقير الأطباء أو نصائحهم . كان إذا اشتد عليه المرض وأجهده السقم يقول لتلميذه محمد بن عبد الله بن الحكم ..........
ــ إذهب يا ولدى إلى بنت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" السيدة نفيسه . قل لها إن ابن عمك الشافعى ما منعه من زيارتك منذ أيام إلا المرض ويسألك الدعاء ..
وفور عودته من عندها يقول لشيخه .............
ــ السيدة نفيسه تقرئك السلام وقد دعت لك بالشفاء والعافيه ..
ــ علمت يا ابن عبد الحكم وأنت فى الطريق إلى ,فإنى عوفيت والحمد لله ..
وكان من عادة الشافعى أن يمر على دارها وهو فى طريقه إلى المسجد العتيق بالفسطاط وأيضا فى غير ذلك من الأوقات . وفى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث تقيم يجلس إليها يتدارس معها العلم ويسمع منها الأحاديث النبوية الشريفه ولا ينسى فى كل مرة قبل أن يخرج من عندها أن يسألها الدعاء ..
لم تكن تلك العلة هى الشئ الوحيد الذى ينغص عليه حياته ويكدر صفو لياليه لكن أبت الأقدار رغم معاناته مع المرض وتقلباته أن تتركه ينعم بالدعة والسكينة والأمن الذى شعر به منذ وطأت أقدامه تراب مصر ثم على امتداد عامين ارتوى خلالهما من ماء نيلها العذب . أخذت الأمور تتفاقم بينه وبين بعض المتعصبين لآراء إمام المدينه مالك بن أنس الذين ظنوا لضيق أفقهم وضحالة أفهامهم أنهم بأفعالهم الحمقاء وتهجمهم واجترائهم على الشافعى أكثر غيرة على شيخهم وأشد ولاء وأنهم أكثر محبة ووفاء له من سواه ..
لم يعلموا لقصر نظرهم أن الشافعى باحث أمين عن الحقيقة المجردة التى لا مجال فيها للمحاباة أو المداراة حتى لو كانت مع شيخه الحبيب إلى قلبه . الذى كان يقول دائما إذا سئل عنه .............
ــ إذا ذكر العلماء فمالك هو النجم وهو الأثر ..
وقصة هذه الخلافات التى ظلت تحتدم وتتفاقم حتى وصلت إلى المواجهة والصدام بدأت منذ بدأ الشافعى يلقى دروسه على الناس ويجاهر غير هياب ببعض الآراء والفتاوى . تصور بعض المتعصبين ذوى الأفق الضيق أنه يقصد من ورائها تعمد هدم ما تعلموه فى الزاوية المالكيه وما انتهجوه على يد شيوخهم من فقه إمام دار الهجره مالك بن أنس . وانفجر بركان الحقد والغل يوم أن خرج الشافعى على الناس بكتاب كتبه بعد أيام من وصوله إلى مصر وظل حبيسا لا يرى النور حولا كاملا إلى أن جاءه بعض الناس من طلاب العلم قائلين له ................
ــ كنا بالأمس نتحاور فى مسألة مع واحد من أولئك الذين يجلسون فى زاوية المالكيه عند الشيخ أشهب بن عبد العزيز فاختلفنا حول مسألة من المسائل فقلت له : قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وتلوت عليه الحديث الذى يؤيد رأيى ....
سأله الشافعى ....
ــ ماذا فعل ؟.
رد على غاضبا ...... إمامنا مالك قال كذا وتلا على حديثا آخر . فما كان منى إلا أن فارقته دون أن أتم الحوار معه ..
ــ حسنا فعلت يا رجل . أما هؤلاء فإنهم بلهاء حمقى مبتدعون يتصورون أنهم بحماقاتهم تلك وتعصبهم يوقرون شيخهم . بينما هم فى الحقيقة يسيئون إليه ويضعون من قدره ..
ظل الشافعى طوال الطريق وهو راجع إلى داره بعد هذا اللقاء يقلب فى رأسه ما سمعه لتوه . كان فى حيرة من أمره إزاء هذه النازلة وتلك الفتنة التى تطل برأسها على الناس . إنها نازلة التعصب البغيض وفتنة الفرقة والخلاف والجدل وهو يشعر أن عليه واجبا تجاه الدين والعلم ويحمل على كاهله أمانة وواجبا عليه آداؤه لأمة الإسلام والمسلمين . ما كادت قدماه تلمسان عتبة الدار حتى كان القرار النهائى مستقرا فى رأسـه ..
بدأ من حينه فى تدوين هذا الكتاب الذى أسماه “ خلاف مالك “ . ظل ليال طوال عاكفا عليه يثبت فيه المسائل التى يختلف فيها مع شيخه إلى أن أتمه أخيرا ثم طواه ووضعه فى خزانة عنده . ظل الكتاب حبيسا عن أعين الناس لا يطلع أحدا عليه حولا كاملا . ما فعل ذلك إلا تأدبا مع أستاذه الراحل وحياء وهيبة منه ووفاء لذكراه منتظرا أن يأتيه أمر من ربه أو يشرح صدره لنشره على الناس . حتى كان يوم جاءه فى داره وكان معتكفا منذ أيام تلميذه الدؤوب "الربيع المرادى" . إستأذن فى الدخول ولدى جلوسه سأله بعد أن تبادلا عبارات الترحيب والسلام ...........
ــ كيف أصبحت يا إمام ؟.
ــ أصبحت ضعيفا يا أبا حامد ..
ــ قوى الله ضعفك يا شيخنا ..
ــ أجاب الله قلبك ولا أجاب لفظك يا ربيع ..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟.
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إن قوى الله على ضعفى قتلنى يا رجل ..
نظرا إليه متسائلا فأجابه الشيخ قبل أن يسأل ...........
ــ قل قواك الله على ضعفك ..
ــ لا تؤاخذنى يا شيخنا والله ما أردت إلا خيرا وما قصدت إلا الدعاء لك ..
إبتسم الشافعى مرة ثانية وهو يقول ..........
ــ لا أكذبك يا بنى . والله لو شتمتنى صراحا لعلمت أنك لم ترد . المهم ماذا وراءك يا أبا حامد ؟.
ــ بالأمس جمعنى لقاء مع الجيزى والبويطى وابن عبد الأعلى فى دارى بعد صلاة العشاء . أخذنا الحديث والنقاش فى أمور كثيره حتى اختلط علينا الأمر فى بعض القضايا ولم نستطع بيان الحقيقة فيها . وبعد أن ذهب كل واحد إلى داره أخذت أفكر وحدى فيما قلناه وأعيد النظر فيه . شعرت أن الحقيقة لا تزال تائهه فعزمت بينى وبين نفسى أن آتى إليك لتجلى لنا حقيقة الأمر ؟.
ــ لم أفهم بعد ماذا تقصد تحديدا وإن كنت أدركت من كلامك أنك ربما تعنى تلك الأمور التى كنتم تعملون بها وجئتكم أنا بخلافها . أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا إمام ..
ــ إذن سل يا مؤذن المسجد العتيق ما بدا لك ..
ــ بأى شئ تثبت الخبر عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنا نسمع أحاديث يخالف بعضها بعضا ؟.
ــ آه سؤال مهم وبداية طيبة منك . كتبت رأيى فى تلك القضية المهمة مؤيدا بالحجة فى كتاب أسميته جماع العلم وفصلت الكلام فيها فى كتاب آخر لم أخرج به بعد على الناس ..
ــ ليتك تروى ظمأى بشئ منه الآن ..
ــ إسمع يا أبا حامد إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهى إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فهو ثابت عنه "صلى الله عليه وسلم" . ولا تترك لرسول الله حديثا أبدا إلا حديثا وجد عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يخالفه ..
ــ تلك هى القضية التى شغلتنى ماذا أفعل إذا اختلفت الأحاديث ؟.
ــ إذا اختلفت الأحاديث عنه فالإختلاف فيه وجهان ,أحدهما أن يكون بها ناسخ ومنسوخ فنعمل بالناسخ ونترك المنسوخ ..
ــ فإذا لم يكن لدينا دليل على أيها الناسخ وأيها المنسوخ ؟.
ــ لا تتعجل يا ابن سليمان ,هذا هو الوجه الآخر . إذا اختلف حديثان ولا دلالة على أيها الناسخ نذهب إلى أثبت الروايتين . فإن تكافأتا ذهبت إلى أشبه الحديثين بكتاب الله وسنة نبيه فيما سوى ما اختلف فيه الحديثان من سنته . فإذا كان الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا مخالف له عنه وكان يروى عمن دون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يوافقه لم يزده قوة وحديث النبى "صلى الله عليه وسلم" مستغن بنفسه . وإن كان يروى عمن دون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يخالفه لم ألتفت إلى ما خالفه . وحديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أولى أن يؤخذ به ..
ــ هل يذهب صاحبنا هذا المذهب ؟.
ــ تقصد شيخنا مالك بن أنس إمام دار الهجره ؟.
ــ أجل ..
ــ نعم ذهب هذا المذهب فى بعض العلم وتركه فى بعض لقول واحد من الصحابة أو لقول بعض التابعين أو لرأى نفسه . ثم يقول فى بعض ما ذهب إليه من المختلف فيه : الأمر المجتمع عليه عندنا ولا يجوز ادعاء الإجماع بالمدينه أو فى غيرها . وفى قول الذى ادعى فيه الإجماع اختلاف . ولا يجوز القول أيضا بأن الناس اجتمعوا على شئ إلا إذا التقى أهل العلم وأقروا بما اجتمع عليه الناس . أو يقولوا فى أقل القول لا نعلم من أهل العلم مخالفا فيما قلتم اجتمع الناس عليه . أما أن تقولوا اجتمع الناس وأهل المدينة معكم يقولون ما اجتمع الناس على ما زعمتم أنهم اجتمعوا عليه فأمران أسأتم النظر بهما لأنفسكم وعندى أمثلة كثيرة تدلك على صحة ما أقول ..
ــ هل تفصلها لنا يا سيدى حتى نزداد تفقها فى أمور ديننا ؟.
ــ سأوردها للناس وأعرفهم بجلية الأمر فى حينه حتى ينتبهوا قبل رين الغفلة إن شاء الله ..
ــ ليتك تنير بصيرتى وتجلى لى هذا الغموض الآن ولو بمثال واحد يا سيدى ؟.
ــ سأضرب لك مثالا الآن بسجود القرآن . ماذا تقولون فيه ؟.
ــ نقول اجتمع الناس على أن سجود القرآن إحدى عشرة سجده ليس فى المفصل ( السور التى آياتها قليله ) منها شئ ..
ــ وهذا قول مالك أليس كذلك ؟.
ــ بلى ..
ــ أى الناس أجمع على أن لا سجود فى المفصل وقد روى هو عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أنه سجد فى "إذا السماء انشقت" . وأن أبا هريرة وهو من الصحابه سجد فيها وأن عمر بن عبد العزيز وهو من التابعين أمر القراء أن يسجدوا فيها . أليس هو نفسه عمر بن عبد العزيز الذى تجعلون قوله فى مسألة اليمين أصلا من أصول العلم مع أنه يخالف فيها سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ثم تجدونه يأمر بالسجود فى هذه السورة ومعه سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ورأى أبى هريرة . فتتركونه ولم تسموا أحدا خالف هذا وتزعمون أن الناس اجتمعوا أن لا سجود فى المفصل . يا ليت شعرى من هؤلاء المجتمعون الذين لا يسمون فإنا لا نعرفهم ولم يكلف الله أحدا أن يأخذ دينه عمن لا يعرفه ..
ــ الحقيقة يا سيدى أنى سمعت نفرا ممن يجلسون إلى شيوخ الزاوية المالكيه مثل أشهب بن عبد العزيز والقاضى عيسى بن المنكدر . يثرثرون بكلام فهمت منه أنهم يعترضون على بعض الآراء لك ويقولون إنك تخالف ما هم عليه وما تعلموه على يد شيوخهم ..
ــ يريدون المناظرة إذاَ . لا بأس فليس أحب إلينا من إظهار الحق وبيانه حتى لو كلفنا ذلك ما لا نطيق ..
صمت برهة ثم أردف قائلا بعد أن مد يده إلى خزانة كتبه وأخرج كتابا منها .....
ــ أتدرى ما هذا الكتاب يا أبا حامد ؟. إنه الكتاب الذى حدثتك عنه فى بداية اللقاء . دونت فيه مسائل الخلاف بينى وبين أستاذى ومعلمى مالك بن أنس . كتبته كما كتبت قبل ذلك المسائل التى اختلف فيها فقهاء العراق ..
ــ متى كتبته ؟.
ــ فى العام الماضى ..
أخذته الدهشة قائلا ........
ــ يااااه حول كامل ولا تخرج به علينا ؟.
ــ أجل ترددت كثيرا فى إظهار ما فيه على الملأ . ليس خوفا من تلك القلة القليلة من بعض الحمقى الذين يسيئون للشيخ بتعصبهم الأعمى ورعونتهم . بل أدبا وحياء من الشيخ أن أظهر خلافه ؟.
ــ لكن آن الأوان إذن لإظهاره على الملأ يا سيدى ..
ــ لا لن أخرج به على الناس الآن يا أبا حامد . أخشى أن أتجاوز بهذا الفعل واجبى نحو شيخى ومعلمى وأكره أن أفعل ذلك قبل أن أستخير ربى أولا والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ..
@ لم تكد تمض أيام على هذا اللقاء حتى خرج الشافعى بكتابه على الناس بعد أن استخار ربه واطمأنت نفسه إلى أن حق العلم وأمانته أولى من حق العلماء والشيوخ . كان يهاب شيخه حتى وهو فى عالمه الآخر وذكرياته معه لا تزال حاضرة فى قلبه تلح عليه كلما جاءت مناسبة له أو حديثا عنه . قال غير مرة لتلاميذه وأصحابه
ــ ما هبت أحدا قط هيبتى من مالك ..
لكن ما الحيله وهو يعلم أن أستاذه فى نهاية الأمر بشر يجتهد رأيه فيخطئ ويصيب ككل البشر . وله مع ذلك أجرا إذا أخطأ وأجران إذا أصاب . أخرج الشافعى من عباءته علوما ما سمع بها أهل مصر من قبل غيرت كثيرا من مفاهيمهم حول أركان الإسلام مثل الصلاة والزكاة والحج وما يتعلق بها من فروع وتفصيلات . أيضا ما يتعلق بسائر التكاليف والتشريعات والأقضيه ..
ظل أياما على هذا المنوال يتحامل على نفسه ذاهبا كل يوم إلى زاويته يطعم الناس علومه ويرشدهم إلى الصواب فى أمور دينهم . حتى غلبه المرض وأقعده فلم يجد مناصا من البقاء فى داره رغما عنه لا يستطيع حراكا . وبعد أيام بدأت الآلام ترتحل عنه شيئا فشيئا وأخذ يستعيد بعضا من قواه التى افتقدها أياما طويلة مرت عليه كأنها دهر من الزمان ..
فى تلك الأثناء زاره صديق عمره عبد الله بن عبد الحكم ومعه ولده محمد . كان الشافعى يكن لهذا الفتى مودة خاصة ويحبه كأحد أبنائه . حتى أنه تحامل على نفسه وهو لا يزال عليلا قبل أيام وذهب ليعوده لما علم بمرضه فلما رآه راقدا فى فراشه يكابد مشقة المرض حزن فى نفسه عليه حزنا شديدا ورجع إلى داره مهموما كاسف البال . مضت أيام قلائل وجاء الولد برفقة أبيه بعد أن عوفى من مرضه ليعود أستاذه وشيخه . رآهما الشافعى وهما لدى الباب فهب من فراشه وهو يشعر بالعافية تسرى إلى بدنه قائلا
ــ أهلا ومرحبا بالأحباب ..
هرع إليه صديقه ليعيده إلى فراشه وهو مشفق عليه فقال له الشافعى
ــ دعنى أيها الصديق والصاحب لقد برئت لتوى من علتى لرؤية ولدى محمد بعد أن عافاه الله وصرف عنه ما كان فيه ..
ثم أنشد مرتجلا :
مرض الحبيب فعدته .. فمرضت من حذرى عليه ..
وأتى الحبيب يعودنى .. فبرئت مـن نظـرى إليه ..
@ وذات يوم تهيأ للخروج من داره قاصدا زاويته فى مسجد الفسطاط العتيق بعد أن أقعده المرض أياما . نادى على ولده الذى صار له من العمر عشرون عاما كاملة يتعجله للذهاب معه كعادته مذ جاء إلى مصر وبالذات فى الأيام الأخيرة لما اشتد المرض عليه وأنهك قواه لم يعد قادرا على الخروج وحده دون مساعدة ولده . كان يتخذه تكأة يستند على كتفيه فى الطريق ..
ــ هيا بنا يا أبا عثمان لقد تأخر بنا الوقت يا ولدى ..
جاءه صوته ملبيا من داخل الدار ولم يلبث أن خرج عليه مسرعا وهو يحكم رداءه حول خاصرته . وقبل أن يأخذ بيد أبيه ليخطو به خارج الدار توقف الشافعى مكانه وهو يحملق فى وجهه الذى بدا مهموما كئيبا على غير عادته ثم قال له
ــ مالك يا أبا عثمان أراك مهموما حزينا . و تبدو عليك آثار السهد والأرق . مالك يا ولدى , صارح أباك ؟.
قال ذلك بعد أن استدار جالسا وأشار لولده أن يجلس إلى جواره فى ردهة الدار ليحكى له عما أهمه وأرق جفونه . قال متلعثما بعد أن ظل يراوغ ويتعلل بعلل واهية :
ــ الحقيقة يا أبت أنى سمعت بالأمس كلاما عليك أثار ضيقى وحنقى وعز على أنى لم أقتص من قائله بل عففت لسانى من الرد عليه ..
تبسم الشافعى قائلا فى هدوء وسكينه
ــ ما هى الحكاية يا أبا عثمان ؟.
ــ كنت بالأمس أسير فى سوق القناديل فمررت على جماعة يجلسون أمام أحد الدكاكين متحلقين حول شيخ الزاوية المالكيه ..
ــ من فيهم ؟. آه ,فهمت. لعله أشهب بن عبد العزيز ؟.
ــ أجل يا أبت ..
ــ إيه .عجيب أمر هذا الشيخ . ما أخرجت مصر أفقه منه لولا طيش ورعونة فيه . المهم أكمل يا ولدى ..
ــ لما رآنى رفع صوته وقال كأنه يحدث من حوله ليسمعنى …………
ــ أتحسبون هذا الحجازى المدعو محمد بن إدريس فقيه حقيقة ؟. إنه ليس بفقيه البته كما يدعى ويروج له أصحابه . إنه يتخبط فى أقواله ويتطاول على شيخه ومعلمه ثم يدعى ويقول مداريا : ما أحدا أمن على من مالك بن أنس . كيف يدعى ذلك الإفك فى ذات الوقت الذى ينشر على الملأ كتابه الذى ملأه بأباطيله وافتراءاته على معلمه ؟……………
ضحك الشافعى قائلا ...
ــ أهذا ما أحزنك يا ولدى وأغمك وأرقك ؟.
قال ذلك ثم ربت على كتفيه قائلا ...
ــ يا ولدى …
إنى نشأت وحسادى ذوو عدد .. رب المعارج لا تفنى لهم عددا ..
رد ولده فى الحال معقبا وقد بدا ضيق الصدر رغما عنه ...
ــ تدعوا الله يا أبت لحسادك والحاقدين عليك أن يبقيهم ويزيدهم عددا ؟.
إتسعت ابتسامة الأب قائلا ...
ــ ولم لا أفعل يا أبا عثمان ؟. كل ذى نعمة محسود . يا ولدى دعائى لهم بالبقاء والزيادة هو دعاء منى إلى الله تعالى أن يبقى على ما أولانى من نعم وأن يزيدنى منها . ألم يأمر النبى "صلى الله عليه وسلم" أن يطلب الزيادة فى العلم لما قال له “ وقل رب زدنى علما “ هل أمره بالزيادة من شئ آخر بخلاف العلم ؟.
هز الإبن رأسه ساكتا دون أن يعقب فأردف الأب ...
ــ ما دمت تعلم هذا فلم الحزن والغضب ؟.
ــ يا أبت هذا الذى قاله لم يحزننى وإن أساءنى وأغضبنى . إنما الذى أحزننى هو ما سمعته منه بعد ذلك ..
ــ ماذا سمعت منه يا ابن الشافعى ؟.
ــ بعد أن فرغ من شتائمه وإهاناته رفع يديه للسماء وأخذ يدعو عليك قائلا ... اللهم أمت الشافعى ولا تجعل له مقاما بيننا وإلا ذهب علم مالك ..
رد الشافعى مبتسما وهو يتهيأ للقيام من مجلسه استعدادا للخروج :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت .. فتلك سبيل لسـت فيها بأوحد ..
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم .. لئن مت ما الداعى على مخلد ..
هات ذراعك يا أبا عثمان لأتكئ عليها وهيا بنا إلى الدرس لقد مضت أيام لم أخرج فيها إلى الناس . سنعرج فى البداية على دار السيدة نفيسه نسلم عليها ونسألها الدعاء قبل أن نمضى إلى مسجد أهل الرايه أو تاج المساجد كما يسميه المصريون . هيا يا ولدى وإياك أن تلتفت مرة أخرى لمثل هذا الصغار أو تشغلنك أمثال تلك الترهات عن علومك ودروسك ..
@ بلغت سمعة الشافعى أطراف البلاد فى الشمال والجنوب فكانت ترد عليه وفود القبائل من صعيد مصر وشمالها يحكمونه فى قضاياهم ,وتأتيه الرسائل منهم يستفتونه فى أمور دينهم آخذين منه حكم الشرع فيما يشكل عليهم من قضاياه . جاءه ذات مرة جماعة من صعيد مصر يسألونه عن قول الله عز وجل : "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" قال لهم ...
ــ لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا . وهو دليل على أن أولياءه يرونه يوم القيامه ..
سأله كبيرهم وقد تهللت أساريره من إجابة الشيخ ...........
ــ هل تدين بهذا يا سيدنا ؟.
ــ والله لو لم يوقن ابن إدريس أنه يرى ربه فى المعاد لما عبده فى الدنيا ..
وفى ذات مرة جاءه رجل , سأله الشافعى عن حاجته فقال له .............
ــ مسألة فى الميراث ..
ــ هات مسألتك ..
أعطاه رقعة مكتوبا فيها :
رجل مات وخلف رجلا .. ابن عم ابن أخى عم أبيه
أجابه الشافعى فى الحال مرتجلا :
صار مال المتوفى كاملا .. باحتمال القول لا مرية فيه ..
للذى خبرت عنـه أنه .. ابن عم ابـن أخى عم أبيه ..
وكان مجلسه لا يخلو من طرف ودعابات تفرضها أسئلة البعض من الظرفاء . كانوا يعرفون عن الشافعى موهبته فى الشعر وسرعة بديهته فى الرد . من هذه المرات أتاه أحد المصريين يقول :
ماذا تقول هداك الله فى رجل .. أمسى يحب عجوزا بنت تسعين ؟.
إبتسم الشافعى قائلا :
نبكى عليه فقد حق البكاء له .. حب العجوز بترك الخرد العين ..
@ وجاء أحد الناس إلى مجلسه ذات مرة وسأله ..........
ــ أى الأعمال عند الله أفضل ؟.
ــ ما لا يقبل عمل إلا به ..
ــ وما ذاك ؟.
ــ الإيمان بالله الذى لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا ..
ــ سمعنا أنك تقول أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص ؟.
تفرس الشافعى فيه برهة وقد لاحظ تململ أصحابه منه لمعرفتهم به وبنهجه الشاذ وأفكاره الضاله ثم سأله .........
ــ وما تقول أنت فيه ؟.
ــ أقول أن الإيمان قول يكفى فيه الإقرار باللسان والتصديق بالقلب أما الأعمال فإنها شرائعه ..
ــ ما اسمك يا رجل ؟.
ــ إسمى حفص الفرد ..
رد الشافعى فى لهجة ساخرة لاتخلو من حدة واستنكار ..............
ــ بل حفص المنفرد . علمت ساعة وقعت عينى عليك أنك من أهل الأهواء وأصحاب البدع أولئك القائلين بخلق القرآن . أفى هذا الذى تدعون إليه كتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمه وواجب على الناس البحث فيه ؟.
ــ لا . إلا أنه لا يسعنا خلافه ..
ــ قد أقررت على نفسك الخطأ أين أنت من الكلام فى الأخـبار والفقه ؟.
رد فى لهجة مستفزة وهو يكتم ضيقه وتبرمه ..........
ــ دعنا من هذا وأخبرنى أنت عن الإيمان ؟.
ــ الإيمان عمل لله والقول بعض ذلك العمل ..
ــ صف لى ذلك حتى أفهمه ؟.
ــ إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات منها التام المنتهى والناقص البين نقصانه والراجح الزائد رجحانه ..
ــ ما الدليل على ذلك ؟.
ــ إن الله فرض الإيمان على جوارح بنى آدم فقسمه فيها وفرقه عليها . ليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى . فمنها أمير جوارحه وسيدهم قلبه الذى يعقل به ويفهم ويفقه وعيناه وأذناه ويداه ورجلاه وفرجه ولسانه ورأسه . وسمى الله تعالى الطهور والصلوات إيمانا فى كتابه فى قوله تعالى مبشرا المسلمين أنه يقبل صلاتهم التى صلوها إلى بيت المقدس قبل تغيير القبله : “ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيـم “ . فمن لقى الله حافظا لصلواته وجوارحه لقيه مستكمل الإيمان . ومن كان لشئ منها تاركا لقى الله ناقص الإيمان ..
ــ هذا عن إتمام الإيمان ونقصانه فما الدليل على أنه يزيد ؟.
ــ قول الله جل ذكره : "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا . فأما اللذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون . وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافـرون" ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة لم يكن لأحد فيه فضل واستوى الناس وبطل التفضيل . لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنه وبالزيادة فيه تفاضلوا بالدرجات عند الله وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار . كل امرئ على درجة سبقه لا ينقصه الله حقه ولا يقدم مسبوق على سابق ولا مفضول على فاضل . ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه للحق آخر هذه الأمة بأولها ..
@ ولم يكن الشافعى يستنكف أو يجد حرجا فى إعلان آراء وأحكام فى مصر تخالف ما كان يقول به قبل ذلك فى الحجاز والعراق . لم يتمسك برأى أو يتعصب لفتوى ,بل غير كثيرا من آرائه وفتاواه السابقه . من ذلك أن شيخا طاعنا فى السن سأله ذات مرة ............
ــ يا إمام إنى رجل بلغت من العمر أرذله وأجد مشقة كبيرة فى صوم شهر رمضان . هل لمثلى أن يفطر ؟.
ــ الشيخ الذى تلحق به مشقة شديدة إذا صام وأن يجهده الجهد غير المحتمل . وكذلك المريض الذى لا يرجى برؤه لا صوم عليهما أبدا لقوله تعالى ‘‘ وما جعل عليكم فى الدين من حرج ‘‘ ..
ــ وهل على فدية إذا أفطرت ؟.
ــ كنت أقول من قبل وأنا بالحجاز أنه لا فدية عليهما لأنه سقط عنهما فرض الصوم كالصبى والمجنون تماما وهو قول مكحول وربيعة ومالك وأبا ثور . لكن ثبتت لدى أدلة أقوى تجعلنى الآن أقول بوجوب الفديه وهى مدٌ من طعام لكل يوم برا أو تمرا أو شعيرا أو غيرها من أقوات البلد . به قال طاوس وسعيد بن جبير والثورى والأوزاعى وذلك لقول ابن عباس رضى الله عنهما : "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح" . وقال ابن عمر رضى الله عنهما : "إذا ضعف عن الصوم أطعم عن كل يوم مدا" . وروى أن أنس بن مالك رضى الله عنه ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم ..
فتح الموضوع شهية جماعة العلم للسؤال والحوار . تنحنح الفتى محمد بن عبد الحكم قائلا .............
ــ ما الحكم إذن فيمن فاته الصوم أو غيره من نذر أو كفارة لعذر وأمكنه القضاء ثم أدركه الموت قبل أن يقضى ما عليه . هل يصح قيام وليه بقضاء ما عليه أم تجب الفدية فى تركته أم لا شئ عليه ؟.
ــ من فاته لعذر شئ من صيام رمضان أو نذر أو كفارة فمات على حالته التى هو فيها كالسفر أو المرض قبل إمكان القضاء فلا تدارك له بفدية أو قضاء ولا إثم عليه . لأنه فرض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج مثلا . أما سؤالك الذى تسأل عنه فهو حكم من فاته شئ من ذلك بعذر أو بغيره فمات قبل القضاء عليه وبعد التمكن منه أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا سيدى الإمام ..
ــ كنت أقول من قبل فى هذا أن الوالى بالخيار إن شاء صام عنه وإن شاء أخرج عنه من تركته لكل يوم مد طعام وتبرأ ذمة الميت بأيهما فعل . إستنادا إلى حديث ورد فى ذلك عن السيدة عائشه وعبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما . لكن تبين لى بعد البحث أنهما لم يعملا به ووجدت رأيا آخر لابن عمر وابن عباس وعائشه وبه قال شيوخنا مالك وأبى حنيفه وغيرهم أنه من فاته الصوم فمات قبل القضاء وبعد التمكن فإنه يجب فى تركته لكل يوم مد من طعام ولا يصح لوليه أن يصوم عنه ..
يتبع .. إن شاء الله ...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها