عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11/02/2010, 03h58
بلقيس الجنابي بلقيس الجنابي غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:307333
 
تاريخ التسجيل: October 2008
الجنسية: عراقية
الإقامة: عرائش الكروم هناااكـ
المشاركات: 799
Post قراءة نقدية شاملة - يا دار هلدله بالشتات ألا ألطمي-د.عبدالله كراز

الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا

الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا في "يا دار هدله بالشتات ألا الطـُمي" للشاعرة العراقية الكبيرة بلقيس الجنابي


بقلم/ د. عبد الله حسين كراز

كثير هم من انشغلوا في واشتغلوا على هموم الوطن وشؤونه وآلامه وأوجاعه ومصائبه كما وتطلعاته وأحلامه وأشجانه وما بين الأسى والحزن واليأس والإحباط وبين الحالة المتشظيه في المشاعر والأحاسيس والتطلعات تكمن أسرار البقاء والبحث عن المكان في جوف الأزمنة كلها بطريقة الكتابة بدم القلب وحبر السنين وماء البحر وعذب النهر وطين الشوارع ورمل الشواطئ ونخيل الأرض، رسماً تحمله المآقي والترائب والأفئدة التي حملت رحم المعاناة التي جسدها الجلادون وذوو القلوب المتحجرة والظلاميون والمنافقون والأفاقون والمرتزقة وما انفكوا يطاردون أحلام الماجدين والماجدات من أبناء الأوطان التي تحلم بشمس الحرية والانعتاق من أغلال المحتل والاستعمار والغزاة والطامعين بخيرات البحر والنهر والسماء والأرض والبر وناسها الطيبين.
شعراء وشاعرات تأبطوا/ن الهموم كلها في وجع متواصل ومتفاعل وحميمي، كتبوا/ن بالدم وحبر اللحم ما انشقت عنه صدورهم/ن وأقلامهم/ن رغم كيد الكائدين والخائبين والمتوجسين من ثورة الحق حين تأتيهم من فوق الهام ومن تحت أرجلهم وعن شمائلهم وعن يمينهم، تكون كالطلقات التي تحمل ثورة وحجارة من سجيل تدك مضاجعهم ومنابت مفاسدهم وتدافع عن كرامة الوطن والمواطن، وعن تاريخهم وتراثهم وحضارتهم وعقيدتهم وأصالتهم، ترفض التبعية والانقياد والارتباط مع المحتل والغاصب والعدو وتتحدى كل مظاهر التغيير والإحلال والتهميش والتغريب والتشويه.
هنا نص يعبر في ثنايا حروفه وصوره ومعادلاته الموضوعية وتعبيراته الفنية واستحضاراته التاريخية والتراثية والأسطورية عن ثورة الإنسان والوطن ضد الظلم والطغاة ممن يحولون تغيير أسماء الحارات والشوارع والمساجد والمدارس والجامعات، وتهجين اللغة وتشويه التاريخ وضرب الأمة بالأمة من أجل أن يتسيد ويفرض سطوته وإرادته وعنجهيته وأجندته على المحتل (الرازح تحت بطش الاحتلال وعملائه).
تحرص الشاعرة أن توظف مفرداتها بعناية وسلاسة حتى يكون أثر التلقي أكبر، وفي مفتتح النص تبادر لطرح سؤالها المؤرق والباعث على الصدمة والتمني معاً، إذ لا بد أن يرحل العدوان الذي جثم على قلب أرض وطنها وعاث فيها فوضى وفساداً وتسبب في كوارث إنسانية وطبيعية، وما يدهش القارئ هنا هو اللفظتان "الجيثوم" الذي تلبد بالأرض الخضراء والطبيعية مسبباً فيها وبين ناسها الكوابيس الجاثمة على صدورهم وفي قلوبهم:

هل غادر الجيثوم والجثام
ومن تلك اللحظة الشعورية والحسية النابضة بالحس الوطني والانتماء للأصل تتمنى الشاعرة أن تتم إبادة الظلم ومن تسببوا فيه وأن ينمحي الإجرام الذي خلف القتل والدمار وترك الأرامل والأرض جرداء ومحترقة:
وأبيـد ظلم وأمحى إجرام
وتبدو الصورة الفنية هنا في تجسيد المعنوي (الظلم والإجرام) كي يحرك مشاعر القارئ الذي يتماهى مع الصوت الوطني الناهض من تلافيف النص بما حوى.
ثم تتواصل أصوات الأماني من داخل الباطن الشاعرة والباحثة عن حلول تعيد للأرض مجدها وخضرتها وتاريخها وعنفوان شبابها بالتحرر من نير الظلم ومسببيه، وما استحضار الأرض مباشرةً هنا إلا دليلاً على قول الحقيقة أن الأرض وناسها بكل طبقاتهم، ولا استكبار في ذلك، ترفض المحتل الغاشم والناهب لخيرات الأرض التي توشحت بالسواد، وهي صورة تثير الإحساس بالثورة على الغاصب الظالم والظلامي، وهذا يدل قطعياً على شعور الذات الشاعرة بحميمة الحنين إلى وطن الأجداد والآباء والشهداء والحضارة والتاريخ، ويوحي بصوت نهضوي ثوري تحرري ضد الكولونيالية الجديدة التي استباحت الأرض والعرض والشجر والحجر والبشر:

وتحررت أرض السواد
وما نلمسه هنا أيضاً هو نبرة التهكم والسخرية في وجود "عدل وأمن زائد وسلام" وهذا ما دمره الاحتلال وعملاؤه، مثله في ذلك مثل أي احتلال يجثم على أي أرض يعيث فيها فساداً وخراباً ودماراً ومحواً للهوية التاريخية والحضارية للأرض التي يغتصبها من أصحابها الأصليين، بحيث تكون هذه التورية المجازية صريحة في قول عكس ما تخبؤه المفردات وهو لعب ماهر بالكلمات التي توجع القارئ عندما يدرك أن الأمر عكس ما يبوح به النص:
وإخوة وسكينة وتضامن
ومحبة ومودة ووئام
وتصل قمة السخرية المنطوية على أمنية وحلم لا بد يتحقق عندما تستحضر الشاعرة رمزاً معادلاً موضوعياً أسطورياً تاريخياً يكفي لوحده أن يقول كل شئ حول تجربة الشاعرة وما يفتعل في باطنها، متمثلاً في "أوروك":
واستبشرت أوروك
لنعلم من كتب التاريخ أنها مدينة عراقية عريقة تحمل عبق الحضارة والتاريخ والتراث والانتماء والحب والتوحد مع الأرض والناس، ولها أسماء أخرى مثل أورك و أرك اشتهرت بصناعة الفخار رمز الالتصاق بالأرض وطينها. وهذا يدل بوضوح حرص الشاعرة أن تذكر قارئها بأمجاد أمتها وتاريخها وحضارتها، وتدل لدلالة قاطعةً على حميمية الانتماء والولاء لله ثم للوطن الذي أنجب الخير الكثير لأهله وأطفاله ورجاله ونسائه:
وما بين الكلمات والكلمات تتحرك لغة الشاعرة تعبر عن الدفين من النوايا والرغبات والأحلام في أن "أوروك" قد استبشرت:

بالخير وازدهرت بها الأيام
واستقبلت أعيادها وتماثلت

لشفائها وتلاشت الأورام
وتحققت أحلامها وتبددت
وتعبر الشاعرة عن أحد أهم قضايا أمتها إلا وهي الوحدة والتوحد والتضامن والتلاحم بين كافة شرائح المجتمع، ولكن السواد الأعظم من المعنى يذهب منحى التحسر والتألم والرثاء على الأيام الخوالي حين كان كل ما جاء به النص فاعلاً ومتسيداً للقاصي والداني، فالشاعرة تعبر عن مكنون أحلامها، وتأخذنا للماضي القريب تستحضر منه صورها وثيماتها وفكرتها وأحاسيسها وتسترجع بنا كل مظاهر الحياة قبل أن تقتل الحياة، فالأمنية المتوحدة والمتسيدة هنا هي أن ترى الشاعرة ومعها طبقات كبيرة من ناسها وشعبها أن:

وشائج القربى تسامت بالرؤى
وعلى الصفاء تواصت الأرحام

ثم تطرح سؤالاً تهكمياً وساخراً، بعد أن تذوب "أناها" الشخصية في "الأنا الجمعية" الوطنية التي ما زالت تقبع في مآسي الاحتلال والجاثمين على أرض عراقها عنوة وظلماً وعدواناً، وبعد أن تكون قد توحدت مع رموز أسطورية من عبق التاريخ والحضارة والتراث:

هل آمن الآتي المحرر أهلها
من نفسه أو حطمت أصنام

ثم تعيد تكرار ذكر "أوروك" بما تحمله من دلالات عميقة ومتسعة في أفقها الوطني والتاريخي، وبالسؤال ذاته المثير للسخرية والمفاجأة، حيث لفظة "العظيم" جاورت "أوروك"، لتدل على بقاء الانتماء العظيم والقوي للوطن الأم رغم كل محاولات طمس هويته الحقيقية وتراثياته ومعالم الوجود الأصيل على أرضه:
هل حال أوروك العظيم تمام

ثم يتحول الخطاب بزاوية لا تبتعد عن بؤرة الزوايا السابقة من البوح النصي والسياقي، حين تصف العراق كله ضحية تعاني الأمرين من محتليه وسارقيه وظالميه، هنا البكاء ليس حسرةً ولا تحسراً ولا استسلاماً ولا محض يأس، بل صوت يعلو ولا يعلى عليه، خاصةً وأن الشاعرة تستحضر من عبق التراث والتاريخ الوطني رمزاً أسطورياً يشكل معادلاً موضوعياً للأنا الشاعرة تتمثل في شخصية "حذام" :

نبكي العراق كما بكته حذام

وكما يخبرنا التاريخ ان "حذام" امرأة عاشت وتسيدت في الجاهلية وكانت مثالاً صاعقاً ومدهشاً في حدة البصر وصدق الخبر لدرجة أن شاعراً قال فيها:
إذا قالت حذام فصدقوها ::: فأن القول ما قالت حذام
وقالوا فيها أيضاً "أبصر من حذام،" وحذام-الشاعرة هي تتماهى وتتداخل في صفاتها مع زرقاء اليمامة ، ولقول التاريخ حتى يستقيم المعنى والمغزى والدلالات، أن ما أشهر "حذام" قصتها حين بيّت جيشٌ من أعداءِ قبيلة حذام النية على مهاجمتهم بالخيل والإبل، وأرادوا التمويه على القبيلة فاستخدموا أفرع الشجر حاملينها، وقد أبصرتهم حُذام فأسرعت تُحَذِر القوم فجافوها والنتيجة الهزيمة الحتمية لعدم تصديقهم كلامها.
وفي خضم هذا البوح الشعوري الشاعري الذي يجسد ملامح المشاعر المشتعلة حباً وولعاً وهياماً بالوطن وترابه ونهره وجوّه، وهو ما يدل على أداء جيد في تنفيس الطاقة الشعورية الوطنية والمنطوية على نوستالجيا متفاعلة تلهمها الذات الشاعرة للنص في صورة حنين متأجج ومعذب للوطن ومدنه وقراه، وكما يبوح النص مراراً بصيغة الأنا إلا أنها الأنا الجمعية التي تتكلم باسم كل أبناء الوطن ممن اكتووا بنار الظلم والطغيان والقهر والعذابات والموت، ولذا:

نبكي العراق مآثرا ومفاخرا

لأن أعداء العراق – من الروم والأعجام - ممن تجرأوا على اغتيال طقوسه الساحرة الآتية من عبق التراث والتاريخ والعقيدة والحضارة والعالمية "قد شوهوه." وهو ما لا تنساه الشاعرة لترسمه بأحرف من ماء دمها الذي خضب كل بقعة وبؤرة في بر الوطن وشجره ونهره وجوّه!
وكأن البكاء الصاعد بدموعه من باطن الشعب المغلوب على أمره والرازح تحت نير الاحتلال وبطش عملائه يمثل حال قصوى للدفاع عن تأزم الأنا الإنسانية التي لونها الانتماء بالدم وحده.
ولا تنسى الشاعرة أن تستحضر قامة بطولية وفارسة كتبت في سفر التاريخ تاريخاً وحضارةً ونديةً وبطولةً وصمود في وجه البغاة الطغاة من "الروم والعجم:"

قد غاب عنه الفارس الضرغام

لذا يبقى فعل البكاء علامة فارقة في علاقة الشاعرة بالحاضر مما اعترى العراق الوطن المجروح المكبوت والسليب:
نبكي العراق وقد غدا من بعده

وتنتقل بنا الشاعرة في خضم بوحها المتصاعد والمتسع إلى "دار هدله" بكل ما تنطوي عليها الصورة هنا ودلالاتها الوطنية والقومية والتاريخية والأسطورية، وبما يعمق من حالة النوستالجيا المتأججة في دم الشاعرة ومن يتماهى معها ويتوحد في همها وإرثها من المشاعر الفياضة بخصيب الانتماء والولاء للوطن ولا شئ غير الوطن:

يا دار هدله بالشتات ألا الطـُمي

وهنا لابد من التنويه المعلوماتي لرمز "هدله" كمعادل موضوعي تتماهى معه وفيه الشاعرة كي تبوح اللحظة الشعورية والشاعرية بكل ما يعتمل في خبايا الأنا الوطنية والتي يلتهب القلب فيها بمشاعر الوطن وناسه الطيبين الشرفاء والضحايا، ففي "هدله"، التي في طيف العراق وطقوسه وجغرافيته، كما تذكر القصص هبط آدم "عليه السلام" وحواء ... وقد يكون هذا سبب حب حواء العراق والإنسانة "هدله" لبلدها أكثر من باقي نساء العالم بجمعه.. وارتباطها الروحي والتاريخي والأسطوري به... فالعراق بيتها الأوحد والأول وقبلتها المجيدة رغم أنف الحاقدين والكارهين والمغتصبين لكل كينونتها، وحديقتها الغنّاء وإن يبست أغصان الشجر فيها ذات مرحلة تتألم فيه مع ناسها.

ثم تتواصل الشاعرة مع العراق "الرفات" لتمنحه من دمها الوصية الخالدة والانتماء العقدي والروحي والمقدس: إن الهديل على الرفات حرام

و تخاطب الشاعرة "هدله" بما تحمله من متاع الخصب والديمومة والمقاومة والتاريخ والصمود والتحدي، فتقول شامخةً وبصوت شاعري محموم وحميمي:

يا دار هدله بالنواة ألا ارجمي
عقمت نخيلك أجهضت أكمام

وبعد أن تفضح الشاعرة زيف المحتل وعملائه وكذب الخائنين والخائبين تصر أن تقول ما لديها مباشرة بدون تكلف أو غموض أو إبهام، لتخاطب ذاتها في "هدله:"

يا دار هدله بالرماد تزيني
ناديت هدله والعراق مناحة
ودموع دجلة والفرات سجام

وفي هذا كله دعوة صريحة لرفض الظلم وصناعه وتجاره، رفضاً لمزيد ذبح بالوطن وتقسيمه إرباً تتشظى، وكأنها تحلم بفارس مغوار يـأتي من عبق التاريخ ومن رحم الأرض كي يخلصها وناسها من دنس المحتل والغاصب والمرتزق ويطهرها من جرحها النازف عبر الزمان وفي المكان الذي يولد فيه الرجال الرجال.

اشتغل النص على لغة شاعرة ومجازية إلى حد كبير واستحضر من رحم التاريخ صوراً أسطورية لأمكنة ملأت التاريخ حضارة وعمارةً وفناً، ولشخوص كبيرة سمت في سماء العراق الوطن ورسمت معالم حضارته وتاريخه منيعاً على المحتل وزمرته الحاقدة. وجسدت تراكيبه لوحة الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا في النص الذي ترجم مشاعر الأنا الوطنية والإنسانية بكل ما تحمله من جراحات وعذابات وحنين ومشاعر تفيض بالألم والأمل.
__________________
الْحَمــــد لِلَّه رَب الْعَالَمِيــن
...
دگعد ياعُراق شِبيكـ
مُو انْتهَ الِلي على الكلْفات ينخُونكْ
رد مع اقتباس