دور السـينما في بغداد الستينيات
رفضت حبيبتي أن تنطق بلغة غير لغتها العربية فضلت بغداد السـكوت وقلبها يعتصره الألم. الأفلام العربية ممنوعة.. سـينما الحمراء بانتظار معاول الهدم لتتحول إلى جزء من البنك المركزي. هكذا ببسـاطة، نهدم تاريخاً عريقاً بجرة قلم وننسـى أن دار سـينما واحدة تسـاوي ألف بناية عادية.
سـينما الوطني تحولت إلى الكلام باللغة الروسـية وكذلك الزوراء والسـندباد. دور الدرجة الثانية أخذت تبحث عن أي شـريط سـينمائي لعرضه على شـاشـاتها.
كان الحزن قد أصبح رفيقاً دائماً ولكنه حزن غاضب، متمرد. كان جيلنا يحاول أن يسـتغل أية فرصة للتعبير عما في داخله.. وأذكر أن عرض فيلم عربي (لبناني) وسـط قرار المنع تحول إلى مظاهرة صامتة ضد السـلطة. فقد أسـتمر عرض الفيلم أكثر من عشـرة أسـابيع (رقم قياسـي في ذلك الوقت) وشـاهده جمهور كبير، حتى أن كثير من رواد الفيلم الأجنبي شـاهدوا (مرحباً أيها الحب) لمجرد التشـجيع وفي الوقت نفسـه الاحتجاج على قرار المنع.
وفي وسـط الحصار، اسـتطاعت بعض الجمعيات، اسـتغلال الحفلات السـينمائية كمظهر من مظاهر المعارضة. وأذكر أن إحدى هذه الحفلات أقيمت في سـينما روكسـي وغنت فيها المطربة الشـجاعة مائدة نزهت إحدى أغانيها المشـهورة وقتها (أم الفسـتان الأحمر) وصرخ الجمهور يطالبها بتغيير كلمة الأحمر إلى الأخضر واسـتجابت الفنانة وعلت الهتافات.
ثم عرض علينا فيلم (قصة الصفحة الأولى) وهو من أفلام ريتا هيوارث الأخيرة وبعد فترة ألغي قرار المنع وعادت الأفلام العربية وبدأت سـينما روكسـي تعرض كل أسـبوع فيلماً، مهما كانت جودته وشـاركت سـينما الزوراء وسـينما الوطني في عرض بعضها عدا الأفلام الكبيرة مثل (شـارع الحب) فقد عرضته سـينما الخيام كأول فيلم عربي يعرض فيها.
الأفلام الأجنبية اسـتمرت في دور النصر والخيام وسـينما جديدة تم افتتاحها في بداية العقد مكان سـينما دار السـلام وبالرغم من صغرها نسـبياً، فقد أخذت مكاناً متميزاً بين دور الدرجة الأولى وكان السـبب الرئيسـي هو إدارتها فقد كان صاحبها المرحوم (إسـماعيل شـريف) وقد تحدثنا عن حبه للسـينما وذوقه الرفيع في مقال سـابق. وأصبحت الدار الجديدة مقراً لشـركات عدة مثل مترو وفوكس وكولومبيا ويونايتد ارتش.
وعلى مدى سـنوات خمس، شـاهد الجمهور البغدادي أجمل أفلام في جو مريح هادئ أفلام رائعة مثل (العظماء السـبعة، أريد أن أعيش، المركانزي، الشـقة، عازب في الجنة، عايدة، جسـر على الشـمس، امرأة مهووسـة وغيرها) واسـتمرت الخيام في عرض أفلام شـركات يونيفرسـال وبارامونت رورانر، أما النصر فقد كانت تشـارك غرناطة في أفلام مترو وفوكس وقد ابتدعت تقليداً جديداً عملت به بعد نجاحه دور السـينما الأخرى وهو (حفلة السـاعة الواحدة ظهر كل جمعة) واسـتطاع جمهور الشـباب وقتها من رؤية أجمل كلاسـيكيات شـركة مترو مثل (قصة مدينتين، العودة إلى الوطن، سـان فرانسـيسـكو وغيرها من الروائع) وبالرغم من الإقبال الكبير على دور السـينما فأن معدلات الدخول كانت تنخفض تدريجياً، فقد كان هذا النجاح الكبير حكراً على دور الدرجة الأولى فقط في الوقت نفسـه كانت خريطة المجتمع البغدادي تتغير.. التعليم أصبح مفتوحاً أمام الجميع.. الهجرة إلى المدينة جعلت بغداد من أكثر المدن كثافة.. المسـاحات الخالية الكبيرة أخذت تختفي ويحل محلها الدور والعمارات.
كان المفروض أن يقابل ذلك إقبال شـديد على السـينما أو القراءة.. الذي حدث هو العكس.. السـتينيات شـهدت الهجمة الشـرسـة لهرقل وماشـيسـت وأفلام الكابوي الإيطالية (سـباكتي ويسـترن) وفتح جيل عيونه على هذا النوع. لم يعد يتقبل الأفلام الجيدة، الاجتماعية أو الموسـيقية أو حتى الأفلام البوليسـية الجيدة وتوقفت سـينما روكسـي عن العمل وأغلقت أغلب الدور الصيفية أبوابها وأصبحت منطقة الباب الشـرقي من المناطق الشـعبية ومرة أخرى حاول (إسـماعيل شـريف) إحياء المنطقة بتجديد سـينما ديانا وأطلق عليها أسـم (الحمراء) وافتتحها بمجموعة جيدة من الأفلام العربية ولكن بعد شـهور عدة عادت السـينما إلى الدرجة الثانية. في تلك الأثناء كان شـارع السـعدون قد أصبح مقر دور الدرجة الأولى سـينما سـمير أميس أعادت إلى الأذهان بعض من فخامة وأناقة الدور القديمة وتم افتتاحها بفيلم جيد (بيكيت)، سـينما النصر القديمة التي تحولت إلى كباريه أعيد بنائها وأصبحت سـينما أطلس وتم افتتاحها بفيلم (الجسـدان) الهندي، لأن الأفلام الأجنبية كانت ممنوعة منذ نكسـة 1967 وكانت السـينما أشـبه بعلبة السـردين، سـينما بابل التي تشـبه أطلس تم افتتاحها وسـط تهليل كبير.
بعد قرار منع الأفلام الأمريكية بفترة من الوقت، بدأت بعض دور السـينما تعرض الإنتاج الأمريكي بطريقة التحايل فقد أخذ الموزعون في شـراء الأفلام من شـركات التوزيع الإنكليزية على أسـاس أنها إنتاج بريطاني ولكن العدد كان قليلاً ولا يسـد الحاجة وكانت الأفلام الهندية قد بدأت تسـيطر على جزء كبير من الجمهور وعلى عدد كبير من دور السـينما الخيام رفضت الفيلم الهندي ولكنها أصبحت مقراً للمصارعين ورعاة البقر الإيطاليين، فقط سـينما غرناطة اسـتمرت في عرض الأفلام الجديدة من الإنتاج البريطاني والفرنسـي وأحياناً الأمريكي ولكن كما قلنا كان ذوق الجمهور قد تغير بحيث أن فيلم عظيم مثل (رقصة الحي الغربي) عُرض بعد حذف عدة أغاني منه، ووسـط صفير المتفرجين وتعليقاتهم التافهة. أما (صوت الموسـيقى) و(جنوب الباسـفيك) فلم يصمد أكثر من أيام.
بعض الدور الصيفية اسـتمرت مثل سـينما أوبرا الصيفي التي تخصصت بعرض أفلام فريد الأطرش القديمة، وبنجاح كبير لعدة مواسـم صيفية والى نهاية السـتينيات ثم تحولت إلى كراج وأخيراً تم هدمها، نفس المصير لحق بسـينما الأحرار الصيفي التي كانت بجوار أوبرا وكذلك سـينما ديانا.
الشـرق الصيفي اسـتمرت في عرض الأفلام العربية القديمة، مثل أفلام عبد الوهاب وصباح وغيرها ثم تحولت إلى كراج وأخيراً بدأ هدمها أثناء كتابة هذا المقال.
في السـتينيات أيضاً تم افتتاح سـينما صغيرة باسـم (السـينما والمسـرح) وكانت بعيدة نسـبياً (قاعة الخلد) وعرضت فيها مجموعة جيدة من الأفلام القديمة والحديثة وكان روادها أغلبهم من محبي السـينما، ولكنها تحولت إلى مسـرح بعد ذلك.
بغداد تغيرت.. كنا نتمشـى في شـارع الرشـيد وعيوننا تبحث عن الأصدقاء الذين عاشـرناهم سـنين طويلة ولكن أغلبهم قد رحل.. سـوق الأمانة.. سـينما الحمراء.. دونة فلسـطين.. اسـطوانات كولومبيا.. الدلتا.. السـويس بوفيه.. أصبحت مجرد بار عادي من الدرجة الثانية.. أبكار مارتين اختفى.. بايونير وعمو الياس والنعمان كانوا يعيشـون سـنينهم الأخيرة.. كوروتيت أصبحت مجرد دكان ثم اختفت إلى الأبد. الكولدسـتار أغلق أبوابه ورحل أصحابه إلى اليونان ومعهم (جو). ثم عاد (جو) وفتح محلاً للمعجنات في باب مدينة روكسـي ومازال في مكانه.
زحفت التجاعيد على وجه الحبيبة وهي في سـن الشـباب. وانتهت السـتينيات ومدينتي الكبيرة فيها أربعة أو خمسـة دور سـينما درجة أولى وبضعة دور درجة ثانية.
غالب وشـاش
جريدة الجامعة- الأربعاء 27 حزيران- 3 تموز 1990
__________________
إشجم كًطاة البلفلاة من جوعها ترعى العشب
ودجاجة العمية الدهر تمّن لكًط ينطيها