دور السـينما في بغداد الخمسينيات
الخمسينيات… هذه السـنون الحلوة التي تعلمنا فيها حب بغداد… المدينة التي كانت تزهوا بنورها وتتيه بشـبابها الخالد… بغداد السـياب ونازك الملائكة والبياتي… بغداد الشـباب الوطني الذي بدأ يعي ويدرك ويقول رأيه… بغداد المكتبات المنتشـرة في كل مكان… بغداد الثقافة والفن، وجيل جديد بدأ يأخذ مكانه في المدارس المتوسـطة والثانوية وفي الكليات.
كنا جيلاً بدأ في اكتشـاف الثقافة العربية مبكراً ثم ألتفت إلى الثقافة الأجنبية. الجيل الذي كان من أهم سـماته الكتاب والسـينما فقد بقيت السـينما هي المتعة الرئيسـة عند البغداديين. وأصبحت في النصف الأول من الخمسـينيات مكاناً رئيسـاً للقاء.. لقاء الأصدقاء ولقاء الأحبة.
وأصبحت حفلات الماتينيه (4,00 عصراً) من كل يوم خميس في دور غازي وروكسـي موعداً تتجمع فيه نفس الوجوه تقريباً في موعد أسـبوعي أخذ شـكلاً ثابتاً وأنتقل بعد هدم سـينما غازي إلى الخيام في النصف الثاني من العقد.
أما يوم الاثنين فقد أصبح موعد تبديل البرنامج في كل دور السـينما تقريباً وكانت المقصورات في داري غازي وروكسـي محجوزة لبعض العوائل البغدادية بشـكل دائمي وتدفع أجورها في حالة حضورهم أو عدمه. وكان الناس في يوم الاثنين يتسـابقون للحصول على تذكرة دخول لأن أغلب الدور كانت تعلق لافتة (كامل العدد) بعد فتح الشـباك بوقت قليل بالرغم من كثرة عدد الدور. فقد شـهدت أعوام الخمسـينيات ازدياداً في دور سـينما الدرجة الأولى والثانية مثل دور (دنيا) في شـارع الأمين. و (مترو) الصيفي والشـتوي في منطقة الفضل و(الأعظمية) في رأس الحواش والأورفهلي (السـندباد حالياً) و (ركس) في مدينة روكسـي و (شـهرزاد الصيفي) في سـاحة الطيران و(شـهرزاد الشـتوي) في الباب الشـرقي و(برودواي) في منطقة المربعة.
وكانت الأفلام العربية تعيش أيامها الناجحة وتلقى إقبالاً كبيراً.
وشـهدت بداية العقد ظهور نجوم جدد أصبحت أفلامهم هي المفضلة لدى الجمهور مثل فاتن حمامة ونعيمة عاكف وهدى سـلطان وفريد شـوقي وماجدة وغيرهم واسـتمرت أفلام فريد الأطرش وأفلام ليلى مراد وأنور وجدي في المقدمة بإيراداتها الكبيرة. وكان اسـتيراد الأفلام يتم عن طريق الأفراد من أشـهر مسـتوردي الأفلام والمرحومان إسـماعيل شـريف وحبيب الملاك.. وكانا يتنافسـان في شـراء الأفلام من مصر وكانا يحبان السـينما حباً كبيراً وقد حول الملاك سـينما النجوم إلى دار لعرض الأفلام العربية وخصوصاً أفلام فريد الأطرش التي حققت ثروة كبيرة للموزع قبل (آخر كدبة) و(ما تقولش لحد) و(لحن حبي) وأفلام الصغيرة فيروز التي حضرت أخواتها نيلي وميرفت عرض فيلم (الحرمان) وكان ذلك تقليداً جميلاً متبعاً في تلك السـنين وقد شـاهد الجمهور محمد فوزي ومديحة يسـري وزوزو نبيل وسـراج منير والكحلاوي ونعيمة عاكف وغيرهم في الحفلات الأولى لعرض أفلامهم.
وشـاهدنا محمد أمين يغني وزوجته هدى شـمس الدين ترقص في حفلات فيلم (الحب بهدلة) و(تحية كاريوكا) مع فرقتها كذلك.
أما الأفلام الأجنبية فقد اختصت بها دور السـينما في الباب الشـرقي وأصبحت كل واحدة منها مقراً لأفلام شـركة أو أكثر من شـركات السـينما الأمريكية، وكان جيلنا يلهث وراء دور الدرجة الثانية أيضاً ليشـاهد الأفلام المعادة التي يشـاهدها من قبل وأذكر أننا شـاهدنا فيلم (كيلدا) مرات عديدة عند إعادة عرضه في سـينما الرافدين الصيفي وكذلك أفلام (رمل ودم) و(نسـاء صغيرات) و(لم تعد طفلاً) وغيرها.
وكنا نشـتري المجلات الفنية مثل (البكتشـرشـو) و (البكتشـركوار) و( الفوتوبلاي) و(الكواكب) و(الفن) وغيرها.
وعرفت أعوام الخمسـينيات نجوماً جدداً مثل (توني كرتس) و(روك هدسـون وديبي رينولدز واليزابيث تايلور) وغيرهم. وكان الجمهور البغدادي وفياً في حبه فقد اسـتمرت أفلام (كلارك كيبل) مثلاً، تدر إيرادات كبيرة بالرغم من فشـل أغلبها في أمريكا وأوربا.
ومن أجمل ذكريات النصف الأول من الخمسـينيات كان أسـبوع مهرجان أفلام شـركة مترو الذي أقيم في دور روكسـي الشـتوي والصيفي وركس وعرض فيه سـبعة أفلام جديدة من أشـهر أفلام الشـركة ثلاث قصص غرامية (غرام الأميرة، مايو قطعة واحدة، انتقام اللص، الحب المزيف، هروب في الصحراءو عشـاق الوادي). في تلك السـنين تعرف الجمهور على الإنتاج الإيطالي الذي بدأ بالنجاح السـاحق لفيلم سـلفانا مانكانو (الرز المر) ثم (أنا) بعدها اكتسـحت أفلام الميلودراما الإيطالية السـوق وتخصصت سـينما يرودواي بعرضها وعرف جمهورنا أميديو نازاري وايفون سـانسـون وأنتونيلا لوالدي.
وحظيت أفلام مثل (أبن حرام) و(سـامحيني) بشـهرة لم تكن تســحقها وكنا في ذلك الوقت نسـمع عن السـينما سـكوب ونراها في صور المجلات فقط كانت سـينما (غازي) قد اشـترت حقوق أفلام شـركة فوكس ولم نسـتطيع تركيب الشـاشـة الكبيرة إلا في سـنة 1955 ولكن سـينما روكسـي سـبقتها وشـاهد الجمهور أول فيلم سـكوب أنتجته شـركة مترو (فرسـان المائدة المسـتديرة).
ولكن جمهور مدينة البصرة شـاهد أفلام فوكس قبل بغداد بفترة طويلة بعد أن عرضت في سـينما صيفي كان من السـهل تحويل شـاشـاتها إلى السـينما سـكوب.
وجاءت السـنة الحزينة، ففي الشـهر التاسـع من سـنة 1955 ذهب الآلاف من الناس ليشـاهدوا سـينما (غازي) للمرة الأخيرة بعد أن تقرر هدمها وهدم دور التاج والنجوم لبناء جسـر الجمهورية - الملكة عالية سـابقاً - وكان يوم الاثنين هو آخر أيام سـينما (غازي) وقد أعادت فيه عرض أحد الأفلام القديمة (اندرو كلس والأسـد) وذهبت إلى الأبد.
وكان هدمها بداية النهاية للعصر الذهبي لدور السـينما في بغداد. فعلى الرغم من أن الأمور كانت تبدو كما هي خصوصاً بعد افتتاح سـينما الخيام بفيلم (هيلين الطروادية) فأن السـينما كانت تتغير في العالم كله وكذلك ذوق الجمهور.
وبدأت الأفلام الغنائية الاسـتعراضية العربية والأجنبية تفقد جمهورها، عدا أفلام فريد الأطرش والمطرب الجديد عبد الحليم حافظ، وكانت الأفلام الإيطالية التافهة قد خربت ذوق الأغلبية وبدأت أفلام (روك هدسـون) الميلودرامية و(توني كريتس) و(جيف شـاندلر) وغيرهم تحل محل أفلام (كرافورد) و(كيبل) و(سـتانويك) و(كوبر) ولكن الآلاف من الشـباب اسـتمروا في مشـاهدة أفلام (دوريس داي) والوجوه الجديدة (جاك ليمون) و(كيم نوفاك) وبقيت (ريتا هيورات) محتفظة بجمهور كبير وأصبح لجيمس دين أتباع حتى بعد موته وأصبحت (مارلين مونرو) نجمة الشـباك واسـتمرت مكتبة (كورونت) في بيع المجلات وبقيت محال بيع الأسـطوانات في شـارع الرشـيد وبجانب سـينما الخيام تقدم خدمة ممتازة لروادها وكانت المقهاة البرازيلية في الرشـيد وفي الأورفليه تعيش أحلى أيامها.
وعمو ألياس ترك دكانه الصغير بجانب سـينما الرشـيد ليفتتح مطعماً كبيراً ذا طراز جديد بالنسـبة للبغداديين بجانب سـينما برودواي وقدمت الأمريكان بوفيه (التوتي فروتي) و(الشـوكلامو) للجمهور العادي لأول مرة ولكن السـويس بوفيه والرومانس والبيكولو أمباسـي لم تسـتطع سـرقة الرواد القليلين من محل صغير جداً يقع أمام الباب الخلفي لمخزن (حسـو أخوان)، محل كان يبيع الكيك والمعجنات، تملكه عائلة يونانية وفيه خمس طاولات فقط أسـمه (الكولدسـتار) وكانت المدام صاحبة المحل وجو (يوسـف) العامل رحيمين بالعشـاق الصغار وبالحب البريء الذي يحاول الاختفاء عن الأعين.
وبدأت الأمور تتغير وهموم الناس تزداد والحياة تصبح أكثر تعقيداً وبدأ أثر ذلك على دور السـينما وبالفعل اختفت سـينما (ديانا) الصيفي وحلت محلها سـينما (أوبرا) الصيفي وسـينما (ميامي) الشـتوي واختفت سـينما (دنيا) الشـتوي وسـينما (الأمين) الصيفي بسـبب الشـارع الجديد وكذلك دار السـلام الصيفي.
لم نكن نعامل السـينما على أنها مجرد حجارة. لقد كانت بالنسـبة لنا حياةً وروحاً. لقد كانت مثل عزيز قوم ذل يحاول غني الحرب إذلاله، بنقوده الكثيرة.
وكان المرحوم (إسـماعيل شـريف) بحبه الكبير للسـينما قد أعاد افتتاح سـينما (ديانا) بأفلام شـركتي (بارامونت) و(يوناتيد أرسـس) التي طال تخزينها ولكن (ديانا) لم تصمد إلا لبضعة مواســم ثم عادت إلى عرض الأفلام الرديئة.
وقامت ثورة تموز 1958 ثم انحرفت عن طريقها ومنع عبد الكريم قاسـم الأفلام العربية وأصبحت السـينما مجرد مكان لقتل الوقت أو الهروب من التفكير والهموم.
في تلك الأيام هدمت إحدى أقدم وأجمل دور السـينما في بغداد.. سـينما (الحمراء) ولم يكن هناك داع لهدمها.
وفي الظاهر كانت معدلات الدخول للسـينما كبيرة جداً ولكن المراقب يسـتطيع أن يرى أن أغلب الدور أغلقت أبوابها أو أصبحت من الدرجة الثانية وأن نوعية الأفلام الناجحة جماهيرياً أصبحت مختلفة تماماً وتدل على أن جمهوراً جديداً قد بدأ يأخذ مكانه بدلاً من القديم، خصوصاً بعد أن بدأت الهجرة من الريف إلى المدينة بشـكل واسـع وبدأت بوادر السـتينات تلوح ومعها (هرقل) و(ماشـيسـتي) و(جيمس بوند)، وبغداد تئن تحت وطأة آلام كثيرة.
لقد شـاخت حبيبتي قبل الأوان.. من يسـتطيع أن يعيد أليها ابتسـامتها الحلوة ويرد لها بعضاً من إشـراقها..؟ عشـقي أنت، يا بغداد، في فرحك وحزنك. لقد عرفنا الحزن ونحن ما نزال في أول سـنوات الشـباب.
وإلى اللقاء مع السـتينات.
غالب وشـاش
جريدة العراق- الأربعاء 19/أيار/1993
__________________
إشجم كًطاة البلفلاة من جوعها ترعى العشب
ودجاجة العمية الدهر تمّن لكًط ينطيها