
04/02/2010, 10h42
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ وقف الشافعى وخيوط الصباح الأولى تنسج أنوارها الفضية فى سماء مكة بعد أن فرغ من حزم أمتعته القليلة وكتبه الكثيرة ,يعاين بنفسه الجياد والإبل التى ستحمله وأهله وأمتعته إلى مصر ,أخذ يستحث أولاده وامرأته مناديا عليهم ليضعوا حاجياتهم على متن المطايا قائلا .............
ــ هيا أسرعوا تأخرنا على الوالى ,قافلة والى مصر العباس بن موسى تنتظرنا كى نرحل فى صحبتهم ..
كان الخليفة المأمون قد عين واحدا من أبناء عمومته يدعى العباس بن موسى واليا على مصر من قبله ,بعد أن أمر بعزل واليها المطلب بن عبد الله وأوصاه أن يمر على الشافعى فى مكة قبل أن يرحل إلى مصر ليكون فى صحبة قافلته ,ومن حول الشافعى تجمع أخواله وباقى أقاربه وخاصة تلاميذه ومحبيه الذين أبوا أن يدعوه يغادر البلاد قبل أن يودعوه الوداع الأخير ,ظلوا يتوافدون على داره جماعة بعد أخرى , وأخيرا امتطى متن راحلته متقدما قافلته الصغيرة فى رحلة الهجرة من مكة البلد الأمين الطاهر إلى مصر الكنانة والأمن ..
أخذ ينظر عن يمينه إلى سهولها ووديانها وشعابها ويملى ناظريه من مساكنها وسفوحها وجبالها قبل أن يفارقها الفراق الأخير ,أجل إنه على يقين أنه الفراق الأخير . بدأ يردد مرة أخرى بيت الشعر الذى قاله لصاحبه المصرى .......
فوالله ما أدرى أللفوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر ..
ثم رجع البصر أمامه فى الأفق البعيد فرآه يطوى فى باطنه تاريخ أرض الكنانة البعيد والقريب وما حوت فى أحضانها من كنوز وأسرار ,وما سطرته القرون الماضيات فى سمائها من أحداث . أبصر فى أحضان الفسطاط حاضرة البلاد مسجدها العتيق أو تاج الجوامع كما يسميه المصريون ,أشهدته مخيلته ثمانين من الصحابة العظام تقدموا جيش الفاتحين ,على رأسهم عمرو بن العاص والزبير بن العوام وأبو ذر الغفارى وأبو الدرداء وعباده بن الصامت وسعد بن أبى وقاص ,يعملون معاولهم فى مكان قريب من الفسطاط الذى كان يقيم فيه قائدهم ليقيموا أول مسجد على أرض الكنانه ,تلك الأرض الطيبة التى شاء الله تعالى أن ينشر فيها وعلى أهلها من رحمته بعد طول ظلم ومعاناة على أيدى طغاة بيزنطه ,ويهئ لهم من أمرهم رشدا على أيدى الفاتحين العظام تحت لواء القائد الكبير عمرو بن العاص فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ..
دخلها عمرو بن العاص كما بشره من قبل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليخلص أهلها من أقوام طالما ساموهم سوء العذاب وسقوهم كؤوس المذلة والهوان منذ مئات من السنين جيلا بعد جيل من قبل ميلاد المسيح عليه السلام ,حتى دخلها المسلمون وردت مصر لأهلها بعد أن كانت ولاية رومانية ثم بيزنطية منذ انتصار أغسطس قيصر على ملكة البلاد كليوباترا وانتهاء دولة البطالسه فى موقعة أكتيوم قبل ميلاد المسيح بثلاثين عاما ..
وزاد اضطهاد الرومان الوثنيين لأهل مصر لما اعتنقوا المسيحيه ,حتى بعد أن اعتنق الرومان المسيحية بعد حوالى أربعمائة عام تجدد إيذاؤهم واضطهادهم للمصريين لخلاف جدلى بين الكنيسة المصريه فى الإسكندريه والكنيسة الرومانية البيزنطيه فى القسطنطينيه حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام. تعرض رموز المسيحية فى مصر من أساقفة وبطاركة إلى إضطهاد فاق كل اضطهاد . دفع البعض منهم للفرار فى الصحراء هربا من بطش المستعمر وطغيانه ,بهذا صار الطريق ممهدا لفتح مصر على يد العرب ..
تذكر الشافعى ما كان من أمر عمر بن الخطاب الذى كان مشفقا على جيش المسلمين من هذه المعركه لأنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول.... "إن مصر كنانة الله فى أرضه وفيها خير أجناد الأرض " . لهذا حاول كثيرا أن يثنى قائده عمرو بن العاص عن هذا الأمر دون جدوى . فلما رأى منه إصرارا وعزما أكيدا قال له ..... سر على بركة الله لكن إذا جاءك كتابا منى وأنت فى الطريق ولم تكن حينذاك فى أرض مصر فلا تدخلها وعد من فورك إلى هنا ,وإن جاءك وأنت داخل أرض مصر فامض على بركة الله ..
كان عمرو بن العاص قد عقد العزم على أن يدخل مصر مهما كلفه ذلك فإنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو يقول ..... "الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا فى سبيل الله" . سار القائد بجيش قوامه أربعة آلاف جندى من قيساريه بفلسطين حتى بلغ العريش ومنها إلى الفرما ثم بلبيس . كان يقضى على كل مقاومة يلقاها من جيوش البيزنطيين الذين كانوا يجثمون على أنفاس المصريين ويسومونهم سوء العذاب . حتى وصل إلى أم دنين شمال حصن بابليون على رأس دلتا النيل والباب المفتوح إلى الإسكندريه عاصمة مصر آنذاك . لقى فيها مقاومة عنيفة إلى أن تم أخيرا فتح الحصن الذى كان يحتمى به الرومان بعد حصار دام أربعة أشهر . إستسلم بعدها المقوقس على أن يدفع أهل مصر الجزية ويظلوا على دينهم وألا يبت فى أمر الرومان المحتلين إلا بعد أن يكتب إلى ملكهم هرقل فى روما ..
دارت المعارك مرة أخرى ضاريه بعد أن رفض هرقل أن يسرى على الرومان ما سرى على المصريين . وواجه عمرو بن العاص مقاومة عنيدة على أبواب الإسكندريه . تلك المدينة التى بهرته ذات يوم بكثرة أهلها ومالها وما فيها من عمارة وبنيان عندما دخلها قبل سنوات فى الجاهلية فى صحبة واحد من الرهبان من أهلها إلتقى به مصادفة فى بيت المقدس ..
أخيرا أمكن للفاتحين أن يفتحوا حصون الإسكندرية المنيعة بعد أن استسلم الرومان وتم إجلاؤهم عن البلاد بعد أن عقدت معاهدة الصلح والهدنة الثانية والأخيره بحامية الإسكندريه ,وفتحت مصر كلها أحضانها للعرب المنقذين لأهلها وفلذات أكبادها من بأس القوم الظالمين ..
لم يمض غير قرن من الزمان على فتح مصر حتى تغلغل الإسلام فى أنحاء البلاد شمالا وجنوبا وانتشرت المساجد والمنابر شيئا فشيئا مع انتشار الإسلام فى ربوعها جنبا إلى جنب الكنائس التى كانت مقامة من قديم وتلك التى تم تشييدها أيضا بعد الفتح الإسلامى . أفتى بجواز ذلك فقهاء مصر وعلى رأسهم فقيهها الأول الليث بن سعد قائلا فى ذلك ........... إن هذا لمن عمارة البلاد وإن عامة الكنائس لم تبن فى مصر إلا فى زمن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ..
لم يعرف أبدا أن المسلمون هدموا كنيسة ليبنوا مسجدا بل ساعدوهم على استرداد الكنائس والأديرة التى كانت بأيدى البيزنطيين . تركت لهم حرية العبادة والإحتفال بكافة الأعياد الدينيه وكانوا يشتركون معهم فى الصلاة من أجل أن يفيض نهر النيل بالماء إذا أصاب البلاد جدب أو قحط لقلة فيضانه ..
بلغ سكان مصر سنة دخول الشافعى إليها حوالى عشرين مليونا من البشر يسكنون ثمانين كورة أو مقاطعه بها أكثر من عشرة آلاف قرية يدير أمورها مصريون من أهلها ,وبدأت قبائل العرب الوافدة هجرة من أنحاء الجزيرة إلى مصر تنتشر فى سائر أنحاء البلاد ويندمج أفرادها مع أقباط مصر فى شتى الأقاليم يصاهرونهم ويتزوجون من نسائهم ,يعملون معهم فى الزراعة وفى شتى الصناعات التى كانت منتشرة فى البلاد آنذاك مثل صناعة المنسوجات والزجاج والخزف والورق والمعادن ,بعد أن كانوا فى سنوات الفتح الأولى قلة لا شغل لها إلا السياسة والحكم والحروب ولا تربطهم بأقباط مصر أية علاقات ولا يشاركونهم فى أعمالهم أو يزاحمونهم فيها ..
بذلك كثر المسلمون فى مصر من العرب ودخل كثير من أهل مصر دين الإسلام فصارت بهذا المزج مجتمعا جديدا يحكمه حاكم عربى مسلم بشريعة الإسلام السمحاء ,وأخذت اللغة العربية تسود فى البلاد شيئا فشيئا مكان اللغتين اليونانية والقبطية التى لم يكن المصريون يعرفون غيرها ,إلى أن صدر فى العام الخامس والثمانين للهجرة أمرا من الأمير عبد الله بن عبد الملك بن مروان باستعمال اللغة العربية فى جميع دواوين البلاد وصارت هى اللغة الرسمية لشعب مصر ..
@ ما كاد أبو بكر الحميدى ,تلميذ الشافعى يصل مصر وتطأ قدماه أرض الفسطاط ,حتى أخذ يجد السير بين خططها يسأل عن دار بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ,لما لقيه أخبره أن الشافعى فى طريقه إلى مصر وأنه قادم بعد أيام قليلة فى صحبة والى مصر الجديد. على الفور زف عبد الله بن عبد الحكم البشرى إلى أصحابه ولم ينم المصريون فى الفسطاط ليلتهم إلا وقد سرى النبأ العظيم فى أنحاء البلاد وهم يتناقلون فيما بينهم البشرى بقرب وصول عالم قريش محمد بن إدريس إلى بلادهم . علموا أنه سيقيم فى مصر بقية عمره لن يغادرها إلى بلد آخر ..
غمرتهم الفرحة كما غمرتهم من قبل فى القرن الماضى لما جاءتهم السيدة زينب بنت على كرم الله وجهه فى غرة شعبان للسنة الثانية والستين للهجره عقيب مذبحة كربلاء التى فاضت فيها الدماء الطاهرة أنهارا على رمال العراق . لم ينتظر المصريون دخولها مدينة الفسطاط فخرجوا يومها حفاة يستقبلونها عند ميناء بلبيس يتقدمهم والى مصر والفقهاء والقضاة وكبار القوم . كذلك فعلوا مع السيدة نفيسه حفيدة الإمام على لما قدمت إلى مصر كما سبق وحكى ذلك ابن عبد الحكم للشافعى وهو يزوره فى مكة قبل عامين ..
دخل الشافعى أرض مصر ليجد صاحبه عبد الله بن الحكم ومعه كوكبة من فقهاء مصر وشبابها من طلاب العلم ينتظرونه فى الحوف ,خارج حدود الفسطاط بالقرب من مدينة بلبيس على شاطئ خليج أمير المؤمنين ,تلك القناة التى أمر بحفرها عمر بن الخطاب وسميت بإسمه لتصل نهر النيل بالبحر الأحمر حتى تكون خط اتصال بحرى تجرى فيه السفائن بالخيرات بين مصر والحجاز ..
إستأذن الشافعى من والى مصر فى الذهاب مع صاحبه ومن معه ,وقبل أن يفارقه قال له الوالى .......................
ــ يا ابن إدريس ,أمامنا مهام صعبة فى الفترة القادمه ,علمت أن المصريين تمردوا على أمير المؤمنين المأمون وشغبوا على ولدى عبد الله الذى سبقنى إليهم نائبا عنى بعد أن قبض على المطلب بن عبد الله الوالى السابق وحبسه . وبالأمس جاءتنى الأنباء وأنا فى الطريق أن الجند ثاروا على ولدى عبد الله وأخرجوه من الفسطاط وأنهم أيضا أخرجوا واليهم السابق من محبسه وأعادوه واليا عليهم مرة ثانيه ..
ــ وما الذى تنوى فعله يا سيدى الوالى ؟.
ــ والله يا ابن العم لم أقرر بعد ,ليتك تشير على فأنا لا أدرى فى الحقيقة ما فعله ذلك الأحمق ,ليتنى ما جعلته يسبقنى ..
ــ إن أردت الرأى والمشوره على ما علمت منك الآن ,فإنى أنصح لك بعدم دخول الفسطاط هذه الأيام ,لتبق ههنا فى بلبيس بضعة أيام أنت ومن معك ريثما يستطلع رجالك جلية الأمر . نسأل الله العلى القدير أن يكشف الغمة وأن يجنب هذا البلد كل سوء ..
ــ نعم الرأى والمشورة يا ابن إدريس فليس معى من الحراس والجند ما يجعلنى أعيد السيطرة على مقاليد الأمور ,أو يمكننى من تدارك ما حدث وإخماد نيران الفتنه ..
قال ذلك ثم ودعه راجعا لصاحبه المصرى الذى قال له ...........
ــ هيا تعال أنت ومن معك ,دع هذه العير بما عليها من متاع ,سيتكفل رجالنا بأمرها ..
ــ ماذا تعنى هل سنكمل بقية رحلتنا سيرا على الأقدام ؟.
رد عبد الله بن عبد الحكم مداعبا وقد غلبه الضحك ............
ــ إن كان فى مقدورك أن تمشى هيا بنا . إنها مسافة قريبة جدا لا تزيد على مجرد خمسين ميلا فحسب ..
ــ أراك تمزح . كيف الوصول إذن إلى الفسطاط ما دمنا سنترك العير لمن يلحقنا بها من رجالك ؟.
أشار بيده إلى شاطئ خليج أمير المؤمنين قائلا وهو لا يزال على حاله من الضحك ..........
ــ أنظر يا صاحبى وراءك ,ماذا ترى ؟.
إبتسم الشافعى قائلا وهو ينظر سفينة ضخمة تقف بالقرب من الشاطئ ........
ــ تعنى أننا سنكمل رحلتنا فى هذه السفينة عبر مياه الخليج ؟.
ــ أجل ستكملون بقية الرحلة معنا فى هذه السفينه ..
ــ لكنا لم نعتد ركوب البحر من قبل ..
قاطعه ضاحكا .............
ــ لا تخف يا رجل إنها سفينة متينة صنعتها أيد مصرية مدربة فى جزيرة الروضه . كما أنه يقوم على أمرها ملاحون مهره . سوف ترسو بنا إن شاء الله على الشاطئ الشرقى للنيل أمام المسجد العتيق تماما ..
أسلم الشافعى أمره لله ونادى على أهله ثم توجهوا جميعا إلى الشاطئ وركبوا السفية فى حذر تاركين ركائبهم بما عليها من متاع للمصريين يلحقونهم بها . وعلى متن السفينة راح عبد الله بن عبد الحكم يحكى لصاحبه ويحدثه عن أحوال البلاد وما جرى فيها من أحداث فى الأيام الماضيه . عرف منه أن الوالى القادم معه من الحجاز لن يمكنه بالفعل دخول الفسطاط , لغضب المصريين مما فعله ولده عبد الله معهم واشتداده عليهم وظلمه لهم فى الفترة القصيرة التى أنابه فيها أبوه عنه فى مباشرة أمور البلاد ..
يتبع .. إن شاء الله ...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 19h22
|