198 هجـريـه .. إلـى أرض الكنانـه
@ أمضى عامين كاملين لم يهدأ خلالهما يوما واحدا وهو يجوب أنحاء العراق شمالا وجنوبا نشرا لمذهبه فى كل مدارسها ,وتعريفا لعلومه وفكره . قرر بعدها أن ينهى إقامته فى العراق ويحزم أمتعته عائدا إلى مكة مـرة أخرى ,لما لاحظ فى الأيام الأخيرة أن العلة التى تعانى منها امرأته حميده أخذت تستشرى فى جسدها بلا هوادة وتستحكم فى أعضائها يوما عن يوم . زادتها وهنا على وهن بينما هى صامدة صابرة لا تظهر شكواها لأحد ولا تبثها إلا إلى ربها فى صلواتها وهى قائمة فى خشوع بين يديه . كان يدرك بما لديه من خبرة فى أمور مداواة الأبدان ,حجم معاناتها وما تتحمله وحدها فى صمت من آلام وعذاب ..
حينئذ قرر الشافعى العودة للبلاد حتى إذا أدرك الموت امرأته لقيها وهى فى أحضان مكة بين الأهل والأحباب . وفى ليلة السفر ودع تلاميذه وأصحابه العراقيين . لم يمكنوه من مفارقتهم إلا على وعد منه أن يعود إليهم مرة أخرى فى القريب , وكان قد أسر لبعض المقربين منه عن سبب رحيله المفاجئ . لم تمض أيام حتى كانت مكة تفتح له ذراعيها مرة أخرى ,غير أنه بدا هذه المرة حزينا على غير عادته وهو يعلم أن امرأته التى شاركته رحلة الحياة بحلوها ومرها باتت أيامها معدودة فى هذه الدنيا الفانيه ..
صح ما توقعه وحسب حسابه من قبل أن هذا المرض الذى ابتليت به وهى فى ريعان الشباب ومقتبل العمر لن يمهلها طويلا . لم يكد يستقر بهم المقام فى مكة أياما قليلة حتى صحا ذات ليلة على صوتها وهى تناديه بصوت واه كأنه قادم من عالم آخر . لم تكن تبغى إلا وداعه قبل أن تفارق الدنيا . مرت لحظات قليلة قبل أن تنطق بضع كلمات تدمى الفؤاد ,بينما أنفاسها المتلاحقة تضطرب شهيقا وزفيرا . أوصته على أولادهما وشددت فى الرجاء له أن يتزوج جاريته دنانير ,ثم أسلمت الروح وهى مسجاة على فراشها كالملاك الطاهر البريء. استراح الجسد وهدأت آلامه بعد أن خاصمتها العافية بضع سنوات وصعدت روحها الطيبة إلى بارئها ورجعت نفسها المطمئنة إلى ربها راضية مرضيه ..
@ مرت بضعة أشهر على وفاتها ,سافر بعدها الشافعي إلى العراق مرة ثانية كما وعد أصحابه ليكمل ما بدأه . لم يمكث فيها هذه المرة إلا نصف العام ثم رجع إلى مكة مرة ثالثة بعد أن اطمأنت نفسه وشعر أنه أدى واجبه فى بغداد كما كان يتمنى ويرجو حيث أرسى فيها قواعد راسخة ثابته لأصول الأحكام واستنباط قواعد الشرع ..
وفى تلك الأثناء نفذ وصية امرأته الراحله وتزوج جاريته دنانير التى أمضت من عمرها سنوات طويلة تخدمه فى تفان وإخلاص . لم يجد خيرا منها بعد العثمانية زوجا له تشاركه ما بقي من سنوات عمره . كانت حقا كما قالت عنها امرأته الراحله أحرص الناس على راحته والقيام على مصالحه وأنها تعرف طباعه وميوله وما يوافق هواه وما لا يوافقه . أثبتت الأيام ذلك حتى أنها كانت إذا نظرت إليه أو شرع إليها بوجهه تعرف ما يريده منها دون أن يترجم ذلك إلى كلمات على لسانه ..
وفى يوم نادى عليها بعد أن بلغ الليل منتصفه أو كاد وهى راقدة فى فراشها على غير إرادتها إذعانا لأمره . كانت تفضل أن تبقى ساهرة إلى جواره ربما احتاج منها إلى شيء أثناء سهره وهو يلح عليها كى تريح جسدا أضناه طول السهاد وهى قائمة على خدمته . نادى عليها وطلب منها أن تجلس إلى جواره . سألته ...........
ــما بك يا أبا عبد الله ؟.
ــ لا شئ يا دنانير أود أن أتحدث معك قليلا . أين الأولاد ؟.
ــ كلهم نائمون ,هل أوقظهم ؟.
ــ لا . لا دعيهم فإنهم متعبون من عمل الأمس كما أنى أود أن أتحدث معك الآن على انفراد . سأخبرهم فيما بعد على ما عزمت عليه ..
ــ طوع أمرك ..
ــ دنانير ,لقد طوفت سنوات كثيرة فى عديد من بـلاد الإسلام . والحمد لله أن أعاننى على نشر كثير مما أنعم به على من علوم ورد شبه المبطلين وتصحيح الكثير من المعتقدات الخاطئة فى أحكام الشريعه . وبيان ما أبهم من أمور الدين ومواطن الزلل التى وقع فيها البعض ..
ــ أجل كل هذا صحيح . لكن ماذا تود أن تقول ؟.
ــ أردت أن أخبرك أنه آن للراحل أخيرا أن يحط عصاه ..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . أخيرا قررت ألا تغادر مكة بعد اليوم وأن تستقر فيها بعد طول ترحال ؟.
ــ لا يا دنانير ما قصدت هذا وإنما عنيت أمرا آخر . لقد شاءت الأقدار أن يكون مقامنا الأخير ومستقرنا فى غير هذا البلد ..
أجفلت قائلة وقد ظهر الدهش فى عينيها وعلى قسمات وجهها الأسمر الداكن :
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . هل سنرحل من مكة إلى الأبد ؟. إلى أيـن ؟.
ــ خارج جزيرة العرب ,إلى بلد اشتقت إليه كثيرا . منذ سنوات وأنا أتطلع إلى الرحيل إليه . بذا جرت المقادير يا ابنة صالح ..
زادت دهشتها فأكمل قائلا ............
ــ لا تعجبى يا دنانير فهذا أمر أشعر أنى أساق له سوقا . كأنما الأحداث الحاضرة وما تموج به البلاد من قلاقل وفتن تدفعنى إليه دفعا لتتحقق الرؤيا التى رأتها أمى قبل ثمانية وأربعين عاما . لقد ألمحت لى عليها مرات فى السنوات الماضيه لكنها وهى على فراش الموت حدثتنى بما لم تحدثنى به من قبل . سمعت منها ما لم أسمع بمثله منها يرحمها الله قالت : ………………
ــ هل تذكر يا ولدى , ما سبق أن قلته لك عن خبر تلك الرؤيا التى أريتها وأنا فى بلاد الشام ؟.
ــ أجل يا أم الشافعى حدثتنى منذ زمن عن كوكب شاهدته عيناك فى المنام وهو يخرج من النافذه . وبضع شظايا تخرج منه لتنزل فى العراق والشام واليمن ومكة والمدينه . ثم وهو يدور فى السماء إلى أن حط فى مصر ..
ــ إسمع يا ولدى تلك الرؤيا التى رأيتها ذات يوم وعبرها لى أبوك إدريس أراها مع الأيام وهى تتحقق أمام عينى . صورة واقعة حقيقية كما قال لى وأكد يومها على كلامه .. يرحم الله أباك يا ولدى ..
ــ ماذا تعنين يا أماه ؟.
ــ قال لى أبوك يا ولدى أن هذا الكوكب الذى رأيته ,هو .... هو .. أنت ؟.
ــ أنا يا أماه ؟.
قالها فى دهشة فأجابت ..........
ــ أجل يا ولدى , قال لى وأنت لا تزال جنينا فى أحشائى أنك أنت هذا الكوكب وأنك عالم قريش الذى يملأ الأرض علما . وقبل أن يفارق الدنيا أوصانى بك ,وأكد على أنك ستكون عالم قريش الذى أخبر عن مجيئه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . والحمد لله الذى أحيانى إلى هذا اليوم حتى شهدت رؤياى وهى تتحقق يوما بعد يوم أمام عينى وأراك وأنت ترحل من بلد إلى بلد تسمع الناس علوما ما سمعوا بها من قبل ولا طرقت آذانهم . لكن يا ولدى بقى ختام الرؤيا وأشعر أنى سألقى ربى قبل أن أراه يتحقق أمام عينى ..
ــ الرحيل إلى مصر ..... أليس كذلك يا أماه ؟.
ــ أجل يا ولدى إنها كنانة الله فى أرضه والبلد التى سوف تخلد علومك كما خلدت من قبل تراث أبناءها منذ آلاف السنين . ومنها ستنتشر إلى شتى بقاع الأرض على مر الزمان ..
ــ صدقت والله يا أماه . إنى أجد فى قلبى من الحنين إليها والشوق إلى ترابها وأهلها ما لم أكن أدري له سببا ولا تأويلا من قبل . إلى أن علمت منك اليوم حقيقة ذلك الشوق وسبب هذا الحنين الذى يجذبنى إلى ترابها جذبا ………………
سألته دنانير ..........
ــ لهذا إذن قررت الرحيل إلى مصر ؟.
ــ أجل يا دنانير لقد سبقنى إلى هناك منذ عشرة أيام تلميذى أبو بكر الحميدى . يحمل معه رسالة منى إلى صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم . أعرفه فيها بقدومنا إلى مصر حتى يكون فى استقبالنا ..
ــ ومتى الرحيل يا إمام ؟.
ــ بضعة أيام ونشد الرحال جميعا إلى هناك فى صحبة والى مصر العباس بن موسى الذى جاء إلى مكة منذ أيام ليصطحبنا معه . سننزل فى البداية إن شاء الله على أخوالى الأزد فى الفسطاط نقضى معهم وفى ضيافتهم أياما قليلة قبل أن يستقر بنا المقام فى دارنا ..
ــ أى دار تلك . ألنا دار فى مصر ؟.
ــ أجل سيكون لنا بإذن الله تعالى دار واسعة بالفسطاط وعد أن يعدها لنا صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم بالقرب من دور بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ..
@ أبت نفس الأب الطيب الذى تربى منذ نعومة أظفاره على فيض متجدد دائم من الحنان والمودة من أمه الراحله ,إلا أن يطلع أبناءه على ما نواه ,لم يشأ أن يباغتهم بقراره الذى اتخذه ,وهو يعلم يقينا أنه عسير على أمثالهم أن يفارقوا إلى الأبد بلدا تربوا فى أحضانه وعاشوا فى ربوعه ووديانه أيام طفولتهم وصباهم ,ولهم فى كل لمحة فيه ذكريات وأحلام ,ويرحلون إلى بلاد يسمعون بها ولا يعرفون فيها أحدا ولا يعلمون عنها شيئا ..
فى اليوم التالى جمع الشافعى أبناءه محمد وزينب وفاطمه ,أجلسهم أمامه وأخبرهم بما نواه وقرره كى يعدوا أنفسهم ويتهيأون لهذه الرحلة الطويلة الشاقة . أخذ يشرح لهم الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره ,كانت تدور حول رغبته فى نشر علومه وآرائه على الكافة ,وأن يكون تلاميذه المصريون هم حملة علومه وحفاظها ,ينقلونها للناس جيلا بعد جيل على مر الزمان ..
سأله محمد ..........
ــ كم سنمكث فى مصر يا أبت قبل أن نرجع إلى بلدنا وأهلنا ؟.
سكت الشافعى قليلا ثم قال ...............
ــ إعلم يا محمد أنه لا ينبل قرشى بمكة ولا يظهر أمره حتى يخرج منها ويهاجر إلى بلد آخر ..
عاد يسأل غير مصدق ............
ــ تعنى يا أبت أننا لن نرجع إلى مكة مرة أخرى ؟.
فوجئ ومعه شقيقتاه وهو يقول لهم ...............
ــ أجل لن نغادر مصر يا أبا عثمان إلى أى مكان آخر . إنها مقرنا الأخير ومحط رحالنا ومستودعنا إلى أن ألقى وجه ربى ..
رد متلعثما وقد أصابته المفاجأة بالدهشة والوجوم ..........
ــ يا أبت لو كان الأمر غربة لفترة محدودة ونرجع إلى بلدنا كما عودتنا من قبل لهان الأمر . أما أن نغادر بلادنا التى تعودنا العيش فى كنفها وفيها أهلنا وأصحابنا وإخواننا ونهاجر إلى بلد لا نعرف فيه أحدا ولا يعرفنا أحد , نبدأ فيه حياتنا من جديد ,فهذا أمر لا نستطيع تصوره ..
ــ على رسلك يا أبا عثمان ,يبدو أنك لا تعرف شيئا عن مصر أو المصريين ,ليس أحد أعرف بهم منى ولسوف ترى بنفسك . إن هى إلا أيام معدودات فى مصر وستعرف كل الناس ويعرفك أيضا كل الناس . ستشعر وأنت بينهم أنك بين أهلك لم تفارقهم . إنهم يا ولدى شعب ودود طيب ينسيك المقام معهم أنك فى دار غربة ..
@ فى تلك السنة و الشافعى يتخذ عدته للرحيل إلى مصر ,آل أمر خلافة المسلمين إلى عبد الله المأمون عقيب مقتل شقيقه الأمين ,معارك ضارية دارت بين الأخوين وأنصارهما فى قلب بغداد . وصلت إلى ذروتها فى وقت كان الشافعى يحزم فيه أمتعته استعدادا للعودة إلى مكه . لكن تتابع الأحداث كان أسرع منه وتولى المأمون زمام الأمور والشافعى لا يزال قابعا هو ومن معه فى قلب بغداد لا يستطيع الخروج منها وهى محاصرة بجيوش المأمون وأنصاره من الفرس قيادة الفضل بن سهل ,فى الوقت الذى كان صاحبه الفضل بن الربيع وزير الأمين وساعده الأيمن يقف على رأس المدافعين عنه ضد المأمون ..
كانت الخلافات قد بدأت عقب تولى الأمين خلافة المسلمين وإعلانه خلع أخيه المأمون من ولاية العهد ومبايعة ولده موسى وليا للعهد وخليفة للمسلمين من بعده كى تظل الخلافة فى عقبه . هذا الخلاف بين الأخوين ألقى بظلاله على أحوال البلاد عامة فسادتها حالة من الفوضى وعدم الإستقرار ,ولم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل موت الرشيد إلا بعد تولى الخليفة المأمون زمام الأمور ..
نال مصر نصيب من الفرقة والإنقسام بين الأخوين وتحزب أهلها إلى فريقين ,فريق مع هذا وآخر مع ذاك . غير أن الفريق الموالى للمأمون كان أكثر عددا وأقوى حتى أنهم أعلنوا عصيانهم وتمردهم . وصل بهم الأمر إلى إعلانهم خلع الأمين من الخلافة وإعلان المأمون أميرا للمؤمنين . قام المصريون بالثورة على واليه فى البلاد جابر بن الأشعث وطرده وتولية واحد من الموالين للمأمون يدعى عباد بن محمد . لم يكن قد مر إلا حوالى العام على تولى الأمين زمام أمور الخلافه ..
ولما استتب الأمر للمأمون وتفرق الجمعان قفل راجعا إلى بغداد من مقره الذى اتخذه مؤقتا لإدارة أمور الخلافة من مرو فى خراسان وسط أتباعه وأنصار دولته من الفرس . فور رجوعه بدأ يعيد ترتيب الأمور فى البلاد وفق ميوله واتجاهاته . من ذلك أنه أرسل إلى الشافعى قبل أن يهم بالرحيل إلى مكة بعد أن سمع بآرائه وما يملكه من جرأة فى الجدال وثبات فى الرأى وحداثة فى الفكر ,لم يزل يذكره وقت أن كان يختلف إلى شيخ المدينة مالك بن أنس مع شقيقه الأمين وهما فى سن الصبا ,ويذكر له محاوراته مع الشيخ ومواقفه مع تلاميذه ..
قال له الخليفة المأمون بعد فيض من الحفاوة والترحيب , كأن له به عهدا قديما .....
ــ أتعلم لم أرسلت إليك يا محمد ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ..
ــ علمت أن والدنا هارون الرشيد طيب الله ثراه عرض عليك أن تعمل فى قضاء بغداد ولم تقبل .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا أمير المؤمنين وقبل عذرى أيامها وأعفانى من هذا الشرف الكبير ..
ــ وأنا اليوم أعرض عليك مرة أخرى أن تكون قاضى القضاه ولك الخيار فى القبول أو الرفض . وإن كنت أتمنى أن تقبل . نحن فى حاجة لأمثالك يا محمد ..
ــ أشكرك يا أمير المؤمنين على ثقتك فى وأرجو قبول اعتذارى ..
ــ هل لى أن أسألك عن علة إبائك ورفضك ؟.
ــ لقد عزمت يا مولاى على الرحيل إلى مصر ,وآمل أن يجعل الله لى فيها مستقر ومستودع ..
ــ لم يا محمد ؟, أقصد لم اخترت مصر ؟.
ــ لا يزال أمامى الكثير أن أفعله لمواصلة رحلة العلم ,تلك الرحلة التى لم يأن لها أن تنتهى بعد . ومصر هى المكان الملائم لمثلى ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ فى مصر يا أمير المؤمنين أستطيع جنى ثمار ما حصلت من علوم . إنها الواحة التى أستطيع أن أحكم فيها كتبى وأعيد صياغتها ..
ــ متى ترحل إن شاء الله ؟.
ــ سأسافر إلى مكة أولا ثم أرحل منها إلى مصر ..
رد المأمون قائلا وهو يهم واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة ............
ــ على بركة الله ,ولا تغادر مكة حتى يأتيك رسولا من عندى ..
ــ هل لى أن أعرف السبب يا مولاى ؟.
ــ ستعرف , ستعرف حتما عندما يأتيك حاجبى ..
توقف برهة قبل أن يصافح الشافعى . كان المأمون لماحا فأردف قائلا بعد أن قرأ بفراسته كلاما على وجهه يتردد فى النطق به ............
ــ هل لك رغبة فى شئ يا محمد . أطلب ما تشاء وأنا آمر به فى التو والحين ..
لاحظ المأمون أنه لا يزال مترددا فاستحثه مؤكدا له أن طلبه مقضى كان ما كان , فقال فى حياء ..............
ــ لى مطلب واحد يا أمير المؤمنين وما أجرأنى عليه إلا معرفتى بما أنت عليه من حلم وميل إلى العفو ..
إبتسم المأمون فى مودة قائلا ............
ــ هى شفاعة إذن ؟. لمن تشفـع يا محمد ؟.
لاحظ تردده وحياءه من ذكر اسمه فأخذ يستحثه قائلا ...............
ــ هيا يا رجل , لا تضيع الفرصة ,قل ولا تتردد وإلا رجعت فى كلامى ..
ــ الفضل بن الربيع ..
نطق اسمه حذرا متوجسا ثم أردف قائلا على عجل بعد أن لاحظ وجوم الخليفة المأمون وتغير وجهه .............
ــ أعلم يا أمير المؤمنين أن جنايته عظيمة لكن ,أعظم منها كرمك وعفوك ..
إنفرجت أساريره قائلا ..............
ــ وأنا قد عفوت عنه يا محمد إكراما لخاطرك . إن كنت تعرف مكانه الذى يختبئ فيه بلغه ذلك ,وقل له يأتينى هنا وقد أعطيته الأمان ..
ــ الحقيقة يا أمير المؤمنين أنه جاءنى قبل أن يفر هاربا بعيدا عن العيون ورجانى أن أشفع له عندك ثم فارقنى دون أن أعرف له مكانا ..
ــ على أية حال إن جاءك مرة أخرى أو رأيته بلغه أنى قد عفوت عنه . والله يا محمد لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلى بالجرائم . سأصلى الآن ركعتين شكرا لله أن رزقنى العفو عنه ..
ــ شكرا لك يا مولاى أستودعك الله ………………
@ كان المأمون رجل علم شغوف بالقراءة والإطلاع وما يثير الفكر من قضايا مولع بقراءة ما صنفه الفلاسفة الإغريق فى كتبهم . لهذا أدنى منه جماعة من الفقهاء عرفوا بالمعتزله يرون إثبات العقائد وما يتعلق بها من قضايا بمقاييس العقل . يستخدمون فى كلامهم ومجادلاتهم لغة المنطق وأدواته وأساليب الفلاسفة وطرائقهم ..
وجرت المقادير بما جرت بالنسبة للشافعى من تولى المأمون خلافة المسلمين فى هذا الوقت تحديدا . كأنما كان مجيئه على قدر لتتحقق الرؤيا التى رأتها أم حبيبه قبل نصف قرن من الزمان . حتى يحط الكوكب الدرى فى مصر وتستقر سفينة العلوم وتضع شراعها بعد إبحار طويل على ضفاف نهر النيل العظيم ..
ولأن الله تعالى قد جعل لكل شئ سببا ,مكن المأمون من أمر البلاد ليكون ذلك دافعا للشافعى للرحيل بعيدا خارج جزيرة العرب إلى مصر . واحة العلماء وخبيئة العلوم والفنون منذ آلاف السنين ,بعد أن شعر بحسه المرهف وبصيرته النافذه أن نسمات من الهواء الفارسى الجاف القاسى سوف تهب على بغداد وجزيرة العرب فى ظل خلافة المأمون ,بما تحمله من هيمنة للفرس وما يعتنقونه من أفكار وفلسفات دخيلة على الإسلام وتشيعهم لآل البيت العلوى وما ينطوى عليه ذلك من إحياء للفرقة وإذكاء لنيرانها التى شاء الله تعالى أن تخبو قليلا فى السنوات الماضيه ..
أدرك الشافعى كذلك أن نجم دولة علماء المعتزله فى طريقه للبزوغ واللمعان وأن الساحة ستكون مرتعا خصبا وخاليا لهم ,بما عندهم من ولع بالجدل العقلى العقيم فى أصول العقيدة وأحكامها وكل ما هو خارج عن منطقة العقل . وهو لم يزل متطلعا لاستكمال رسالته التى وهب لها سنى عمره كلها وأن يعيد صياغة ما كتبه فى هدوء وطمأنينة وأمن ,لن يجده إلا فى ربوع وادى النيل الخالد وحناياه الدافئه ..
هذا هو ما عبر عنه وقاله لصديقه عبد الله بن عبد الحكم ذات ليلة بعد أيام قليلة من وصوله إلى مصر وهما يتبادلان حديثا ودودا حيث جمعهما قارب صغير يتهادى بين شاطيئ نيل مصر . ركباه بعد أن أديا صلاة العشاء فى المسجد العتيق متخذين طريقهما إلى الجيزة لزيارة واحد من شيوخ مصر وتلاميذ الشافعى إسمه الربيع الجيزى ..............
ــ أجل يا ابن عبد الحكم هذا هو ما دفعنى للإسراع بالمجئ إلى بلادكم وأن يكون مثواى الأخير فى تراب هذا البلد الطيب ..
ــ أطال الله بقاءك يا صديق العمر . لكأنى بك تسابق الزمـن وتصارع الأيام ؟.
ــ تلك هى الحقيقة يا أخى . أشعر والله أن ما تبقى لى من أجل لن يكون كافيا لأن أكمل رسالتى . أجل لا يزال أمامى الكثير ..
يتبع.. إن شاء الله ...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها