عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 23/09/2006, 23h38
adham006
Guest
رقم العضوية:
 
المشاركات: n/a
افتراضي مشاركة: عن الغناء الشعبي المعاصر

يا "ثورة" في خيالي..!!

لعله لم يخطئ من أسمي هذا الزمن.. بزمن شعبان عبدالرحيم، ولعله لم يخطئ أيضا من أسمي زمن أنور السادات بزمن أحمد عدوية، وزمن عبدالناصر بزمن أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب. أما زمن الملكية في مصر فقد كان زمن شكوكو..!!
لم يخطئ من قال ذلك فكل زمن يستدعي رجاله.. مطربين.. وموسيقيين وشعراء، بل ويستدعي زعيمه السياسي الذي يعبر عنه.
ولعل زعامة مصر لأمتها العربية لم تقتصر علي الزعامة السياسية فقط، بل كانت زعامة فنية وعلمية تشعبت ميادينها حتي شملت كل مظاهر الحياة، ومن يتسني له النظر في أحداث التاريخ المصري، حديثا وقديما سيري فيه أن زمن التردي والهبوط لم يكن يقتصر علي المجال السياسي وحده، بل كان يشمل مختلف مناحي الحياة، فنيا واقتصاديا وعلميا، كما أن زمن الصعود والرقي كان صعودا ورقيا في كل تلك المناحي الحياتية، فحين ظهر محمد علي علي سطح الحياة السياسية زعيما يحمل علي كاهله مشروعا للنهضة والرقي، ظهر معه علي الفور رفاعة الطهطاوي متجها بالصعود والرقي اتجاهات أخري في الصحافة والطباعة والخطابة والشعر والكتابة، ولم يلبث أن ظهر يعقوب صنوع وأبو خليل القباني وجورج أبيض والنديم ومحمد عبده والأفغاني والبارودي وغيرهم، ليواكبوا جميعا ثورة سياسية أفرزها زعيم بحجم أحمد عرابي الذي كان أول من نادي بالتمصير بعد أن غلب الطابع الأجنبي علي مناحي الحياة في مصر سياسيا واقتصاديا وفنيا، وكان يمكن لدعوة عرابي الوطنية أن تذهب أدراج الرياح، ما لم يواكبها علي الفور جهود أخري قام بها زعماء آخرون في مجالات مختلفة غير المجال الذي قاد فيه عرابي ثورته الوطنية في مجال السياسة، فظهر محمد عبده والأفغاني ليقودا ثورة في مجال الدين والفكر، وظهر النديم ليقودها ثورة في مجال الصحافة والخطابة، وظهر البارودي ليقود ثورة في الشعر فيحرره من الجمود الذي ران عليه لسنين طويلة، وظهر عبده الحامولي ليقود ثورته في الموسيقي، وظهرت ألمظ لتقود ثورة في الغناء، وشاعت دعوة التمصير لتعم مختلف نواحي الحياة في مصر، فتحررت الموسيقي من ربقة الارتام التركية، وتحرر الغناء من "الهنك والرنك"، وتحرر الفكر من بعض الدعوات السلفية التي تحكمت فيه لسنين طويلة، وتحرر الشعر العربي من التقليد الذي لازمه لقرون، فجاء شوقي وحافظ إبراهيم بعد أن كان الوحي قد انقطع عن الشعراء لزمن بعيد، ولم يعد هناك من شعر يروي غير ما تضمنته الكتب الصفراء.
لم يكن أحمد عرابي يدرك وهو يقف أمام الخديو توفيق ليطالبه بتمصير الجيش المصري، وتمصير قيادته، قائلا عبارته الشهيرة "لقد خلقنا الله أحرارا ولن نورث بعد اليوم". أنه يدعو للتحرر في كل شيء، وليس التحرر في المجال العسكري أو الوظيفي وحده، فلم تكن ثورة عرابي ثورة فئوية قام بها بعض الضباط من المصريين بهدف إنصافهم ورفع الظلم عنهم، كما توهم بعض المؤرخين خطأ، فلم يكن هؤلاء الضباط ليطالبوا بنصرة المصريين ورفع الظلم عنهم ما لم يشعروا في قرارة أنفسهم بأنهم جديرون بالحرية التي يطالبون بها، وأنهم أهل لتحمل المسئولية التي ستأتيهم بها، فقد أدركتهم الثقة في النفس بعد أن أدركوا الثقة في كونهم مصريين، فالمصريون ليسوا أقل من العناصر الأجنبية الأخري التي تتحكم فيهم وتتولي زمام أمورهم، فالوطنية شعور بالوطن وافتخار به، ولهذا فقد قام رجال آخرون من المصريين ليؤكدوا ذلك في مجالات مختلفة، فظهر النديم ليكون عرابي الصحافة والخطابة، وظهر محمد عبده ليكون عرابي الفكر والتنوير، وظهر الحامولي ليكون عرابي الموسيقي والغناء، وظهر في مجال المسرح أكثر من عرابي، وفي الشعر جاء البارودي الذي زامل عرابي في ثورته ضد الخديو، وحين فشلت الثورة السياسية، اتجه إلي الشعر ليقود في مجاله ثورة أخري ناجحة لم تلبث أن أفرزت أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهما.
وهكذا لو لم يكن عرابي ما كان البارودي والنديم ومحمد عبده والحامولي وغيرهم، ولولا محمد علي ما كان الطهطاوي ومحمد مظهر وغيرهما، ولولا سعد زغلول ما كان سيد درويش والحكيم وطلعت حرب ثم عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم.
لقد جاء سعد زغلول مناديا بالاستقلال التام عن إنجلترا سياسيا، فإذا بالموسيقار سيد درويش يلحقه مناديا بالاستقلال التام موسيقيا عن تركيا، وطلعت حرب لينادي بالاستقلال التام عن الغرب اقتصاديا، ثم جاء الحكيم لينادي بالاستقلال التام عن أوروبا أدبيا.
لم يكن سعد زغلول يدري وهو يقود ثورة في مجال السياسة أنه يدعو لثورات أخري في مجالات عدة، فجاء ثوار آخرون في الموسيقي والاقتصاد والفن والأدب، ليواكبوا ثورة سعد زغلول السياسية، فظهرت النزعة الوطنية وسادت كل المجالات الأخري موسيقيا، واقتصاديا وفنيا وأدبيا، فظهرت أشكال جديدة في الأدب والموسيقي والشعر والرسم والفن، ولم يكن محمود مختار سوي سعد زغلول آخر في مجال النحت.
وحين قامت الثورة المصرية كانت أم كلثوم مجرد مطربة تتلمس طريقها نحو القمة، التي كان ينازعها عليها مطربات أخريات مثل فتحية أحمد ونجاة علي وليلي مراد، وغيرهن، ولكنها قفزت إلي القمة لتجلس علي عرش الغناء وحيدة، بعد أن التحقت بقطار الثورة وأصبحت صوتها الذي يجلجل شدوا في سماء العالم، ولم يدرك غيرها ما أدركته هي في حينه، فلم يلحقوا بنفس القطار الذي سيقف بهم عند قمة الهرم غناء وشدوا، فأصبحت مطربة الشعب بعد أن نصبها الشعب مطربته، ومنحها ألقابها التي حازت عليها أوسمة ونياشين.
وحين تقاعس عبدالوهاب عن اللحاق بقطار الثورة، استدعت المرحلة مطربها، فجاء عبدالحليم حافظ ليكون مطرب الثورة وصوتها، والمعبر عن جيلها غناء، مواكبا لثورة سياسية قادها شاب آخر اسمه جمال عبدالناصر، فكان عبدالحليم حافظ هو "ناصر" الغناء العربي، وأصبحت الأغنية "العاطفية" هي المسمي الجديد للثورة الموسيقية، وأصبح "حليم" هو زعيمها الذي لا ينازعه فيها زعيم آخر، وكما ظهر زعماء سياسيون في مختلف البلدان العربية، محاولين تقليد عبدالناصر حليم والتأسي به غناء، ولكن ظل هناك عبدالحليم واحد أحد، كما ظل هناك "ناصر" واحد.
لقد استدعت المرحلة مطربها، وموسيقاها، وفنها، وشعرها، ومن كان منهم موجودا قبل الثورة، كان عليه أن يصبح شيئا آخر بعد الثورة لكي يستمر، فصبغتهم الثورة بصبغتها، فأصبحوا ثوريين في زمن لا يعترف فيه أحد بغيرهم، فمطرب بغير ثورة في الغناء، وموسيقي بغير ثورة في الموسيقي، وشاعر بغير ثورة في الشعر، وأي فنان بغير ثورة في الفن لا يمكنه الصمود أمام زحف الثوريين من خلفه وأمامه في اتجاه التغيير رقيا وصعودا.
لقد كانت هناك أصوات كثيرة لها من القوة والجمال ما كان يؤهلها للبقاء والاستمرر لولا أنها لم تكن ثورية، ولم تدركها الثورة، فوقفت مكانها لتجرفها أصوات أخري ـ ربما كانت أقل قوة ـ ولكنها كانت أكثر ثورية، وطلبا للتغيير والتطور ـ فتوارت تلك الأصوات رغم جمالها لأنها لم تمسك بمفاتيح التطور، ولم تلحق بقطار الثورة الذي كان يشق عباب التخلف والجمود متجها نحو التقدم والرقي والصعود.
هذا هو الفرق بين عبدالحليم حافظ وأي مطرب آخر ظهر قبله أو بعده، ولولا الثورة لكان عبدالحليم حافظ مجرد مطرب يقلد عبدالوهاب في أحد الكابريهات التي يعج بها شارع الملاهي في القاهرة، فالثورة التي أدركت عبدالحليم وأدركها هي التي جعلته مطربها وجعلتها ثورته، فأصبح الآخرون يقلدونه بعد أن كان مقضيا عليه ـ بدونها ـ بتقليد الآخرين، والسير في ركابهم.
ولقد مات عبدالحليم حافظ في وقت كان يجب أن يموت فيه، كما ظهر في وقت كان يجب أن يظهر فيه، لقد ظهر في بداية الثورة، وانتهي بنهايتها، وحين لم يجد رسالته التي تذر نفسه لها، وهي رسالة الثورة، مات عبدالحليم بموتها، وهكذا ماتت أم كلثوم أيضا، حين لم تجد ما تعبر عنه، وما يحمله صوتها لتوصيله إلي من يستحق هذا الصوت العبقري، فقد كانت مطربة عبقرية، لا تعيش إلا في عصر عبقري بمصر العبقريات، وحين انتهي ذلك العصر وأحست هي بنهايته، أحست بنهايتها فماتت!!
وماذا.. بعد؟!
جاء أحمد عدوية، وكتكوت الأمير، وغيرهما من مطربي ذلك الزمن ليعبروا عنه غناء، يساوي بالتمام والكمال من يعبر عنه سياسيا، فلم يكن مطلوبا، ولا متصورا أن يعيش عبدالحليم حافظ ليغني "حبة فوق وحبة تحت". كما لم يكن متصورا أن تبقي أم كلثوم لتغني "الطشت قال لي". فجاءت من تستطيع أن تغني ذلك، وجاء من يقدر علي الغناء مساويا لمن يقدر علي التعبير عن المرحلة سياسيا، فكان الغناء مساويا للسياسة ومعبرا عنها.
ثم جاء شعبان عبدالرحيم ليكون عنوانا لمرحلة سياسية، فهو ليس مجرد مطرب، بل هو زعيم سياسي، يعبر عن المرحلة غناء، وبقدر عطائه في الغناء يمكن قياس المرحلة سياسيا، فـ"شعبان عبدالرحيم" هو ظاهرة سياسية، قبل أن تكون ظاهرة غنائية، والذين ينظرون إليه علي أنه مجرد مطرب، يرتكبون خطأ لا يقل عن الخطأ الذي يعبر هو عنه غناء، فقد جاء شعبان في موعده بالتمام والكمال، كما جاء عبدالحليم في موعده بالتمام والكمال، والذي يخطئ شعبان هو الخاطئ، فالخطأ ليس خطأ شعبان أو غيره من مطربي هذه المرحلة، بل هو خطأنا نحن، خطأ المرحلة، وخطأ الزمان، وخطأ الظروف، الذي جاء هو ليعبر عنها، فهو مجرد نتيجة وثمرة، والعيب غالبا يكون في الجذر والساق التي يخرج منها وليس في الثمرة، التي تحمل في غضونها ما يمنحه لها الجذر والساق.
ارحموا شعبان عبدالرحيم ولا تلاحقوه بلعناتكم، بل فتشوا عن الأسباب والظروف التي منحته الفرصة ليكون مطربنا الأشهر، والأغني، والأكثر طلبا، ولكي تصلوا إلي حقيقة شعبان عبدالرحيم اسألوا أنفسكم: ماذا لو عاد عبدالحليم حافظ الآن، وماذا لو عادت أم كلثوم؟.. هل ستعني أو يغني، وماذا سيغني ولمن سيغني، وهل سيكون مطلوبا غناؤه كما هو مطلوب غناء شعبان عبدالرحيم أو غيره من مطربي هذا الزمان؟
لو عاد عبدالحليم حافظ الآن إما سيغني بطريقة شعبان عبدالرحيم فيتهم بتقليده، وينصرف الناس عنه إلي الأصل: إلي شعبان عبدالرحيم، وإما سيكف عن الغناء، فلن يشعر بعودته أحد وسيعود إلي قبره كما جاء منه، فـ"عبدالحليم حافظ" يحتاج إلي مناخ ثوري.. يشد الناس إلي أعلي صعودا، أما شعبان عبدالرحيم فيحتاج إلي مناخ محبط، يشد الناس إلي أسفل، وهذا هو مناخه المناسب، وجوه المطلوب، فيصبح شعبان هو المطلوب الآن، أما عبدالحليم حافظ فربما سنحتاج إليه في وقت لاحق.. وقت الثورة الذي جاءنا مرة، ولا نعرف متي سيأتينا ثانية؟!
http://www.al-araby.com/articles/872...0872_opn08.htm
رد مع اقتباس